الحلم الإيراني يقترب من الحقيقة.. تراجع حصة "الذهب الأسود" في الميزانية
إيران تهدف منذ 30 عاماً إلى التخلص من استخدام النفط كأداة رئيسية في الاقتصاد، وتحويل البلاد إلى قوةٍ صناعية تستخدم إمكانياتها الذاتية من أجل الإنتاج.
"أمنيتي الرئيسية والتي قد لا تكون قابلة للتحقق في المستقبل القريب، هي أن نغلق آبار النفط ونبني اقتصادنا على تصدير السلع والمنتجات غير النفطية. لنفترض أصلاً أنَّ هذا البلد لا يملك سلعةً تسمى النفط". بهذه الكلمات عبَّر المُرشد الإيراني، السيد علي خامنئي في خطابٍ تاريخي أمام مسؤولي النظام في عام 1994، عن رؤيته لتخليص اقتصاد البلاد من "لعنة النفط".
رؤيةٌ لم تكن تقتصر على الدوافع الاقتصادية فحسب، بل تشمل أيضاً المخاوف السياسية من تكرار تجربة حكومة "محمد مُصدِّق" التي أطاحها الغرب عبر فرض العقوبات عليها بعدما رفضت الإملاءات البريطانية في ملف تأميم صناعة النفط.
الكلام بدا حلماً بعيد المنال في ذلك الوقت نظراً لهيكلية الاقتصاد الإيراني المعتمد كلياً على بيع النفط منذ ما قبل انتصار الثورة الإسلامية. ورأى كثير من "المسؤولين التكنوقراطيين" في الجمهورية الإسلامية كما يصفهم المُرشد الأعلى، أنَّه لا يمكن لبلدٍ مثل إيران أن يخرج من إطار الاقتصاد النفطي مهما تطورت قدراته الصناعية.
لكن، اليوم، وبعد مرور ما يقارب 30 عاماً، يقترب الحلم الإيراني من الحقيقة، على وقع نهضة اقتصادية طويلة الأمد، وبالرغم من رغبة بعض الحكومات، خلال السنوات الماضية، في اللجوء الى بيع النفط باعتباره الطريق الأسهل لسد الفجوات ومواجهة العجز في الميزانيات.
ارتفاع نسبة الإيرادات غير النفطية
تظهر دراسة الميزانيات العامة في إيران خلال السنوات الماضية أن حصة النفط من الإيرادات الحكومية شهدت تراجعاً مستمراً، على الرغم من نجاح الحكومة الجديدة برئاسة إبراهيم رئيسي في الالتفاف على العقوبات وارتفاع مبيعات النفط.
وقد بلغ هذا الاتجاه ذروته في مشروع الموازنة للعام الإيراني الجديد حيث سجلت الإيرادات المتوقعة غير النفطية زيادةً بنسبة 59%. وتشكل الصادرات الصناعية الى جانب الضرائب المصدرين الأساسيين لملء فراغ النفط في ميزانية العام المقبل. ويُطالب الخبراء الإيرانيون الحكومات منذ سنوات بإصلاح السياسات الضريبية باعتبارها مدخلاً نحو تنويع مصادر الحكومة وبناء اقتصاد منتج وأكثر استدامة.
يذكر أن السياسات الضريبية الجديدة التي تعتمدها الحكومة في إيران تستهدف بشكل أساسي الشركات الكبرى والفئات ذات الدخل العالي إذ تؤمن الحكومة الدعم للأسر ذات الدخل المنخفض والمتوسط، وفق الخطة التي وافق عليها البرلمان الإيراني.
وشكل تقليل الاعتماد على المصادر النفطية وتعزيز القدرات الإنتاجية للبلاد محوراً أساسياً في حملة رئيسي الانتخابية قبل أكثر من عام وهو ما أكَّد عليه الرئيس الإيراني، الأسبوع الماضي، في جلسة تقديم مشروع موازنة العام الجديد إلى البرلمان قائلاً: "لا نتراجع عن تنفيذ توجيهات القيادة بخفض الاعتماد على النفط، بالرغم من جميع التحديات الاقتصادية التي نواجهها". وفي السياق، وعد وزير الاقتصاد الإيراني، إحسان خاندوزي في وقت سابق أنَّ بلاده ستتخلَّص مما وصفه بـ "الميزانيات النفطية" قبل انتهاء عمر الحكومة الـ13.
معارضة المرشد الأعلى للاقتصاد النفطي
أدت نظرة المرشد الإيراني السلبية تجاه النفط وحصته من الإيرادات الحكومية دوراً مهماً في توجيه المناهج الاقتصادية في إيران ما بعد الثورة. وأعلن السيد علي خامنئي معارضته ما وصفه بـ "الاقتصاد النفطي" في الفترة نفسها التي أطلقت حكومات ما بعد الحرب (مع نظام صدام حسين) في إيران أعمالها من أجل إعادة الإعمار.
ولطالما عدّ المرشد الأعلى حاجة الحكومات إلى بيع النفط دليلاً على عدم الاستقلال الاقتصادي ما يجعل الثورة الكبرى التي حدثت عام 1979 من أجل الحصول على الاستقلال السياسي غير مكتملة، حسب اعتقاده.
وفي السياق، أكد السيد خامنئي في خطابه عام 1998 بمناسبة عيد النيروز، ضرورة إنقاذ الاقتصاد الإيراني من الهيكلية التي بُينت له منذ سنوات وقال: "من أكبر الخيانات التي ارتكبها نظام الشاه بحق الشعب الإيراني ولا يمكن تعويضها بسهولة أنه جعل اقتصاد البلاد معتمداً على النفط".
من جانب آخر، رأى المرشد الأعلى في إدمان الاقتصاد على صادرات النفط عاملاً لتعزيز سيطرة الغرب على اقتصادات دول العالم الثالث، إذ لا تسمح تلك القوى بنقل الصناعات الكبرى إلى الدول المصدّرة للنفط، وتجعلها مجرد أسواق "عالمثالثية" للسلع الاستهلاكية. ونتيجةً لذلك، تتمحور جميع التوجيهات الاقتصادية للمرشد الإيراني حول محورين أساسيين: تعزيز القدرة الإنتاجية للبلاد بالاعتماد على القدرات الذاتية وضرورة امتلاك إيران الطاقة النووية.
وبالفعل، تثبت السياسة التي تبنتها أميركا وحلفاؤها خلال السنوات اللاحقة لمواجهة إيران واحتوائها أنَّ التحالف الغربي ينظر إلى النفط كأداةٍ يمكن من خلالها إدارة الدول الإسلامية والعربية المصدرة للطاقة. في المقابل، لم يكن الرد الإيراني على هذه المقاربة اللجوء إلى شبكات سريَّة للالتفاف على العقوبات فحسب، بل ذهب نحو خيار إعادة بناء الاقتصاد بحيث يسمح لها أن تصمد أمام الضغوط وتستخدم قدراتها المحلية من أجل التقدم. هذا هو حلم الـ30 عاماً للاقتصاد الإيراني، والذي سيعني في حال تحقيقه بالكامل انتهاء عصر الاعتماد على الطاقة، وتحوّل البلاد من سوق استهلاك إلى قوةٍ صناعية ستستخدم إمكانياتها الذاتية من أجل الإنتاج. فالاستقلال السياسي لا يكتمل إلّا بالاستقلال الاقتصادي.