في دمشق.. مآتم مفتوحة للثقافة
من "ميسلون" إلى "اليقظة"، وصولاً إلى "نوبل"، والحبل على الجرار.. لماذا تقفل مكتبات دمشق أبوابها؟ وأيّ مستقبل للمعرفة في غيابها؟
بعد 13 عاماً على احتفالية (دمشق عاصمة للثقافة العربية)، غابت مكتبة "نوبل" عن المشهد الثقافي في العاصمة إلى الأبد، وأقامت الأوساط الثقافية مأتماً افتراضياً عبّر فيه الكتّاب والأدباء والمثقفون وحتى القرّاء وروّاد المكتبة عن عظيم حزنهم. إذ لأول مرة، ومنذ نصف قرن، توصد المكتبة أبوابها المشرّعة أمام أخلائها.
لم تكن "نوبل" أول مكتبة تغلق أبوابها في دمشق، إذ إن قطار الإغلاق سبق الحرب السورية بسنوات، لكنها كانت تمثل آخر قلاع الكتب العريقة المملوكة للقطاع الخاص، وبها تشتدّ المخاوف من ملاقاة شقيقاتها نفس هذا المصير المشؤوم.
هكذا ودّع المؤرّخ والكاتب الدمشقي سامي مبيّض إغلاق المكتبة بتدوينة على صفحته على موقع فيسبوك. كان وداعاً أشبه برثاء:"تُضاف مكتبة نوبل إلى سلسلة من المكتبات الشهيرة التي أغلقت أبوابها في السنوات القليلة الماضية، مثل "ميسلون" المجاورة لمكتبة "نوبل" ومكتبة "اليقظة" عند مقهى "الكمال"، التي أصبحت محلاً لبيع الأحذية، أو مكتبة "الذهبي" في الشعلان التي تحوّلت إلى محل لبيع الفلافل. لا أعرف كمية المقاهي في دمشق اليوم، لكنها وبالتأكيد تفوق عدد المكتبات بأضعاف مضاعفة. لقد أصبحت مدينتنا اليوم، دمشق التي كانت قبلة للكتّاب والناشرين في زمن مضى، أصبحت معقلاً للنراجيل".
وتعتبر مكتبة "نوبل"لصاحبيها جميل وإدمون نزر من أعرق مكتبات العاصمة السورية. تقع وسط المدينة مقابل "فندق الشام"، ولها علاقات وطيدة مع الكتّاب والمؤلّفين والقرّاء والمثقّفين منذ أكثر من نصف قرن.
وذكرت مصادر صحفية أن قرار إغلاق المكتبة يعود إلى أسباب شخصية، ترتبط بهجرة أحد الشقيقين إلى كندا، وعدم إمكانية متابعة شؤون المكتبة من قبلهما. وبإغلاق "نوبل" بقيت جارتها "المكتبة العمومية" الكائنة في الشارع نفسه أسفل فندق الشام، تقاوم تقلّبات الدهر رغم قساوته.
مكتبة "النوري" تقاوم المصير الأسود
تعدّ مكتبة "النوري" من أقدم مكتبات دمشق، تأسّست عام 1932 على يد محمد النوري. كان محمد أمّياً لا يجيد القراءة والكتابة عندما امتهن بيع الصحف، إلى أن تمكّن من إنشاء مكتبته الخاصة، واتسعت المكتبة مع الوقت حتى احتوت على 50 ألف عنوان. تقع المكتبة اليوم في مركز العاصمة مقابل مكتب البريد.
في مقابلة مع الميادين الثقافية، يوضح عمر النوري صاحب مكتبة "النوري" بأن المكتبات في دمشق تأثّرت بالأزمة الاقتصادية في البلاد. فالناس باتت تتّجه لاقتناء الكتب الإلكترونية المقرصنة في معظمها، ما أدّى إلى تراجع الطلب على الكتب الورقية، وهو ما دفع الكثير من المكتبات إلى اعتزال مهنتها الأساسية، والتوجّه نحو مهن أخرى كالمطاعم وغيرها.
ينوّه النوري إلى أن أصحاب المكتبات باتوا يفضّلون المهن الأخرى بالمقارنة مع مهنة بيع الكتب لانخفاض مبيعاتها، فأية مهنة أصبحت أفضل من العمل في مكتبة. إذ قد ينتظر أرباب المكتبات سنوات حتى يبيعون بعض أنواع الكتب بحسب طلب الزبائن.
يصف النوري المشهد بأنه "مأساوي"؛ فالكتب أصبحت باهظة الثمن، بشكل يدفع القرّاء إلى السؤال عن سعر أيّ كتاب قبل شرائه، وبخاصة الكتب التراثية والدينية، في حين أن الروايات ما زالت تلقى رواجاً بين الزبائن.
يقول النوري: "تضاعفت أسعار الكتب أكثر من 100% وبخاصة المستوردة لارتفاع تكاليف الطباعة وأسعار الورق وأجور الطباعة، وأيضاً تُسعّر الكتب المستوردة بعملة البلد المصدر".
يَعِد النوري باستمرار عمل المكتبة رغم كل المصاعب: "ورثنا المكتبة عن والدنا وطالما نحن موجودون فيها سنحافظ عليها ولن نبيعها، لكن الجيل الناشئ حالياً يبحث عن الربح السريع ولذلك يفكّر بمهن أخرى".
في نهاية اللقاء يطلعنا النوري -وهو يجلس خلف طاولته-على كتيّبات قديمة لمراسيم وقرارات وقوانين حكومية مطبوعة بورق أصفر اللون يعود تاريخ بعضها إلى زمن الرئيس السوري الأسبق أديب الشيشكلي. حيث كان يباع كل كتيّب ببضعة قروش سورية فقط.
مكتبة "تنبكجي" برسم التسليم
في "مكتبة أديب تنبكجي"، القائمة على مقربة من شارع بيروت وسط العاصمة السورية، يقوم عامر تنبكجي يومياً بمساعدة والده على تصريف أمور المكتبة قبل أن تغلق أبوابها نهائياً.
يعود تنبكجي بالذاكرة خلال لقائه مع الميادين الثقافية إلى الفترات الذهبية لمكتبته حيث يقول: "كنا سابقاً نعمل بنشر الكتب ونشارك في المعارض الخارجية والداخلية، لكن نتيجة الظروف الحالية ارتفعت التكلفة خاصة الورق والحبر، كما أصبح تأمين الكتب من مصر ولبنان صعباً، في حين باتت أسعار الكتب غير منطقية من وجهة نظر القرّاء".
ويعتبر تنبكجي أن توافر النسخ الإلكترونية كبديل عن الكتب الورقية على شبكة الإنترنت ساهم في عزوف القرّاء عن شراء الكتب من المكتبات.
"أصبحنا نبيع أدوات القرطاسية والهدايا كي نعوّض النقص في مبيعات الكتب"، يشير عامر الذي يؤكّد أنه "إلى جانب انخفاض مبيعات الكتب ارتفعت الضرائب والإيجارات بشكل لا يتناسب مع المردود المحقّق من عوائد المكتبة، لذلك اضطررنا إلى وضع المكتبة اليوم "برسم التسليم"، ومن الممكن أن نحوّلها إلى مهنة أخرى غير بيع الكتب مع الأسف، رغم أننا هنا منذ العام 1960، ولدينا شهرة وزبائن يعرفوننا".
لا يبيع عامر أحياناً أكثر من 10 كتب أسبوعياً في أحسن الأحوال، لكن الإقبال على القرطاسية أفضل بكثير.
قرصنة الكتب وغياب الدعم المادي
يتأسّف وحيد تاجا مدير المكتب الإعلامي في مكتبة "دار الفكر"على إغلاق مكتبة "نوبل"، وقبلها "ميسلون"و"اليقظة العربية". المكتبات العريقة التي عاصرت أهل دمشق، من الواضح أن أسباب إغلاقها تعود إلى عزوف الناس عن القراءة وارتفاع أسعار الكتب، والوضع الاقتصادي الذي نعرفه. فالمكتبات لم تعد تستطيع تأمين تكاليف تشغيلها حتى استحالت مطاعم ومقاه، كما يرى تاجا.
ويتمنّى تاجا ألا تطال أزمة المكتبات "دار الفكر"، وهي من أقدم المكتبات بعمر 63 سنة وتقع في منطقة البرامكة بالقرب من مشفى التوليد الحكومي، على الرغم من أن الأزمة التي تعيشها سوريا حالياً تنعكس على كل شيء، وتحديداً على الكتاب، لأن "الناس يفكّرون في تدبّر أمور حاجاتهم الأساسية اليومية".
لكن تاجا يلفت إلى أن "بعض الناس ما زالوا مستمرين بشراء الكتب لكن على مستوى ضيّق جداً"..
ويبيّن المسؤول في مكتبة "دار الفكر"أن المكتبات تتحمّل تكاليف الكتب من دفع حقوق للمؤلّف ودار النشر والترجمة، لكن البعض، بكل بساطة، يعمل على قرصنة الكتب وتصويرها ثم بيعها، وهو يساهم في تفاقم أزمة المكتبات. فمكتبات مثل "دار الفكر" و"نوبل"، لا تستطيع منافسة مكتبات الأرصفة (الشارع)، رغم أن الأخيرة ظاهرة تاريخية ومنتشرة عالمياً و"نتمنّى استمرارها، لكن لا يجوز لها بيع كتب مقرصنة بشكل تغفل فيه حقوق المؤلّف ودار النشر".
ويؤكّد تاجا أن الحكومات في كل دول العالم، تدعم وتساعد دور النشر وأيضاً الجامعات تدعم الباحثين وكتبهم. هذا يجب أن يحصل وإلا فإن مصير الإغلاق قادم خلال السنوات القليلة المقبلة.
ويرى تاجا أنه: "يفترض عندما يطبع أيّ كتاب جديد تشارك المؤسّسات الحكومية ومنها وزارة الثقافة في شراء كمية من النسخ وتوزيعها على المراكز الثقافية، ومراكز الأبحاث والجامعات، وهو أمر يساعد على انتعاش الكتّاب والمؤلّفين".
ويشير إلى أن الروايات أكثر الكتب مبيعاً في الأسواق، رغم كل الأزمات، وفي المرتبة الثانية الكتب الطبية، ثم الكتب المرجعية بحسب الدارسين لكل اختصاص. ثم كتب الأطفال، "لأن الناس بدأت تدرك أهمية هذه الكتب، وهناك إقبال جيّد عليها وبخاصة إذا كانت الكتب ذات جودة مرتفعة".
يذكر أن دمشق تضمّ في أحيائها القديمة "المكتبة الظاهرية" التي أسّسها الظاهر بيبرس، لتكون أقدم مكتبة مفتوحة للعامة في سوريا منذ العصر المملوكي، لكن العاصمة اليوم تقف شاهداً على جنازة أعرق مكتباتها في التاريخ المعاصر.