داليدا.. حضور دائم رغم الرحيل
في الـ3 من أيار/ مايو من العام 1987، تضع أيقونة الغناء الفرنسي "داليدا" حداً لحياتها وتقدم على الانتحار بجرعة مهدئات زائدة. تاركة خلفها حياة "لم تعد تُحتمل"، ورصيد من الفن والشهرة، لم يحظ به فنان عاصرها.
لم تنتهِ حياة النجمة العالمية داليدا برحيلها. فاليوم وبعد 34 عاماً على وضعها حداً لحياتها، لا تزال محط اهتمام الجميع. سيل من الأسئلة عن قصة حياة داليدا المليئة بالنجاح والألم. وعن سبب وفاتها ولماذا انتحرت. التكهنات كثيرة، وداليدا لم تترك خلفها سوى بضع كلمات في رسالة.
من هي الفنانة داليدا؟
الفنانة داليدا، هي يولاندا كريستينا جيغيليوتي، التي ستصبح لاحقاً "دليلة"، لتستقر بعدها على لقب داليدا. ولدت في 17 كانون الثاني/يناير من العام 1933، في حي شبرا بالقاهرة، لوالدين إيطاليي الأصل.
عائلة داليدا ونشأتها
تتألف عائلة داليدا من 3 أبناء وأبوين. كانت هي الفتاة الوحيدة بين صبيين، الأكبر اسمه أورلاندو Orlando والأصغر اسمه برونو Bruno، (لاحقاً استخدم برونو إسم شقيقه الأكبر أورلاندو كإسم فني وصار مدير أعمال داليدا). والدتها جوزيبينا، لم تعمل إلا بعد وفاة زوجها لتربي أطفالها. أما والدها بياترو Pietro فكان موسيقيّاً معروفاً في مصر، وعازف الكمان الرّئيسي في أوبرا القاهرة.
ديانة داليدا
عاشت داليدا طفولة عادية في عائلة مسيحية كاثوليكية تقليدية، تذهب إلى المدرسة والكنيسة. ولما صار والداها يضيقان عليها الخروج مع أصدقائها، وجدت طريقة للهروب من مراقبتهما. فكانت تتحجج بالذهاب إلى الكنيسة الصغيرة لممارسة طقوسها الدينية، لكنها في الواقع، كانت تذهب للقاء "أرماندو" فتىً من أصل إيطالي، وهو حبها الأول. والذي غنت له لاحقاً في أغنية "حلوة يا بلدي" حين أنشدت "أول حب كان في بلدي، مش ممكن أنساه يا بلدي.. في أيام زمان قبل الوداع".
طريق داليدا إلى الشهرة
بداية، خضعت داليدا لرغبة والدها بأن تكون لها حياة عادية. إلى أن توفي إثر جلطة دماغية، فبدأت تتطلع إلى تحقيق حلمها بالتمثيل والشهرة. هذه المرة، منعتها والدتها، وبسبب ظروفهم الاقتصادية الصعبة، أجبرتها على تعلم الطباعة على الآلة الكاتبة، لتعمل لاحقاً سكرتيرة في شركة أدوية.
حلم التمثيل لم يفارقها. لذلك وبعد فوزها بلقب "Miss ondina" في العام 1951، قررت الاشتراك بمسابقة ملكة جمال مصر. هذه المرة، كانت والدتها المحافظة جداً هي العقبة أمام اشتراكها في مسابقة تظهر فيها شبه عارية، بملابس السباحة. عندها، قررت المشاركة من دون علم والدتها. تذرعت بالذهاب لزيارة إحدى صديقاتها، ثمّ إلى حمام السباحة، حيث تجري المسابقة وشاركت فيها، لتحصل المفاجأة الكبرى. لقد فازت داليدا بلقب ملكة جمال مصر للعام 1954. وبذلك، لاح لها أول أمل بتحقيق حلمها.
الوالدة غضبت كثيراً عندما رأت صورة ابنتها بثوب السباحة، على الصفحات الأولى للصحف. فالأمر كان بمثابة فضيحة لعائلة محافظة، لكنها تقبلت الأمر مع مرور الوقت.
داليدا والبحث عن الشهرة في باريس
ليلة عيد الميلاد في 24 كانون الأول/ ديسمبر في العام 1954، سافرت داليدا إلى باريس رغم معارضة والدتها. عانت كثيراً بعد وصولها إلى مدينة الأضواء، فلم توفق بإيجاد طريقها إلى السينما الفرنسيّة.
رجعت إلى القاهرة لتعود إلى فرنسا بعد فترة، وكانت أدت بعض الأدوار في 3 أفلام مصرية.
داليدا تحترف الغناء وتتخلى عن التمثيل
في فرنسا التقت بمدرب الأصوات، رولاند برجيه، الذي أقنعها بالاهتمام بالغناء، حين رأى فيها المغنية أكثر من الممثلة. فبدأت تتلقى دروساً بالغناء، وتم اكتشاف صوتها الرائع. وسرعان ما تمّ اختيارها لتقديم العروض في الشانزيليزيه ولاحقاً في فيلا ديست.
في تلك الفترة، اشترى رجلاً يُدعى برونو كوكاتريكس، مسرح الأولمبيا الفرنسيّ، وأقام فيه عرضاً فنّياً منوّعاً عنوانه: The Number Ones of Tomorrow، ودعا داليدا للمشاركة والغناء فيه.
قبلت داليدا دعوة برونو وقدّمت أغنية Stranger in Paradise، كما تعرّفت خلال تلك المناسبة على المدير الفني لإذاعة Europe1 لوسيان موريس والمنتج الموسيقيّ إيدي باركلي، اللذين أُذهلا بأدائها، فقرّرا تبنيها فنيّاً، وكانت داليدا عاملاً أساسياً في نجاح أعمالهما مستقبلاً.
في تلك الفترة كانت تعرف داليدا بإسم دليلة، فطلب منها أحد أصدقائها أن تغيره لأنه عدواني، فقررت أن تمزج إسمها بالولادة يولاندا مع دليلة، فكانت "داليدا".
في العام 1986 عادت إلى مصر لتكون "صديقة" بطلة فيلم "اليوم السادس" ليوسف شاهين . لكن الفيلم لم يحقق الإرادات المتوقعة.
خيبات داليدا العاطفية
رغم كل النجاح والشهرة في مهنتها، طارد الفشل داليدا عاطفياً. بدأت مع لوسيان موريس، الذي تزوّجته ثم انفصلا بعد أقل من عام، وقيل إنها تركته لوقوعها في غرام الرسام جان سوبيسكي، والذي تركها بعد عامين من الصداقة، انتحر لاحقاً مع صديقته بعادم السيارة بسبب تراكم ديونه. أما زوجها لوسيان موريس فانتحر بطلق ناري، بعد فشل زواجه الثاني.
لكن قصة الحب الأكثر تأثيراً في حياة داليدا، كانت مع المغني الإيطالي الشاب لويجي تينكو، الذي دعمته ليحترف الغناء. فشل في مهرجان سان ريمو في كانون الثاني/يناير من العام 1967 في تقديم أغنيته، فأقدم على الانتحار في غرفته في الفندق. داليدا هي من اكتشف جثته.
بعد تلك الحادثة، حاولت داليدا الانتحار في فندق أمير ويلز بباريس، بتناول جرعة زائدة من المهدئات، لكن الأطباء تمكنوا من إسعافها.
أرادت تخطي تجربتها المؤلمة مع تينكو، فتعرفت إلى شاب إيطالي يدعى لوسيو. كان لا يزال طالباً، يبلغ من العمر 22 عاماً. بعد أن حملت منه، قررت إجهاض الجنين، لعدم اقتناعها بأن العلاقة متكافئة بينهما. أجرت عملية الإجهاض في إيطاليا، وتسببت لها بعقم دائم، ما زاد من اكتئابها في أواخر أيامها.
لم تكف داليدا عن البحث عن الحب. ففي بداية السبعينيات من القرن الماضي، ارتبطت بالشاب مايك برانت، ودعمته، حتى صار مغنياً معروفاً، لكنه هو أيضاً انتحر في نيسان/أبريل من العام 1975.
في 4 نيسان/أبريل من العام 1983 انتحر صديقها الفنان ريتشارد شانفري، الذي كثيراً ما شاركها حفلاتها غناءاً.
داليدا وفرانسوا ميتران
في نهاية سبعينيات القرن الماضي، عاشت داليدا قصة حب سرية مع القيادي (آنذاك) في الحزب الاشتراكي الفرنسي فرانسوا ميتران، الذي سيصبح لاحقاً رئيساً للجمهورية الفرنسية. كانت داليدا في قمة شهرتها وعطائها.
رغم سرية تلك العلاقة، تحدثت عن تلك القصة صديقة داليدا، جاكلين بيتشال، التي أصدرت في العام 2007 كتاب "داليدا، كنت تناديني بأختك الصغيرة".
في أكثر من مقابلة، قالت بيتشال إن داليدا عاشت في العام 1979 قصة حب مع فرنسوا ميتران. وقالت إن داليدا "اعترفت مرة بعلاقة حب تجمعها مع رجل رائع ومثير للإعجاب. تزوج في سن صغيرة جداً، ولكن مركزه لا يسمح له بالطلاق، ويعيش الزوجان علاقة حرة... اسمه فرانسوا".
كيف تعرفت داليدا إلى فرانسوا ميتران؟
تعارفا في منتصف السبعينيات من القرن الماضي. عندما غنت داليدا أمام حشد من الحزب الاشتراكي.
منذ اللقاء الأول، أحست داليدا بانجذاب كبير لهذه الشخصية اللامعة والمثقفة. أما فرانسوا ميتران، فلم يخف سعادته بسحر هذه الشقراء الرائعة.
بعد اللقاء الثاني في "شاتو شينون" معقل ميتران الإشتراكي، بدأت داليدا بالدخول إلى دائرة ميتيران الضيقة. وولدت الصداقة بين السياسي والنجمة.
إلى أي مدى وصلت هذه الصداقة؟ لم يعلق أي منهما على الأمر مطلقاً، فقد اقتصرت تصريحات داليدا على إبراز تقديرها للشخص الذي يقف وراء السياسي الماهر. بينما كان ميتيران سدأّ منيعاّ امام من يحاول التعرف أو التدخل في حياته الخاصة.
أورلاندو، شقيق داليدا الأصغر، لم يؤكد ولم ينف وجود علاقة غرامية بين داليدا وميتيران. وقال في إحدى المقابلات، إن "هذه القصة تخص شخصين ما عادا بيننا، بصراحة، لست قادراً على الإجابة على هذا السؤال".
لكن بيتشال تروي أنه بعد تلك الحفلة، "كان ميتيران يزورها سراً في منزلها في مونمارتر، وكان يتحمل الكثير من المخاطر لزيارتها، خصوصاً عندما لا يجد مكاناّ ليركن سيارته".
كانت داليدا فرحة وسعيدة بهذه القصة، إلى أن بدأت تأتيها مكالمات مجهولة، وكتابات غريبة على الجدران، وتجد رسائل مهينة في حديقتها. ففضلت الابتعاد قليلا، والانطلاق بجولة فنية في الخارج.
لم تستمر قصتهما طويلاً. وفقاّ لجاكلين بيتشال، فقد طلب ميتران من داليدا برسالة، ألا تذكر قصتهما علناً، حتى لا تؤذي حياته المهنية. الأمر الذي جرح داليدا كثيراّ. فردت داليدا على هذا الطلب، خلال إحدى الأمسيات التي تواجد فيها ميتران في العام 1983. تجاهلته وطبعت قبلة على وجنة جاك شيراك، الذي كان آنذاك عمدة باريس. وبذلك، قلبت داليدا صفحة ميتران.
آخر قصة حب عاشتها داليدا كانت مع الطبيب فرانسوا نودي. هذه العلاقة تسببت بأكبر جرح لها، لأنها ولأول مرة يتم التخلي عنها.
شقيق داليدا ومدير أعمالها أورلاندو، قال خلال مقابلة مع مجلة "Télé-Star" الفرنسية، إن "حالها انقلب رأساً على عقب، بعد فشل علاقتها الأخيرة مع الطبيب فرانسوا نودي، وكانت تلك النقطة التي أدت إلى فيضان الكوب، أرادت أن تترك صورة جميلة عنها، صورة تعبر عن مجدها… إنه خيار داليدا الدائم".
وفاة داليدا
لم يأتِ الموت إلى داليدا كما استدعته في أغنيتها الشهيرة، je veux Mourir Sur Scène ، أي: أريد أن أموت على المسرح.
إختارت داليدا طريقة موتها، وهي في قمة شهرتها ولكن وحيدة، على سريرها، ماتت داليدا بآلم وحزن عميقين، وليس على المسرح وتحت الأضواء وهي تغني، كما تقول في الأغنية.
لماذا انتحرت داليدا؟
يقول شقيقها أورلاندو "كانت شقيقتي تعيسة منذ طفولتها، وثمة أمور عدة دفعتها إلى الإقدام على ما لا يمكن التراجع عنه".
المقربون من داليدا يقولون إنها عانت من اكتئاب مزمن. عاشت طيلة حياتها صراعاً، بين يولاندا الصغيرة وبين داليدا النجمة الفاتنة. الرجال، انجذبوا إلى النجمة، ليكتشفوا لاحقاً يولاندا الصغيرة الأكثر بساطة ولطافة والتي تحب ملازمة منزلها.
يجمع أصدقاء داليدا على أن فشل علاقتها بالطبيب والشعور العميق بالوحدة والفراغ العاطفي الكبير، بالإضافة إلى الحرمان من الأمومة. كانت خلف إقدامها على الانتحار.
"كنت أنا المرأة العاشقة تغار من داليدا المغنية التي جعلتني في كل مرة، أفوت فرصة بناء حياتي كما أريد"، قالت داليدا في إحدى مقابلاتها.
بالإضافة إلى ما سبق "لم تتقبل دالي تقدمها بالعمر.. وكانت تتجنب الحديث عن عمرها"، تقول صديقتها المغنية الفرنسية لين رونو.
صديقها المغني الفرنسي سيرج لاما، يعتبر أن الصراع بين يولاندا السمراء الشرقية وداليدا الشقراء الغربية، جعل الفنانة تعيش صراعاً داخليا لم تتمكن من تجاوزه.
كيف قضت داليدا آخر ليلة في حياتها؟
ودعت داليدا معجبيها بآخر لقاء معهم، وقالت لهم "مهما فعلت.. سامحوني".
كعادتها قبل النوم، سرحت شعرها، وأزالت الماكياج، وارتدت بيجامتها البيضاء. داليدا التي تخاف من النوم في العتمة، للمرة الأولى والأخيرة، أطفأت الأنوار ونامت للأبد. بعد أن تناولت جرعة زائدة من الأقراص المهدئة. تركت بجانبها ورقة كتبت عليها "الحياة لم تعد تحتمل.. سامحوني.. داليدا".
في الـ3 من أيار/ مايو من العام 1987، أُعلنت وفاة داليدا عن عمر ناهز 54 عاماً. دفنت في مقبرة مونمارتر في باريس. صنعت لها الحكومة الفرنسية تمثالاً بحجمها الطبيعي، نُصب على ضريحها. كما أصدرت طابعاً بريدياً باسمها في العام 2001.
ساحة داليدا
في مونمارتر، حيث عاشت داليدا في منزلها، أُطلق على الساحة إسم "ساحة داليدا" مع تمثال نصقي من البرونز.
إعتادت داليدا ارتياد مطعم Le Moulin De Galette، بالقرب من منزلها، خاصة يوم السبت. صاحب المطعم ووفاء لذكرى داليدا كتب على طاولتها "هذا المكان لن ينساكِ".
رصيد داليدا الفني
بحسب موقعها الرسمي، فإن داليدا سجلت نحو الـ1000 اغنية. وغنت بـ9 لغات، حصلت داليدا على عدد ضخم من الجوائز، منها 14 جائزة من فرنسا، وتسع من إيطاليا، وواحدة من البرازيل، واثنتان من إسبانيا، وواحدة من بلجيكا، وواحدة من ألمانيا، واثنتان من تركيا.
أبرز تلك الجوائز هي الأسطوانة الماسية، التي كانت أول من ينالها.
موقع داليدا الرسمي الذي يشرف عليه شقيقها أورلاندو، وككل عام في ذكرى رحيلها يوجه لها تحية بفيديو يتضمن صورها وأعمالها.
هذه السنة التحية كانت على وقع أغنية "mourir sur scene"، مع مشاهد من حفلاتها ووداعها. تحية لفنانة غنّت ورقصت فمنحت الناس سعادة لم تعرف معناها أبداً.