"القارة العجوز" تدخل حالة الركود.. كيف ستتأثر موقعية أوروبا السياسية؟

الإعلان الرسمي عن أرقام الربع الأول من العام 2023 كان شديد الوطأة على الدوائر السياسية في القارة العجوز، ولاقته الأوساط الصحافية والإعلامية باستياء كبير، لا سيما وأنّ المفوضية الأوروبية توقعت، الشهر الفائت، نمواً لبقية العام عبر منطقة اليورو.

  • القارة العجوز تدخل حالة الركود.. كيف ستتأثر موقعية أوروبا السياسية؟
    القارة العجوز تدخل حالة الركود.. كيف ستتأثر موقعية أوروبا السياسية؟

دخلت منطقة الاتحاد الأوروبي في الركود الاقتصادي "التقني" رسمياً، بعدما أعلنت وكالة الإحصاء التابعة للاتحاد الأوروبي "يوروستات"، في تقرير صدر اليوم الخميس، أنّ الناتج المحلي الإجمالي لدول الاتحاد جاء سلبياً خلال الربع الأول من العام 2023، للربع الثاني على التوالي.

وعلى الرغم من أنّ كثيراً من الخبراء الاقتصاديين والمؤسسات البحثية ومراكز الدراسات حذّرت خلال الفترة السابقة من أن الاتحاد الأوروبي يتجه نحو الركود الاقتصادي لأسباب عديدة، إلا أنّ الإعلان الرسمي عن أرقام الربع الأول من العام 2023، كان شديد الوطأة على الدوائر السياسية في القارة العجوز، ولاقته الأوساط الصحافية والإعلامية باستياء كبير.

إذ أشار موقع "بوليتيكو" الأميركي إلى أنّ "السياسيين الأوروبيين، الذين لطالما كانوا متفائلين تجاه قدرة القارة على مقاومة الضغط الاقتصادي الكبير، الذي مرّت فيه خلال السنوات الماضية، لا سيما بعد التعافي من أزمة "الركود الكبير" عام 2008 وبعد أزمة "كوفيد-19"، ظهروا اليوم كأنهم غير ناضجين في تحليلاتهم الإيجابية".

وكانت المفوضية الأوروبية قد توقعت، الشهر الفائت، نمواً لبقية العام عبر منطقة "اليورو"، وشاركتها "يوروستات" أيضاً تنبؤاتها "بنمو طفيف"، ولكنها عادت وخفّضت آمالها بأن تشهد القارة تحسناً، بعد أن أعلنت ألمانيا -أكبر اقتصاد في أوروبا- أواخر الشهر الماضي، أنها دخلت في ركود اقتصادي.

أسباب أساسية

وتبرز بين الأسباب الأساسية للانكماش الاقتصادي، حالة التضخم المستمرّ، التي أضيفت إلى ارتفاع أسعار الفائدة وانخفاض الطلب في البلدان التي تستخدم اليورو كعملة لها.

استمرار التضخم المرتفع

أدّى التضخم الذي وصل إلى 8.1% في نيسان/أبريل الفائت، وهو نفس المستوى الذي كان عليه في نفس الفترة من العام الماضي، إلى استمرار المعاناة المعيشية للمواطنين الأوروبيين، الذين فقدوا جزءاً غير بسيط من قدرتهم الشرائية، في وقت تتضاعف فيه أرقام فواتير الكهرباء والغاز والخدمات الأساسية، وهو ما يضاعف ثقل الأزمة على أرض الواقع.

رفع أسعار الفائدة

وأضيف التضخم إلى محاولات البنك المركزي الأوروبي دعم العملة عبر رفع أسعار الفائدة، في مجاراة للمسار الذي بدأ فيه الاحتياطي الفدرالي الأميركي، الذي رفع سعر الفائدة 0.25% الشهر الفائت، للمرة العاشرة توالياً خلال 14 شهراً.

وترتبط البنوك الأوروبية، بشكل وثيق، بنظيراتها الأميركية، ولذلك أصبحت نسبة الفائدة في بنوك أوروبا 5.25%، بعد أن كانت تقارب الصفر في آذار/مارس 2022.

اقرأ أيضاً: الاتحاد الأوروبي: سياسات واشنطن الاقتصادية تضرّ أوروبا وتفكّك سوقها

وهذا ما أدّى إلى جعل الاستثمارات ومخاطرها ورقة غير مربحة، وكدّس الأموال في البنوك، ما دفع لمفاقمة سرعة توجه الاقتصاد الأوروبي نحو الانكماش، في الربع الأول من العام.

فقدان الغاز الروسي

كذلك، أثّر فقدان الغاز الطبيعي الروسي بشكل هائل على الاقتصاد، لا سيما في الدول الصناعية مثل ألمانيا، وهو ما تسبب في ارتفاع أسعار الطاقة، واضطرت مئات المؤسسات الصناعية إلى إغلاق أبوابها، ليتورم التضخم مجدداً.

بالإضافة إلى ذلك، كشفت أرقام الوكالة الأوروبية التباين في التنمية الاقتصادية بين دول منطقة اليورو. ففي الوقت الذي حققت فيه لوكسمبورغ أقوى نمو ربع سنوي بنسبة 2.0%، وتلتها البرتغال بنسبة 1.6%، تمّ تسجيل انخفاضات حادّة في أيرلندا بنسبة 4.6%، وفي ليتوانيا بنسبة 2.1%، كما انخفض الناتج المحلي الإجمالي الفصلي لألمانيا بنسبة 0.3%.

زيادة الإنفاق على التسليح ودعم أوكرانيا

فاقمت الحرب الأوكرانية الأزمات الاقتصادية التي كانت تمرّ بها دول القارة الأوروبية والاتحاد. وبالإضافة إلى التأثر بالأضرار المباشرة وغير المباشرة للحرب، كقطع العلاقات مع روسيا وارتفاع أسعار الطاقة وأزمة اللاجئين، أدّى الموقف السياسي الأوروبي، المنخرط بقوة في الحرب، والمنحاز نحو الطرف الأوكراني، إلى مضاعفة آثار الحرب على أوروبا.

بشكل تقديري، بلغت المساعدات الأوروبية المعلن عنها لأوكرانيا، بمختلف أشكالها العسكرية والمدنية، نحو 15 مليار دولار أميركي، ويتوقع أن تصل إلى نحو 50 مليار دولار، خلال الفترة المقبلة، في حال التزمت أوروبا بتعهداتها لدعم أوكرانيا، بحسب مراكز التتبع والإحصاء.

كما أدّى الاستعمال المفرط للترسانات الموجودة إلى نفاد معظمها، حيث ارتفعت أصوات أوروبية مؤخراً تطالب بالتأكيد على إعادة تسليح الجيوش الأوروبية بشكل أفضل وأوسع، ما سيعني المزيد من الإنفاق شبه المغلق بين الحكومة وكبريات شركات السلاح، وسيحرم الحكومة من إمكانات الإنفاق على دعم القطاعات الخدمية والإنتاجية.

اقرأ أيضاً: التضخم في أوروبا مقلق.. والأسعار تستمر في الارتفاع

أبعاد وتداعيات الأزمة الاقتصادية الأوروبية

خلافات وإنقسامات في الأفق

يزداد الحديث بين المتابعين للشأن الأوروبي، بأنّ الاستمرار المتوقع للانكماش الاقتصادي في أوروبا، والذي يرجح البعض أنه قد يزداد سوءاً بحسب نتائج الحرب الجارية في شرق أوروبا، وبحسب الظروف المناخية للشتاء المقبل، سيؤدي إلى مفاقمة الخلافات الداخلية بين أعضائها، لا سيما وأنّ بعض الدول لا تزال ترى نفسها في موقع البعيد عن الحرب وآثارها القاسية، مقابل بلدان أخرى تعاني بشكل أكبر بكثير، كما أظهرت أرقام "يوروستات".

وسيعني استمرار حالة الركود الاقتصادي، فضلاً عن امكانية تفاقمها، لا سيما على أبواب الشتاء المقبل، أن القدرة الشرائية للمواطنين الاوروبيين ستستمر في التأكّل، مقابل زيادة الضغط على المعيشة، وهو ما قد يزيد في حجم الانقسامات بين المكونات السياسية الاوروبية، لا سيما مع ظهور اختلافات في الرأي بشأن الاستمرار في الحرب.

تراجع في الوزن السياسي.. مقابل واشنطن

وفي نفس السياق، يشير خبراء اقتصاديون إلى أنّ استمرار هذه الأزمة، سيرسّخ التبعية الاقتصادية الأوروبية للولايات المتحدة، وسيؤدي إلى ازدياد اعتماد عواصمها على واشنطن، سواءً في النقد أم في طبيعة التوجهات الاقتصادية وحجم التضحيات، التي يجب أن تبذلها القارة في الحرب التي تقودها واشنطن، ضد روسيا والصين.

وفي وقت تزداد فيه حاجة أوروبا إلى الصين لتحريك اقتصادها، سحبت أوروبا اعتراضها على خطة جو بايدن الاقتصادية في الولايات المتحدة، والتي كان يعارضها بشدة، الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، لأنها ستؤدي إلى نقل الصناعة من القارة العجوز إلى أميركا.  

وترمي السياسات الأميركية، بحسب ما بات واضحاً، إلى التركيز على الصراع مع الصين في الفترة المقبلة، مما يعني أنّ أوروبا، التي لم تبنِ حتى الآن سياسات مستقلة عن واشنطن، قد تتدحرج إلى مواجهة مع بكين على غرار الذي يجري الآن مع جارتها روسيا.

وهو ما يعني أنّ التركيز الأساسي للسياسات الأوروبية خلال الفترة المقبلة، قد يتجه نحو محاولة احتواء الأزمة الاقتصادية والسيطرة عليها، منعاً لخسارة القارة العجوز، لبقية وزنها السياسي وموقعيتها بين الأقطاب السياسية العالمية.

كما قد يؤدي الوضع الاقتصادي في أوروبا، في حال انزلق إلى مزيد من التدهور، نحو زيادة الضغط على الحكومات، للقبول بتسويات إنهاء الحرب في أوكرانيا، بأسرع وقت ممكن، وهو ما تزال ترفضه حتى الآن.

اقرأ أيضاً: "بلومبرغ": المحرك الاقتصادي الأوروبي ينهار

اخترنا لك