الضفة الغربية درع القدس.. عن إستراتيجية المواجهة والتحرير
الضفة الغربية بكل ما فيها اليوم هي عمق مواجهة مشروع الاحتلال وصلبه، فأهلها لا يغيبون عن معارك القدس أبداً، وهم لطالما كانوا، ولا يزالون، الدرع الحامي للقدس، الذي يحفظ هويتها ومستقبلها.
جرت العادة كل عام أن تتميز شعارات يوم القدس العالمي بما تستحقه المرحلة السياسية وبما يخدم المشهد العام الفلسطيني، لذا وقع الاختيار على "الضفة درع القدس" ليكون الشعار الموحد لهذا العام، تقديراً لبأس أبطال الضفة الغربية، ولما قدّموه خلال الأشهر والسنوات الماضية من تضحيات ومقاومة في مسار المعركة المتواصلة مع الاحتلال.
رسمت الضفة الغربية مشهداً بارزاً في مسار القضية الفلسطينية، لا سيما خلال السنوات الأخيرة، بعدما أثبتت نفسها ندّاً للاحتلال الذي يمتلك جيشه أقوى الأسلحة في العالم، وذلك من خلال رسمها لمعادلة "ما لا يأتي بالقوة يأتي بمزيد من القوة".
الضفة الغربية بكل ما فيها اليوم هي عمق مواجهة مشروع الاحتلال وصلبه، فأهلها لا يغيبون عن معارك القدس أبداً، وهم لطالما كانوا، ولا يزالون، الدرع الحامي للقدس، الذي يحفظ هويتها ومستقبلها.
عمليات تتطور ضمن نمطٍ ثابت
لفهم خطورة العمل المقاوم الذي تحتضنه الضفة بالنسبة للاحتلال، لا بدّ من العودة إلى اجتماع "شرم الشيخ" الأمني الذي استضافته مصر قبل أيام، لبحث الوضع في فلسطين المحتلة، وذلك بمشاركة الولايات المتحدة ومصر والأردن. قبل المشاركة في الاجتماع، أعدّت السلطة الفلسطينية تقارير حول قدراتها الأمنية على إعادة ضبط الأوضاع في الضفة الغربية، بالإضافة إلى مجموعة خطوات اتّخذتها لكبح حالة المقاومة في مدن شمال الضفة.
مخرجات الاجتماع يمكن ترجمتها بضرورة العمل على تعزيز قنوات التواصل بين السلطة الفلسطينية وحكومة بنيامين نتنياهو، بما يهدف إلى تلبية المتطلّبات الأمنية للاحتلال، وتحديداً لجهة اضطلاع السلطة الفلسطينية بمهمّة مواجهة حالة المقاومة في الضفة الغربية.
فحكومة الاحتلال طلبت المساعدة لمنع تدهور الأوضاع الأمنية في الضفة الغربية، نتيجة خشيتها من ارتفاع مستوى التصعيد على نحوٍ قد يمتد إلى قطاع غزة ويفجّر مواجهةً واسعة في المنطقة، ينضمّ إليها فلسطينيو الأراضي المحتلة 1948، والجبهة الشمالية، الأمر الذي من شأنه زيادة التوتر والوضع المأزوم الذي يعيشه الاحتلال.
من الواضح أنّ عمليات المقاومة الشعبية والمسلّحة في الضفة الغربية أصبحت نمطاً ثابتاً لا يفتأ يتكرّس، بات يشكّل قلقاً كبيراً للاحتلال الإسرائيلي، فالضفة لا تكاد تهدأ حتى تشتعل من جديد، وفق ما تُظهره وتيرة العمليات في الأشهر الأخيرة.
وشهدت أعمال المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية والقدس المحتلتين في الشهر الماضي، استمراراً في الوتيرة وتنوّعاً في الأداء، ما بين عمليات إطلاق نار، واشتباكات مسلحة، وعمليات دهس وطعن مؤثرة، أدّت إلى قتلى وجرحى إسرائيليين، وذلك بحسب مركز المعلومات الفلسطيني "معطى".
ورصد تقرير المركز ألفاً و55 عملاً مقاوماً، بينها 143 عملية إطلاق نار واشتباك مسلح مع قوات الاحتلال، نفّذت 54 عملية منها في جنين و46 في نابلس، شمالي الضفة الغربية. كما شهدت الضفة الغربية 394 مواجهة مباشرة مع الاحتلال، ومئات عمليات إلقاء الحجارة، و21 عملية إلقاء زجاجات حارقة، و119 عملية تصدٍ لاعتداءات المستوطنين مختلف أنحاء الضفة.
هذا الأمر إن دلّل على شيء، فهو يؤشر على أنّ شباب الضفة المقاوم يرسم معادلةً جديدة تقلب حسابات العدو، وتفضح جيشه الذي ينكسر في شوارع مدن الضفة ومخيماتها على يدِ مقاوميها وكتائبها المسلحة، الأمر الذي يجعل مشهد تحرير القدس أقرب.
ماذا يواجه الاحتلال في الضفة؟
لم تعُد المقاومة في الضفة الغربية مجرّد حدثٍ طارئ أو عابر، بل باتت نشاطاً شبه يومي وتكتيكاً رادعاً لقوات الاحتلال يصعّب عليها مهماتها ويعقّد حساباتها ومخططاتها الاستيطانية في الضفة والقدس.
الضفة الغربية تشهد ارتفاعاً ملحوظاً في عمليات المقاومة بكلّ الأشكال، وسط حالة من الاندماج بين مقاتلي جميع الفصائل، حيث انتشرت التشكيلات العسكرية المقاومة في محافظات شمال الضفة الغربية كافة، ولم تعد تقتصر على جنين بلد منشأ الظاهرة، بالإضافة إلى انخراط قطاعات شعبية جديدة في العمل المقاوم.
ويواجه الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية مشكلة مركبة تضمّ عدة عناصر، الأولى هي كتائب المقاومة المنظمة، وهي تنقسم إلى قسمين، الكتائب ذات القيادة العليا مع إسنادٍ سياسي، مثل كتائب جنين ونابلس وطولكرم التي تتبع لسرايا القدس، والكتائب ذات قيادة وسطى ميدانية من دون إسناد سياسي مثل مجموعات كتائب شهداء الأقصى في جنين ونابلس ورام الله والخليل.
إلى جانب ذلك، تواجه قوات الاحتلال أيضاً مشكلة التنظيمات المحلية، قسم منها ذو قيادة، مثل مجموعات جبع وبرقين وقباقية، وهي مجموعات متفرعة من كتيبة جنين، والقسم الآخر من دون قيادة مثل مجموعة "عرين الأسود" في نابلس.
المشكلة لا تقتصر على ذلك، إذ يوجد شكلٌ آخر من العمل المقاوم يُقلق الاحتلال في الضفة الغربية، وهو العمليات الفردية التي تتنوع بين المناطق والمنفذين، والتي تتراوح بين الطعن وإطلاق النار والدهس. هذا بالإضافة إلى وجود مقاومة شعبية، تشمل خطواتها إلقاء الحجارة وإطلاق المولوتوف والألعاب النارية على قوات الاحتلال الإسرائيلي.
بعد العمليات البطولية المتتالية في #القدس.. ماذا يواجه الجيش الإسرائيلي في الضفة؟
— قناة الميادين (@AlMayadeenNews) January 28, 2023
محلل الميادين للشؤون العربية والإقليمية عبد الرحمن نصار#الميادين #فلسطين #سلوان #جنين pic.twitter.com/RggED3gZKe
في غضون هذا الواقع، بات من الصعب على قوات الاحتلال الإسرائيلي مواجهة هذا المشهد، إذ أصبح كل شاب فلسطيني في الضفة مشروع منفذ عملية فدائية، هذا عدا عن تطور نوع التكتيكات القتالية، وتكريس مواجهة عمليات الاعتقالات الإسرائيلية من خلال معادلة عدم الاستسلام حتى آخر رصاصة أو الاستشهاد.
المقاومة في الضفة أسهمت بشكلٍ واضح في تآكل قوة الردع لدى الاحتلال داخلياً وإقليمياً، وطرحت أسئلة هامة حول إمكانية مواصلة الاحتلال اعتداءاته وانتهاكاته المستمرة دون الدفع بقوة نحو مواجهة مع المقاومة.
اقرأ أيضاً: بعد عمليتيّ القدس.. 60% من "جيش" الاحتلال ينتشرون في الضفة
المخاوف الإسرائيلية من الضفة
تظهر مخاوف الاحتلال الإسرائيلي بشأن تصاعد الأحداث واحتمال نشوب انتفاضةٍ جديدة في الضفة الغربية بشكلٍ واضح في حديث الإعلام الإسرائيلي، إذ تعترف سلطات الاحتلال بأنها تجد صعوبات كثيرة في لجم عمليات المقاومة في تلك المنطقة، كما تخشى أن تراكم هذه المقاومة قوّتها، بما يمكّنها من خلق حالة ثابتة من مقاومة الاحتلال، وليس فقط المراوحة في حالتي المشاغلة والعمل النوعي الفردي المتباعد.
كذلك، صرّح القادة الإسرائيليون في عدة مناسبات بأنّ استمرار الأوضاع في الضفة الغربية على هذه الحال يسير بالاحتلال إلى كارثة أمنية استراتيجية، لن يقتصر تأثيرها على مناطق الضفة فقط.
وتحدّث الإعلام الإسرائيلي في وقتٍ سابق عن تضرر الأهلية والجاهزية للقوات البرية لـ"جيش" الاحتلال، بسبب تصاعد الأحداث في الضفة، إذ أكد الكاتب ومحلل الشؤون العسكرية، رون بن يشاي، لموقع "يديعوت أحرونوت"، أنّ "جزءاً كبيراً من الجيش البري النظامي، التابع لـلجيش الإسرائيلي، يُستثمَر حالياً في الضفة الغربية في مهمات الأمن الجاري"، مشيراً إلى أنّ ذلك "يأتي على حساب التدريبات التي لم ينفّذها".
وأشارت وسائل إعلام إسرائيلية عديدة إلى "الوضع الأمني الخطير" الذي تعيشه الضفة خلال الفترة الأخيرة، مؤكدة أنّه يذكّر بالوضع في إبان الانتفاضة الفلسطينية الثانية.
وفي هذا الصدد، ذكر تقرير معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي لعام 2022 أنّ أحد أبرز التهديدات التي تواجه الاحتلال هي الأوضاع في الضفة الغربية وقطاع غزة، حيث جاء في التقرير أنّ "الوضع الأمني يغلي في الضفة الغربية"، متحدثة "عن تحديات خطيرة تواجهها إسرائيل في الساحة الفلسطينية، ولاسيما مع استمرار عمليات المواجهة".
قلق الاحتلال الإسرائيلي من فقدانه قوة ردعه في الضفة وتآكله بنسبة كبيرة، عكَس حالة الفشل الأمني الذريع للمؤسسة الأمنية التابعة للاحتلال أمام مقاومة نهضت وبدأت تضرب الأمن الإسرائيلي في كل الساحات.
من الواضح إذاً أنّ أراضي الضفة الغربية تزداد اشتعالاً في وجه الاحتلال الإسرائيلي، على نحوٍ بات يُنظَر على أنه شرارة لانطلاق انتفاضة فلسطينية جديدة. ويمكن الاستناد على التطورات الأخيرة لتأكيد خطورتها، لا سيما وأنّ حديث قادة محور المقاومة في السنوات الأخيرة حول تسليح الضفة الغربية كان واضحاً، بهدف أن تبقى قاعدة اشتباك، صلبة جداً، تُفرض فرضاً على الاحتلال، وتبدو قادرة نسبياً على حماية الحقوق الفلسطينية.