اضطرابات مدنية في دول أوروبية.. هل تؤثر في موقفها تجاه أوكرانيا؟
ضغوط شعبية كبيرة تتعرض لها الدول الأوروبية بسبب موقفها بشأن الحرب في أوكرانيا، تترافق معها مخاوف من تغير موقف تلك الدول تجاه هذه الأزمة.
"نريد حلاً. نحن نعيش من أجل دفع فواتير الكهرباء والغاز".. من الاحتجاجات التي حدثت في إيطاليا الأسبوع الماضي
لم تعد الأزمة الدائرة بين روسيا والأطلسي مقتصرة على الضغوط الاقتصادية الشديدة والمتبادلة بين الجانبين. وفي وقت تحاول موسكو التغلب على العقوبات المفروضة عليها من جانب الدول الغربية، ترتسم ملامح اضطرابات أوروبية أكثر عمقاً تصل إلى حدّ التحركات الشعبية، وإطاحة حكومات على خلفية الفواتير الضخمة التي يدفعها المواطنون الأوروبيون.
وشهد عدد من الدول الأوروبية، في الأسابيع الأخيرة، تظاهرات واحتجاجات، تنديداً بسياسات بعض الحكومات التي يتّهمها المتظاهرون بصَبّ جُل اهتمامها من أجل دعم بقاء الحرب في أوكرانيا على حساب مطالبهم المعيشيّة الأولية والأساسية، معبّرين أيضاً عن معارضتهم سياسة كل من الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، "ناتو".
قبل أيام قليلة، كانت المظاهرات الحاشدة تجتاح التشيك، وبعدها انتفض آلاف النمساويين في فيينا للتعبير عن السخط الكبير من فواتير الطاقة، بل ذهبوا إلى حد المطالبة بإسقاط العقوبات المفروضة على موسكو، وإبرام عقود مباشرة مع مورّدي الغاز، ومنهم روسيا.
وفي شوارع ألمانيا وإيطاليا وغيرهما من الدول الأوروبية، كانت موجات الغضب حاضرة، بحيث أُحرقت فواتير الغاز والكهرباء، مع اقتناع المتظاهرين بأنّ حتى حزم الدعم الحكومية لن تحميهم من نار الأسعار.
BREAKING: Massive demonstration in Prague in the Czech Republic against the government, soaring prices and the energy crisis.
— Wall Street Silver (@WallStreetSilv) September 3, 2022
Protesters threaten strike and coercive action if government doesn't resign by September 25 🚨
🔊 pic.twitter.com/1Q84L2YnPW
ولم يغب أسلوب القمع عن التظاهرات الأوروبية، بحيث تعرّض المتظاهرون في الساحات، مراراً، لاعتداءات من جانب الشرطة والأجهزة الأمنية، بذريعة قيامهم بأعمال شغب، بالإضافة إلى التحكم في القرار القضائي.
وفي ظل هذه الممارسات الحكومية، انتقدت منظمة العفو الدولية سياسة الدول الأوروبية في التعامل مع الشعوب التي خرجت من أجل حقوقها، قائلة إن "حكومات أوروبا تنتهك حقوق شعوبها من خلال قمعها المظاهرات، وسعيها لتقويض استقلال القضاء لتجنب المساءلة عن أفعالها". وجاء ذلك في الاستعراض السنوي الذي أجرته المنظمة لأوضاع حقوق الإنسان في المنطقة.
إقرأ أيضاً: معالم باريس مطفَأة بسبب أزمة الطاقة
مخاوف من تغيّر في الموقف الأوروبي
ضغوط شعبية كبيرة تتعرّض لها الدول الأوروبية بسبب موقفها تجاه الأزمة في أوكرانيا، تترافق معها مخاوف من تغير موقف تلك الدول حيال هذه الأزمة.
وذكرت شبكة "سي أن أن" الأميركية أنّ "الولايات المتحدة الأميركية تخشى أن تغيّر أوروبا موقفها تجاه روسيا وأوكرانيا تحت تأثير أزمة الطاقة مع حلول فصل الشتاء". ونقلت الشبكة، عن مسؤولين أميركيين، خوفهم من "الانقسام في أوروبا"، والذي يعدّونه "خطراً حقيقياً"، إذ يمكن أن "يثور المواطنون في أوروبا على الاستراتيجية الغربية لعزل روسيا اقتصادياً".
مسؤولون أميركيون قالوا أيضاً إن إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، تعمل من وراء الكواليس على إبقاء الحلفاء الأوروبيين متَّحدين ضد روسيا، مؤكدين أن هذه الخطوة "كانت انتقاماً بسبب فرض العقوبات الغربية عليها"، وأنها تضع الغرب في "منطقة غير معلومة" عندما يتعلق الأمر بما إذا كان لدى أوروبا ما يكفي من الغاز لتجاوز الشتاء.
كذلك، حذّر الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، ينس ستولتنبرغ، من أن أزمة الطاقة في أوروبا قد تؤدي إلى "اضطرابات مدنية" هذا الشتاء. واعترف بأنّ الشتاء "سيكون صعباً" على أوروبا، لأنّ العائلات والشركات تشعر بأزمة أسعار الطاقة المرتفعة وتكاليف المعيشة في الأشهر المقبلة، مشيراً إلى أنّ القارة ستواجه "شتاء قاسياً".
Germans rise up en masse. Demonstrations in many German cities against Olaf Scholz's policy and the sanctions against Russia that are leading Germany and beyond into the abyss. In the video Leipzig. It will be a very hot autumn in Europe and beyond. pic.twitter.com/anM4mAXmH1
— RadioGenova (@RadioGenova) September 5, 2022
وتُظهر الأبحاث أن تضخم الأسعار والحرب يؤججان الاضطرابات المدنية في جميع أنحاء العالم. ووفقاً لصحيفة "بلومبيرغ"، كشف التقرير، الذي أعدّته شركة المخاطر والاستشارات الاستراتيجية العالمية، "فيريسك مابلكروفت"، وشمل 198 دولة في إطار "مؤشر الاضطرابات المدنية"، أن 101 دولة أظهرت أخطاراً متزايدة في الربع الثالث من عام 2022، في زيادة هي الأكبر منذ إعداد الترتيب في عام 2016.
وتتزايد الاضطرابات المدنية في جميع أنحاء أوروبا، التي تستعد لمواجهة شتاء قاسٍ، وفقاً لـ"بلومبيرغ"، بسبب انقطاع الطاقة الناجم عن الحرب في أوكرانيا.
أمام هذه التصريحات والمخاوف، تجد الدول الأوروبية نفسها أمام خيارين: إمّا التخلي عن الغاز الروسي ومحاولة إيجاد بديل (وهذا ما أكد خبراء دوليون أنه لن يُجدي نفعاً في الوقت الراهن)، وإمّا إعادة التفكير في موقفها تجاه الأزمة في أوكرانيا. وفي الحالتين، لن تخرج أوروبا من الأزمة إلّا وهي معرّضة لخسائر، لكن بنسب متفاوتة.
وفيما يخص البديل، تُعَدّ الشركات النفطيّة الأميركيّة أحد البدائل المتاحة أمام الإدارة الأميركيّة، في حال تمّ استبعاد إمدادات النفط الروسي، غير أن هذه الشركات رفضت تلبية طلب الرئيس الأميركي، جو بايدن، بشأن زيادة إنتاجها، بحيث إنّها تتّجه حالياً نحو الاستفادة من ارتفاع أسعار النفط، الأمر الذي يؤشّر على أنه، في حال توقفت أوروبا عن شراء النفط الروسي، فلن تتمكن من التعويل على الوقود الأميركي، وفق ما ذكرته صحيفة "نيويورك تايمز".
وكانت واشنطن طلبت من الدوحة تزويد أوروبا بالغاز القطري، في حال انقطاع إمدادات الغاز من روسيا بسبب الأزمة في أوكرانيا، لكنّ قطر والدول المنتجة الأخرى أكدت،ـ خلال "منتدى الدوحة"، صعوبة استغناء أوروبا عن الغاز الروسي بصورة فورية.
اقرأ أيضاً: وزير الطاقة القطري: لا شيء يمكنه تعويض نقص إمدادات الطاقة الروسية
تدابير فاشلة
تبدو المحاولات الأوروبية للاستغناء عن الغاز الروسي في "أزمة حقيقية"، على رغم المساعي الأوروبية والأميركية التي لم تتوقف حتى الآن. حاولت الحكومات الأوروبية اتخاذ بعض التدابير وفرضها على المواطنين في أنحاء أوروبا، إذ وضع الاتحاد خطة لتقليل استهلاك الغاز بنسبة 15 في المئة هذا الشتاء، ولضمان امتلاء مخازنه من الغاز الطبيعي بنسبة 80 في المئة بحلول الأول من تشرين الثاني/نوفمبر.
ووضعت ألمانيا وفرنسا وإسبانيا قواعد تُلزم المباني العامة بأن تكون درجة التدفئة 19 درجة مئوية كحد أقصى في فصل الشتاء. وحددت فرنسا وإسبانيا أيضاً درجة الحرارة الأدنى لمكيفات الهواء في المباني العامة عند 26 درجة مئوية و27 درجة مئوية على التوالي، إلّا أن الفواتير الباهظة الثمن، والتي كانت الشرارة الأولى في بدء الاحتجاجات، لا تزال مرتفعة، فهل هذه التدابير ستكون حلاً ملائماً؟
انقسامات أوروبية في المواقف ظهرت بعد هذه التدابر. إسبانيا، من جهتها، رفضت مقترح المفوضية الأوروبية خفض استهلاك دول الاتحاد للغاز الطبيعي بنسبة 15% خلال الأشهر المقبلة. والموقف ذاته أبدته البرتغال التي أعلنت أنها لن تدعم الخطة التي اقترحتها المفوضية الأوروبية.
أمام هذا الانقسام الأوروبي، فإن التدابير التي اتخذتها أوروبا من شأنها أن تخفف قليلاً من التأثيرات السلبية لأزمة الطاقة، لكنها ليست حلاً بديلاً عن إمدادات الغاز الروسي.
كذلك، قرر عدد من الدول الأوروبية تشغيل محطات الطاقة التي كانت تعمل بالفحم قديماً، لكن القرار فجّر خلافات داخلية، وسط تساؤلات بشأن جدوى العودة إلى استخدام الفحم، وإن كان في إمكانه إنقاذ أوروبا من البرد، وسط تساؤلات بشأن تأثيره في التلوث والتغير المناخيّين، بينما وصفت دول أوروبية العودة إلى استخدام الفحم بأنّه خطوة "مريرة، لكن لا غنى عنها".
على رغم سعي دول أوروبا للتخلّص التدريجي من إمدادات الغاز من روسيا، فإنها تجد نفسها أمام "واقع مرير". وتوقعت صحف أجنبية عالمية صعوبة ترك أوروبا للغاز الروسي في الأعوام المقبلة، بحيث "ستستغرق القارة معظم العقد لتخليص نفسها من النقص في إمدادات الغاز الروسية". وفي القارة العجوز، ثمة خلافات بين الدول بشأن حظر الغاز الروسي، إذ أعلنت ألمانيا وهولندا، سابقاً، رفضهما هذه المقترحات.
سعى الأوروبيون، من خلال العقوبات التي فرضوها مع الولايات المتحدة، لتأليب الشعب الروسي على السلطة السياسية، إلا أن "الإجراءات الاحترازية" التي اتخذتها الحكومة الروسية، بالإضافة إلى موضوع الغاز، أعطت نتائج معكوسة. وها هي أوروبا، بعد 7 أشهر من بدء الحرب في أوكرانيا، تحاول تخزين الغاز من أجل تجنب كوارث الشتاء القارس، بينما بدا المشهد من الداخل الروسي، متكيّفاً مع الضغوط التي يفرضها الغرب.
لعلّ انتقاد بعض الدول الأوروبية العقوبات المفروضة على روسيا، ومطالبتها السريعة برفعها، يوضحان، إلى حدّ ما، الانقسام الأوروبي بشأنها، والمخاوف منها. وفي هذا السياق، قال رئيس وزراء هنغاريا (المجر)، فكتور أوربان، إنّ "العقوبات المفروضة ضد روسيا، قد تجبر أوروبا على الركوع على ركبتيها".