الاستدارة التركية نحو سوريا.. لماذا الآن؟
السعي التركي للتقارب نحو سوريا، أثار العديد من التساؤلات عن أهدافه والتحدّيات التي تواجهه.
بعد سنواتٍ من العلاقات المتوترة بين أنقرة ودمشق،بدا واضحاً، مؤخراً، كيف تسعى تركيا إلى إعادة تطبيع علاقاتها المجمّدة مع سوريا، وإحداث تغيير في هذه العلاقات. فالغزل الواضح على لسان المسؤولين الأتراك لم يعد خافياً، حتى وإنّ أثار غضب الإدارة الأميركية التي شنّت هجوماً عنيفاً على الرئاسة السورية، ودعت الدول لعدم التطبيع مع دمشق.
حالةٌ من الدفء النسبي تعيشها العلاقات بين البلدين، وإن كانت المبادرة أكبر من الجانب التركي، تجلّت عبر سلسلة من اللقاءات جمعت مسؤولين كبار من الدولتين، والتي يمكن أن تقود في المستقبل القريب إلى لقاء بين الرئيس السوري بشار الأسد والتركي رجب طيب إردوغان، وهو ما ألمح إليه الأخير أمس.
ورغم أنّ المحادثات التي نظّمتها موسكو نهاية الشهر الماضي بين وزراء دفاع روسيا وتركيا وسوريا، عبّدت الطريق للقاء على مستوى وزراء الخارجية منتصف هذا الشهر، إلا أنّها في الوقت نفسه وضعت حجر عثرة في العلاقات التركية- الأميركية.
تدرك أنقرة جيداً أنّها لا تستطيع كسب الجميع في اللعبة الدولية، وهي التي طالما انتهجت سياسة المراوغة في علاقاتها بين موسكو وواشنطن. وهو ما يطرح السؤال حول أبعاد التقارب التركي تجاه سوريا، ولماذا الآن؟
كسب رهان الانتخابات المقبلة
على وقع التأثيرات السلبية في الاقتصاد التركي، والتذبذب بسعر صرف الليرة التركية، تورد تقارير صحافية، أنّ المعارضة التركية، إنّ توحّدت تستطيع أن تشكّل تهديداً جاداً لإردوغان وحزبه في الانتخابات المقبلة، وهو ما يدركه رئيس حزب "العدالة والتنمية" جيداً، نظراً لحساسية المرحلة التي يمرّ بها حزبه، والتي ستكون الانتخابات بمثابة الاستفتاء الشعبي على مصيره.
وعليه، يريد "العدالة والتنمية" سحب أيّ ورقة رابحة يمكن أن تستخدمها المعارضة ضدّه، خاصةً وأنّ لها باعاً طويلاً في اللجوء إلى الورقة السورية للضغط على الحكومة، وتأليب الشارع على إردوغان، ولا سيما فيما يتعلق بملف اللاجئين الذين يستخدمهم إردوغان كورقة في السياسة الخارجية أو حتى كأصوات في الانتخابات.
وعليه، فإنّ حزب "العدالة والتنمية" الذي خسر بلديّتي إسطنبول وأنقرة في الانتخابات المحلية التي جرت عام 2019، يواجه انتخابات مصيرية الصيف المقبل، ما دفعه إلى طرح عددٍ من القضايا التي تضمن له الفوز، أبرزها إعادة نحو مليون لاجئ سوري طوعاً إلى بلادهم، ما أعاد إلى الواجهة من جديد موضوع إنشاء منطقة آمنة بعمق 30 كيلومتراً على طول الحدود مع سوريا، يجري من خلالها إبعاد الكرد عن الحدود من جهة، وإعادة توطين اللاجئين السوريين، من جهة أخرى.
ورغم محاولات إردوغان الحثيثة لحشد الناخبين، ثمّة اعتقاد في صفوف المعارضة التركية بأنّ الانتخابات المقبلة باتت محسومة النتائج، وأنّها بالتأكيد ستضع نهاية لحكم "العدالة والتنمية". فمن وجهة نظر المعارضة، لن تستطيع حكومة إردوغان خلال الوقت المتبقي على موعد الانتخابات، مهما حاولت، استمالة الشعب لا من جهة ملف اللاجئين، ولا من جهة إعادة التوازن إلى الاقتصاد التركي.
وعلية، فإنّ الانتخابات المقبلة، تعدّ الأصعب على إردوغان، في ظل تراجع التأييد الشعبي الواضح، وهو ما ترجمته نسب الإستفتاء على النظام الرئاسي عام 2017 (51.41%) والإنتخابات الرئاسية (52.59%)، والبرلمانية (42.56%) عام 2018.
وقد أظهر استطلاع للرأي نشره مركز أبحاث "Yöneylem" للدراسات الاجتماعية، منتصف العام الماضي، تراجعاً حاداً في دعم حزب "العدالة والتنمية" حيث صوّت 29.8% فقط لصالح الحزب.
اقرأ أيضاً: "واشنطن بوست": انخفاض الليرة يُفقد أردوغان جزءاً من مؤيديه
الدوافع التركية تجاه هذا التقارب، تدركها دمشق، وهو ما يفسر حالة الشك والريبة التي تنظر فيها تجاه النوايا التركية، ما دعاها إلى طلب تأجيل اللقاء بين إردوغان والأسد إلى ما بعد الانتخابات التركية.
محاربة الكرد
يقول وزير الدفاع التركي إنّ هدف بلاده الوحيد هو "محاربة الإرهاب وليس لديّها أيّ هدف آخر"، في إشارة إلى حزب العمال الكردستاني، ووحدات حماية الشعب (خصم أنقرة اللدود في الداخل والخارج).
من هنا، تضع أنقرة الملف الكردي في سلّم أولوياتها، وترى أنّ التخلص من "الخطر الكردي"، على حدود البلاد، يحمي وجودها من جهة، ويعطيها تأييداً شعبياً إضافياً من جهة أخرى، إذ بيّنت التوقعات أنّ شن عملية لمحاربة الكرد من شأنها أن تمنح حزب إردوغان زيادةً تتراوح بين 3 - 4% من أصوات الناخبين.
وعليه، تدرك أنقرة أنّ إغلاق ملف الكرد، سيكون مستحيلاً دون التنسيق مع دمشق. فانتشار القوّات السورية على الحدود المشتركة، ترى فيه تركيا "أهون الشرين"، على الرغم من أنّ المقاربة السورية لملف الكرد ليست متطابقة مع المقاربة التركية.
علاقة متوترة مع أميركا
منذ محاولة الإنقلاب الذي شهدته تركيا عام 2016، والعلاقات التركية - الأميركية تتجه نحو الإنحدار. فأنقرة، وفي أكثر من مرّة، أكّدت أنّ الإنقلاب ما كان ليحصل دون مظلّةٍ أميركية. هذا التوجه شهد به وزير العدل التركي بكير بوزداغ الذي قال إنّ "كمية الأدلة الموجودة لدى وكالة الاستخبارات الأميركية بخصوص إدارة فتح الله غولن للمحاولة الانقلابية، أكثر من الأدلة الموجودة لدى تركيا".
وعزز الاعتداء الذي استهدف قلب مدينة إسطنبول، في شهر تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، التوتر، مع اتهام تركيا لأميركا بالوقوف وراء التفجير، رافضةً حتى تقبل العزاء من الجانب الأميركي، وصولاً إلى مطالبة واشنطن أنقرة بدفع إيجارات تخزين "أف -35".
ومقابل الفتور الذي تشهده العلاقات التركية الأميركية على خلفية استمرار الدعم الأميركي للأكراد، وجدت تركيا أنّ من مصلحتها تعزيز تقاربها مع موسكو، خاصةً في هذا التوقيت، الذي ترى فيه فرصةً لتحقيق مكاسب عدّة.
وبالتالي فإنّ التقارب مع دمشق يسمح بتطوير أكبر للعلاقات مع روسيا، خاصةً بعد أن طرح الرئيس الروسي قبل أشهر مبادرة تحويل تركيا إلى مركز للغاز الطبيعي، ونقل الغاز الروسي إلى أوروبا.
كما ينظر الأتراك إلى فتح الحدود بين سوريا وتركيا، كمدماك أساسي في إمكانية إعادة العمل بخط "الغاز العربي" الذي أنشئ بهدف نقل الغاز المصري والعراقي إلى أوروبا، عبر الأردن، وسوريا، وتركيا ومن هناك إلى أوروبا.
وعليه، تريد تركيا ضرب عصفورين بحجر واحد: المحافظة على متانة العلاقات مع روسيا المتواجدة عسكرياً في سوريا، والتصالح مع دمشق التي انتصرت على الحرب الدولية التي شنت ضدّها، وكانت تركيا إحدى أهم اطرافها، وبالتالي لم يعد من المنطقي التعامل مع الملف بالأسلوب نفسه الذي تعامل به إردوغان في بدايته، بعد فشل رهاناته على مدار 10 سنوات في إسقاط النظام والهيمنة على القرار السياسي في دمشق.
ورغم التوجّه التركي نحو الانفتاح على دمشق، إلا أنّ عقبات عديدة تعترض هذا التقارب، خاصةً فيما يتعلق بوضع جدول زمني علني للانسحاب التركي من الأراضي السورية، والتخلي عن دعم ما تسميه أنقرة "المعارضة". وإضافةً إلى ذلك، إعادة إدلب الخاضعة لسيطرة فصائل مصنفة على قوائم الإرهاب عالمياً، واستعادة السيطرة على معبر باب الهوى بين تركيا وإدلب، وهي مطالب تراها تركيا تعجيزية، ناهيك عن الفيتو الأميركي وتواجد الأخير في مناطق شرق الفرات.