اختلاف استراتيجية العلاقات الدولية بين بكين وواشنطن.. أفريقيا كنموذج
القيادة والسيطرة والنفوذ والهيمنة مفاهيم رئيسية في الفكر الاستراتيجي الأميركي، فيما التعاون والشراكة، يحققان للصين أهدافها. كيف تُرجمت المفاهيم الاستراتيجية الدولية لكل من واشنطن وبكين في أفريقيا؟
ورد في الملخص الذي نشره البيت الأبيض عن الاستراتيجية الأميركية الدولية، أن "الولايات المتحدة تمتلك قوة ونفوذاً غير مسبوقين في العالم"، وأنه "يجب استخدام القوة العظيمة لهذه الأمة لتعزيز توازن القوى لمصلحة الحرية".
تعدّ مفاهيم القيادة والسيطرة والنفوذ والهيمنة مفاهيم رئيسية في الفكر الاستراتيجي الأميركي.
عملت الولايات المتحدة، منذ قرون، على مراكمة قوتها المتكاملة على الصعد كافة من البناء الداخلي لمؤسساتها السياسية وتعزيز قدراتها العسكرية، إلى تطوير بنيتها التحتية، وتنمية اقتصادها، ما أعطاها دافعاً للتوسع العالمي، والتوجه نحو أهداف كبرى، تقرها مجمل نظريات واشنطن الاستراتيجية.
تبنت الإدارات الأميركية المتعاقبة تلك المنظورات الاستراتيجية، وعملت على تحقيقها على أرض الواقع، وحشدت لها الأدوات والوسائل والمقومات كافة في سبيل تعظيم القوة، وتوسيع النفوذ والهيمنة والسيطرة، وقيادة مختلف المؤسسات الدولية والتحكم في قراراتها وتوجهاتها.
وخلف كل تدخل عسكري أميركي، بقعة من الثروات تحاول واشنطن السيطرة عليها. تستخدم الولايات المتحدة القوة الناعمة لتحقيق أهدافها، أو عبر قوتها الصلبة العسكرية، أو هيمنتها الاقتصادية وسيطرة عملتها على العالم.
في المقلب الآخر، هناك الصين، التي تجول دولاً حول العالم، وتفرض حضورها وتحقق أهدافها الاستراتيجية،لكن أساليبها تختلف عن تلك التي تتبنّاها واشنطن.
كانت واشنطن بالنسبة إلى بكين، المعلم السيئ، وحاولت الاستفادة من أخطاء الأخيرة في علاقاتها الاستراتيجية الدولية، واختارت أن تعتمد استراتيجية معاكسة، لتحقيق أهدافها.
أميركا في أفريقيا: نفوذ متعثر
معالم الاستراتيجية الأميركية الدولية، وفرض قوتها الناعمة والصلبة على حد سواء، تظهر جلية في القارة الأفريقية.
الصراع في إقليم تيغراي في إثيوبيا، استخدمت فيه الولايات المتحدة قوتها الناعمة عبر التدخل في شؤون البلد الداخلية.
وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة تنظر إلى حكومة إثيوبيا برئاسة آبي أحمد كحليف مهم، حاولت فرض عقوبات، تحت مسمّى الدفاع عن حقوق الإنسان، على أديس أبابا لدورها في صراع تيغراي، لكن واشنطن فشلت في توفير الدبلوماسية الكافية لإنهاء الصراع على الرغم من نفوذها في المنطقة، بعد أن منعت روسيا والصين بياناً لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة يدين عمليات أديس أبابا الحالية في إقليم تيغراي التابع لها، ما يُظهر تعزيز موسكو وبكين على وجه الخصوص نفوذهما في المنطقة.
كذلك، عبر قوتها الاقتصادية، قامت واشنطن بداية العام الحالي 2022، بفرض عقوبات غير مباشرة، بعد أن استبعدت إثيوبيا من برنامج للتجارة المعفاة من الرسوم الجمركية، بالإضافة إلى مالي وغينيا.
استخدمت الولايات المتحدة أيضاً قوتها الصلبة في أفريقيا، إذ كشفت سلسلة من التحقيقات قامت بها مجلة "ذا نيشن" الأميركية عدة انتهاكات قامت بها "أفريكوم"؛ القيادة الأميركية لأفريقيا، المسؤولة عن العمليات العسكرية الأميركية، بما في ذلك القتال في النزاعات الإقليمية والحفاظ على العلاقات العسكرية مع 53 دولة أفريقية.
أحد هذه التحقيقات كشف عن وجود تحقيق في الكونغرس الأميركي بشأن شنّ "أفريكوم" غارة جوية في نيجيريا أسفرت عن مقتل أكثر من 160 مدنياً.
العميد المتقاعد في الجيش الأميركي دون بولدوك، والذي خدم في "أفريكوم" من عام 2013 إلى 2015، وترأس قيادة العمليات الخاصة في أفريقيا حتى عام 2017، قال إنه "بين عامي 2013 و 2017، شهدت القوات الخاصة الأميركية قتالاً في ما لا يقل عن 13 دولة أفريقية: بوركينا فاسو والكاميرون وجمهورية أفريقيا الوسطى وتشاد وجمهورية الكونغو الديمقراطية وكينيا وليبيا ومالي وموريتانيا والنيجر والصومال وجنوب السودان، وتونس".
وتحدثت التحقيقات أيضاً، التي جاءت تحت عنوان "ملفات أفريكوم"، عن أن "البنتاغون يقلل ويتجاهل الاعتداء الجنسي العسكري في أفريقيا"، وتناولت "وجود تقارير لدى واشنطن موثوقة عن ضحايا مدنيين بعد هجماتها في الصومال، وأن الجيش الأميركي يقلل بشدة من عدد الضحايا المدنيين في الصومال".
وتحدث تحقيق آخر عن أن "البنتاغون يقف إلى جانب الكاميرون، على الرغم من تحليل الطب الشرعي الذي يُظهر أن جنوده قاموا بإعدام النساء والأطفال"، بحسب تعبير المجلة.
ولدى أميركا قواعد عسكرية في كل من جيبوتي، كينيا، النيجر، مصر، كاميرون.
في الوقت نفسه، تقدم الولايات المتحدة مساعدات مالية وإنسانية للدول الأفريقية، وتقوم باستثمارات عديدة.
وثيقة نشرها البيت الأبيض في 14 كانون الأول/ديسمبر الحالي، تحت عنوان "الشراكة بين الولايات المتحدة وأفريقيا في تعزيز التجارة والاستثمار في الاتجاهين"، تقول إنه منذ عام 2021، ساعدت الحكومة الأميركية في إبرام أكثر من 800 صفقة تجارية واستثمارية ثنائية الاتجاه عبر 47 دولة أفريقية بقيمة إجمالية تقدر بأكثر من 18 مليار دولار، وأغلق القطاع الخاص الأميركي صفقات استثمارية في أفريقيا بقيمة 8.6 مليارات دولار.
وفي القمة الأميركية الأفريقية الأخيرة، أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن عن أكثر من 15 مليار دولار في التزامات وصفقات وشراكات تجارية واستثمارية ثنائية الاتجاه. وكان بايدن أعلن في مقتبل فترة رئاسته أن إدارته تخطط لاستثمار أكثر من مليار دولار في التجارة والاستثمار والتنمية الاقتصادية في أفريقيا.
لكن، على الرغم من أن واشنطن تقدم أرقاماً كبيرة من المساعدات لكن "الدول الأفريقية لا تعدّ واشنطن شريكاً موثوقاً به"، بحسب ما أوردته صحيفة "ذا هيل" الأميركية.
ووفقاً للخبراء الذين قابلتهم الصحيفة، "ستكون المهمّة الأكثر صعوبة أمام الإدارة الأميركية هي أن تثبت للقادة الأفارقة أن الولايات المتحدة يمكن أن تكون شريكاً موثوقاً به، وطويل الأمد للقارة".
كما قالت "ذا هيل"، إن القمة التي دعي إليها زعماء دول وحكومات 49 دولة أفريقية، بالإضافة إلى ممثل الاتحاد الأفريقي، وفقاً لفكرة واشنطن، "تهدف إلى تعزيز العلاقات الأميركية بالدول الأفريقية، ومواجهة تأثير روسيا والصين في القارة".
وفي الوقت الذي تتعثر العلاقات الأميركية الأفريقية، تجول الصين دول العالم، وتقوم بشراكات وتعاون على مختلف الصعد، لكن باتباع أساليب مختلفة للوصول إلى أهدافها.
في مفهوم التأثير، يمكن للدول الاستفادة بنجاح من قوتها الوطنية للتأثير في سلوك الفاعلين السياسيين الآخرين. يمكن تحقيق ذلك من خلال تدابير القوة "الصارمة" التقليدية، مثل التهديدات أو الإكراه، أو من خلال القوة "الناعمة"، التي تمكن البلدان من إقناع الآخرين أو جذبهم لدعم مصالحهم.
أسس الحضور الصيني في أفريقيا
لطالما كانت البلدان الأفريقية محور تركيز الدبلوماسية الصينية منذ السنوات الأولى لجمهورية الصين الشعبية.
ابتداءً من منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، ولأسباب أيديولوجية، قدمت بكين مساعدة فنية ومالية لدعم حركات التحرير الثورية الأفريقية والمناهضة للاستعمار.
ثم، أعطى القادة الصينيون الأولوية، بدلاً من ذلك، لتنمية الصين الاقتصادية واستمرار الوصول إلى الطاقة والموارد الطبيعية الأفريقية. كما لعبت، بالمقابل، الدول الأفريقية دوراً رئيسياً في جهود بكين الدبلوماسية لتقييد الفضاء الدولي لتايوان، والاستفادة من الأصوات في الأمم المتحدة.
اليوم، تعتمد العلاقات بين الصين وأفريقيا على تعزيز الصداقة والتضامن والتعاون في التنمية المشتركة. تقول الأبحاث والدراسات التي تتناول العلاقات الصينية الأفريقية، إنها حيوية ثنائية الاتجاه، يتكيف فيها كلا الجانبين مع مبادرات السياسة والتصورات الشعبية المنبثقة من الآخر.
تتطلع الحكومات الأفريقية إلى الصين لتقديم الاعتراف السياسي والشرعية والمساهمة في تنميتها الاقتصادية من خلال المساعدات والاستثمار وتطوير البنية التحتية والتجارة.
ويأمل عدد من القادة الأفارقة أن تتفاعل الصين معهم بطرق لا تفعلها الولايات المتحدة والحكومات الغربية الأخرى، بحسب ما قاله مركز "راند للدراسات".
يصوّر القادة والحكومات الأفريقية عموماً المشاركة الصينية على أنها إيجابية. وتظهر استطلاعات الرأي أن الأفارقة لديهم آراء إيجابية بشكل عام عن الصين، وتعرب الحكومات الأفريقية بمعظمها عن دعمها لسياسة بكين "الصين الواحدة".
كان للمشاركة الصينية في أفريقيا بعض الآثار الإيجابية، منها خلق فرص العمل، وتطوير البنية التحتية التي تشتد الحاجة إليها، وزيادة النمو الاقتصادي، لا سيما في القطاعات أو المناطق الجغرافية التي كانت المؤسسات المالية الدولية والحكومات والشركات الغربية غير راغبة في الانخراط فيها.
في الوقت نفسه، لتعزيز علاقات مستدامة وطويلة الأمد في أفريقيا بشكل أفضل، زادت الصين من جهودها لتطوير القوة الناعمة مثل، وسائل الإعلام والثقافة والتبادلات بين الأفراد، وباتت الصين مانحاً رئيسياً للمساعدات.
يتحدى دور الصين في أفريقيا الصور النمطية التقليدية وعناوين الأخبار القوية، حتى صارت شريكاً دبلوماسياً راسخاً ومستثمراً جديداً في أفريقيا.
وتسعى الصين إلى دور أكثر إيجابية كمساهم في الاستقرار في المنطقة، للتخفيف من التهديدات المتعلقة بالأمن من خلال إطلاق "توقعات السلام والتنمية في القرن الأفريقي" في آذار/مارس 2022 لتسهيل عملية السلام بقيادة الصين في إثيوبيا والقرن الأفريقي.
ومنذ ذلك الحين، قام المبعوث الصيني الخاص إلى القرن الأفريقي شيويه بينج، بسلسلة من الزيارات السريعة إلى المنطقة.
وفي هذا السياق، زادت الصين مشاركتها في عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في أفريقيا منذ مهمتها الأولى في عام 1989، عندما راقبت الأمم المتحدة استقلال ناميبيا عن جنوب أفريقيا.
التعاون هو مدخل الصين إلى أفريقيا. في المؤتمر التاسع عشر للحزب الشيوعي الصيني في تشرين الأول/أكتوبر 2017، أطلق الرئيس شي جين بينغ، على تعزيز المصالح الاستراتيجية من خلال التعاون، مصطلح "القوة الناعمة ذات الخصائص الصينية".
تم تكييف مفهوم القوة الناعمة من كتابات الباحث الأميركي جوزيف ناي مطلع التسعينيات حول أهمية الثقافة والقيم والمثل العليا لتشكيل المعايير العالمية.
بمرور الوقت، أثار الموضوع اهتماماً شديداً في الصين. في عام 2017، تم انتخاب وانغ هونينغ، أحد كبار المؤيدين للقوة الناعمة، في أعلى هيئة في الصين، وهي اللجنة الدائمة للمكتب السياسي المكونة من ستة أعضاء.
قال شي في مؤتمر أكتوبر: "ستكون الصين زعيمة عالمية في القوة الوطنية والنفوذ الدولي. سنحسن قدرتنا على سرد قصصنا، وتقديم وجهة نظر متعددة الأبعاد، وتعزيز القوة الناعمة الثقافية للصين".
تسعى استراتيجية الصين الكبرى أيضاً إلى البناء وتوسيع نطاقها المالي خارج حدودها من خلال زيادة الاستثمارات من قبل الكيانات الخاصة والعامة. وتعد مبادرة "حزام واحد، طريق واحد"، التي تبلغ تكلفتها مليارات الدولارات، والتي تهدف إلى تعزيز البنية التحتية والتجارة وروابط التنمية بين الصين وأفريقيا ودول الخليج وآسيا وأوروبا، مركزية في هذا الجهد.
تعد أفريقيا أيضاً مصدراً للمعادن الأرضية النادرة والموارد الطبيعية الأخرى التي تعتبر ضرورية للنمو المستمر للاقتصاد الصيني.
علاوة على ذلك، تعدّ الصين أفريقيا شريكاً راغباً في قدرتها على التأثير في صنع القرار الدولي وتشكيله. إذ تقدم أفريقيا أكبر كتلة منفردة من الأصوات في الجمعية العامة للأمم المتحدة، ويجلس أعضاء منظماتها الإقليمية في مجموعة متنوعة من المؤسسات الدولية التي تسعى الصين للتأثير فيها لدفع أجندتها الدولية.
وكان مفهوم عدم التدخل في الشؤون الداخلية مبدأ مقدساً في سياسة الصين الخارجية. ولطالما اعتبرت فكرة إقامة علاقات خارج القنوات الرسمية بين الحكومات فكرة غير مقبولة.
أنشأت الصين 25 منطقة تعاون اقتصادي وتجاري في 16 دولة أفريقية وواصلت الاستثمار بكثافة في جميع أنحاء القارة في جميع أنحاء جائحة كورونا، وفقاً لتقرير حكومي حول العلاقات الاقتصادية والتجارية الصينية الأفريقية.
وتظهر الأرقام أن الاستثمار الصيني في أفريقيا آخذ في الارتفاع، إذ استثمرت الصين 2.96 مليار دولار أميركي في أفريقيا عام 2020، بزيادة 9.5% عن عام 2019.
وقال مسؤول صيني في نيجيريا في شباط/فبراير الماضي، إن بكين تخطط لاستثمار أكثر من 300 مليار دولار في أفريقيا لزيادة الصادرات الأفريقية والمساعدة في سد الفجوة التجارية الكبيرة مع الصين.