الصين... نافذة روسيا في مواجهة العقوبات الغربية
المواقف الصينية الأخيرة، في مجلس الأمن الدولي، تثير أسئلة كثيرة بشأن الدور الصيني في الأزمة في أوكرانيا. كيف تطورت العلاقات بين روسيا والصين، وما دور بكين في مواجهة العقوبات على روسيا.
بعد حالة الارتباك التي أصابت حلف "الناتو"، عقب إطلاق العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وعدم القدرة على الرد أو التدخل العسكري، يبدو أن سلاح العقوبات هو السلاح الأبرز في يد الغرب من أجل الضغط على موسكو.
لكن، يبدو أنّ روسيا حضّرت نفسها جيداً لهذه العقوبات، ونسجت، خلال الأعوام السابقة، علاقات اقتصادية، واتخذت إجراءات من أجل الحدّ من آثارها. لذلك، فإنّ العلاقة الروسية بالعملاق الاقتصادي الصيني تبدو أولوية بالنسبة إلى روسيا.
في شباط/فبراير الماضي، وصل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى بكين، من أجل المشاركة في افتتاح دورة الألعاب الأولمبية. ويبدو أنّ الزيارة أسّست محاولة استيعاب عواقب العقوبات الاقتصادية الغربية على روسيا، سواء المستجِدّة بسبب العملية العسكرية، أو بسبب العقوبات المنفردة، التي فرضتها واشنظن على موسكو سابقاً، وخصوصاً أنّ أهم ما كشف عنه البيانُ المشترك بين الطرفين هو الشراكة الاستراتيجية، عبر صفقات يتجاوز عددها 15 اتفاقية، بينها التوقيع على اتفاقية لتوريد الغاز الروسي إلى الصين من خلال خط أنابيب جديد.
تطورت العلاقات بين روسيا والصين بدءاً من عام 1992، عندما زار الرئيس الروسي الأسبق بوريس يلتسن بكين، ثم جاءت قمة بكين عام 1996، لتعطي دفعة قوية للعلاقات بين البلدين، وتُرسي دعائم الشَّراكة الاستراتيجية بينهما، بعد النجاح في تسوية مشاكل الحدود بصورة نهائية، وذلك بعد الاتفاقيتين المتعلّقتين بالحدود الشرقية عام 1991، والحدود الغربية عام 1994. ولاحقاً، نمت العلاقات من خلال اتفاق على مواجهة الأطماع الأميركية، وتفرُّد واشنطن بالقرار العالمي.
لكنّ زيارة بوتين في شباط/فبراير الفائت لم تكن محطة عابرة في العلاقات، بل أتت تتويجاً لمسار العلاقات الصينية الروسية عبر توقيع عقد شراكة استراتيجية "بلا حدود"، مع تعهّد أعلنته الدولتان، في بيان مشترك، يفيد بمعارضة أي توسّع للحلف الأطلسي، ودعم إحداهما الأخرى في مواجهة "الهيمنة" عبر العقوبات الأميركية الأحادية. وفي السياق، أبدت الصين دعمها المطلبَ الروسي المتمثّل بضرورة عدم ضم أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي، كما أكدت روسيا دعمها الموقفَ الصيني بشأن قضية السيادة الصينية على تايوان.
وشملت الاتفاقيات الموقَّعة بين الجانبين اتفاقيةً لتوريد الغاز الروسي إلى الصين، عبر خطّ أنابيب جديد طاقته 50 مليار متر مكعب من الغاز سنوياً. ونصّت أهم بنود الاتفاقية على:
- توريد 10 مليارات متر مكعب من الغاز الروسي إلى الصين، سنوياً، على مدى 30 عاماً، بدءاً من عام 2026.
- تسوية مبيعات الغاز بين الجانبين باليورو بدلاً من الدولار الأميركي.
شعيتو للميادين نت: الصين وروسيا في طريق تعدُّد الأقطاب في العالم
الخبير في الشؤون الروسية، الدكتور مسلم شعيتو، يقول للميادين نت إنّ حجم التبادل التجاري بين الصين وروسيا "بلغ ما يقارب 146 مليار دولار، بحيث اشترى الطرف الصيني من روسيا بقيمة 79 ملياراً، والروسي اشترى من الصين بقيمة 67 مليار دولار".
وأكد شعيتو أنّ زيارة الرئيس الروسي للصين، قبل العملية العسكرية، عند افتتاح الألعاب الأولمبية، تُعَدّ من الزيارات المهمة والاستراتيجية جداً، وخصوصاً خلال المقاطعة الأوروبية والأميركية للألعاب الأولمبية.
وأشار الخبير في الشؤون الروسية إلى أنّ الطرفين بحثا في "أمور استراتيجية"، الأمر الذي دفع الرئيس الصيني، شي جين بينغ، إلى القول إن العلاقة بين روسيا والصين "ما فوق استراتيجية"، بينما أكد وزير الخارجية الصيني، وانغ يي، أنّ الصداقة بين الصين وروسيا "صُلبة كالصخر"، وأن آفاق التعاون بينهما "واسعة للغاية".
وأضاف شعيتو أنّ هذا البحث أدّى إلى ارتفاع مستوى التعاون التجاري. وكما يبدو، فلقد اتفق الجانبان على أن "تشتري الصين كلّ المنتوجات التي كانت تصدّرها روسيا إلى أوروبا، إذا تمت محاصَرة أو مقاطعة لروسيا"، مستشهداً بتصريح لوزير الخارجية الصيني منذ أسبوع، حين قال إنّ "كل ما لا يشتريه الغرب ستشتريه الصين من روسيا".
وأضاف: "انطلاقاً من النموّ الصيني، وبدلاً من الغاز الذي تشتريه أوروبا (من بعد ضعفها الاقتصادي، لأنها لا تستطيع أن تشتري غازاً أميركياً بأسعار مرتفعة)، ستضطر روسيا إلى أن تبيع غازها للصين. ولدى الأخيرة قدرة استيعاب لكل هذه الكمية من الغاز، وستكون السوق الصينية السوق البديلة للواردات الروسية".
وفي تعليق على البديل لمشروع "نورد ستريم 2"، يوضح الخبير أنّه، في الفترة الأولى، لا يستطيع الغاز الروسي المصدَّر إلى الصين أن يعوّض إيرادات الغاز إلى مشروع "نورد ستريم 2" الألماني، لكن في المدى المتوسط "سيعوّض حُكماً".
ولدى السؤال عن الموقف الصيني من قانون العقوبات على روسيا في مجلس الأمن، لفت شعيتو إلى أنّ الصين لم تتخذ قرار الفيتو في مجلس الأمن لأن "روسيا هي من سيتّخذه"، لكنها لم تصوّت لمصلحة قرار العقوبات. وبالتالي، فإن موقفها "يُعَدّ بمنزلة الفيتو".
وأضاف: "ما زالت الصين تطمح إلى أن تؤدّي دوراً في حلّ الأزمة؛ أي في الاستثمار لاحقاً. فإذا تطورات الأزمة عكس الخطط المرسومة لها (عادة هو احتمال غالباً ما يوضع في السياسة)، فالصين هي وسيط. وفعلاً، دعا الرئيس الأوكراني الصين إلى أن تكون وسيطاً. إنّ الخطوة في مجلس الأمن كانت صحيحة، كي تُبقي بكين مجالاً للدور الصيني لأن يكون وسيطاً في حل الأزمات التي تكون روسيا طرفاً فيها"، مؤكداً أنّ هذا الأمر "أفضل من أن يكون الأميركي أو الغربي هو الوسيط. لذلك، تكون المباحثات في المكان الذي تطلبه الصين، كما في بيلاروسيا".
وعن إمكان تحوّل التعاون الصيني الروسي إلى تحالف، أم أن هناك معوّقات تَحُول دون ذلك؟ يجيب شعيتو الميادين نت بأنّ العلاقات الروسية الصينية "تتطور في كل الاتجاهات، لا تجارياً فقط، بل سياسياً أيضاً".
وأضاف: "لقد اقتنع الطرفان بأنه إذا قُضي على أحدهما، فسيُقضى على الآخر حُكماً، فهما مجبَران على أن يكونا حليفين استراتيجيين. ثمّ، مع العلاقات الثنائية فيما بين دول المثلث (روسيا والصين وإيران)، والذي تنضم إليه لاحقاً الهند وباكستان، سيصبح ثقل العالم اقتصادياً وبشرياً وسياسياً. وتراهن روسيا على الدور الذي سيؤديه".
مثلاً، إذا صوّتت في مجلس الأمن 141 دولة ضد روسيا، بينما لم تصوّت هذه الدول، وفيها عدد سكان أكبر من عدد سكان الدول الـ 141 المصوّتة، فسيؤدي ذلك دوراً مهماً جداً، على حدّ تعبيره.
الاستثمارات الصينية في روسيا كبيرة ومهمة
وبشأن طبيعة العلاقة بين البلدين، في النواحي العقائدية والفكرية، يرى د. مسلم شعيتو أنها تتطور، وقد تباينت عن السابق، فلقد "انتهت الخلافات الحدودية بينهما، كما انتهت أيضاً كل الخلافات العقائدية بينهما، لأن الصين أصبحت عقلانية أكثر، وروسيا انتهت من الشيوعية أصلاً"، مضيفاً: "بالنسبة إلى التحالف، أصبح أعلى من استراتيجية، وكل ما ينقصه هو صياغة قانونية لطبيعة عمق هذه العلاقات، لكنّ الطرفين ليسا مستعجلين من أجل كتابتها بصورة قانونية، لأنهما يريدان أن يصنعا تعدّداً للأقطاب. وهذا ما قد يكون أنجح في السياسة؛ أي أن يكون هناك 3 أقطاب عالمية: الصين، الولايات المتحدة وروسيا".
وأضاف: "أمّا احترام سيادة كل دولة، فلا خلاف بشأن ذلك، وإنّما يكمل أحد البلدين الآخر في الملفات الدولية. لقد كان التنسيق ملحوظاً، وخصوصاً فيما يتعلق بالملف السوري، عند استخدام الفيتو على نحو مشترك، وذلك من أجل إرسال رسائل، مفادها أولاً أن ما يعنيهما هو الشرق الأوسط". والرسالة الثانية إشارة إلى أنّ هناك "تحالفات موحدة بين الطرفين في العلاقات الدولية".
ولفت شعيتو إلى أنّ عدد الطلاب الصينيين في روسيا يشكّلون نصف مجموع الطلاب الأجانب الموجودين هناك، ويملك الصينيون في روسيا مشاريع وأسهماً استثمارية، وخصوصاً في مجال الإعمار، وهم موجودون في "روسيا من دون شوشرة". يعملون بصمت، وعلاقتهم بروسيا استراتيجية، وخصوصاً أنهم يطمحون يوماً ما إلى أن يمتدوا إلى الأراضي المجاورة لبلدهم، بعد هذا التعداد السكاني الكبير. وفي روسيا كثير من الخيرات والأراضي الواسعة، على حدّ تعبيره.
التعاون الروسي الصيني.. متعدد المجالات
إلى جانب التعاون في مجال الطاقة، تعدّدت المواقف الروسية السياسية والدبلوماسية الداعمة للصين، بحيث التزمت روسيا، تاريخياً، عدم إقامة علاقات رسمية بتايوان، كما أعلنت دعمها السيادة الصينية على إقليم التيبت، بصفته جزءاً لا يتجزأ من الصين. ولم تتوانَ روسيا - العام الفائت - عن اتخاذ موقف رافض للدعوة الأميركية إلى تشكيل تحالف دولي ضد الصين، وردّت بالقول إنّ الصين "شريك مهم لروسيا".
ويتصدّر الدعم العسكري الروسي للصين قائمةَ التعاون بين البلدين، بحيث دعمت روسيا الصين في التقنيات العسكرية الروسية المتطورة، من الغواصات والمدمّرات، وتكنولوجيا الأسلحة، التي استفادت منها الصين في تطوير طائراتها ومطاراتها، وبحريتها، وقدراتها الحربية والعسكرية، ودفاعها الجوي. وفي هذا الإطار، ساندت روسيا الصين في توجيه تحذير مشترك إلى الولايات المتحدة، نتيجة العقوبات الأميركية التي فُرضِت على إدارة تطوير المعدات التابعة لوزارة الدفاع الصينية، بسبب شراء الصين للمقاتلات الروسية من طراز "سوخوي سو35"، ومنظومة صواريخ "أس400". ومؤخراً، أخذ التعاون في قضايا الدفاع الصاروخي بين البلدين مستوى رفيعاً، بعد أن أعلن الرئيس الروسي التعاون مع الصين في إطلاق مشروع بناء مفاعلات، روسية التصميم، في محطات الطاقة النووية الصينية.
يُذكَر أنّ الصين شاركت في المناورات "الأكبر في تاريخ روسيا"، بحضور قادة صينيين، وبمشاركة نحو 3 آلاف جندي صيني. فتدرك بكين حجم الاستعدادات الروسية للتوسع في الحرب، وإدارة المعارك على مسافة بعيدة، وجاهزية 300 ألف جندي روسي للمشاركة في القتال. والقدرات الفعلية لروسيا، والتي كانت وُظِّفت منها في المناورات، 36 ألف آلية عسكرية، وألف طائرة، و80 قطعة بحرية، بالإضافة إلى تدريبات على أسلحة متطورة، وصواريخ إسكندر، القادرة على حمل رؤوس نووية.
بدورها، تمكّنت الصين من إنقاذ روسيا من العقوبات التي فُرضت عليها عقب استعادة روسيا شبه جزيرة القرم من أوكرانيا، بعد أن عملت الصين على ضخّ الأموال في الاقتصاد الروسي، بموجب اتفاقيات تُقَدَّر قيمتها بمليارات الدولارات في مجال الطاقة، بالإضافة إلى تعزيز التعاون بين البلدين، تجارياً وتكنولوجياً.
وعلى المستوى التجاري، تُعَدّ الصين أكبر مصدّر للواردات الروسية، وأكبر وجهة لصادراتها التي يمثّل السلاح الروسي منها نحو 70% من إجمالي واردات الصين من الأسلحة. كما تزوّد الصين روسيا بالإلكترونيات، والآلات والأدوات الصناعية، في مقابل ما تستورده من منتوجات غذائية وطاقة.
بالتزامن، كشفت إدارة الجمارك الصينية، اليوم في السابع من آذار/مارس، ارتفاع حجم التبادل التجاري بين روسيا والصين خلال أول شهرين من عام 2022 بنسبة 38.5%.
وأشار مساعد الرئيس الروسي، يوري أوشاكوف، إلى أن حجم التبادل التجاري بين روسيا والصين ارتفع، هذا العام، ليسجّل مستوىً قياسياً بقيمة 140 مليار دولار، وأكّد العمل مع الصين على زيادة حجم التجارة إلى 200 مليار دولار سنوياً.
صحيح أنّ للصين مصالح استراتيجية كبرى في أوكرانيا، إذ تُعَدّ الصين أكبر مستورد للشعير الأوكراني، وثاني أكبر مستورد للقمح الأوكراني، بينما تمثّل صادرات الذرة الأوكرانية نحو 30% من واردات الصين، وغيرها كثير، لكنّ التحالف الاستراتيجي مع روسيا يخوّل الصين أن تكون، في مُقبل الأيام، قطباً عالمياً له حيثيته وأهميته الأهم والأكبر.