رثاء الأبناء في الشعر العربي
لثم قمصان وليل طويل ووحدة قاتلة.. كيف رثى الشعراء العرب أولادهم؟
فَقْد الأحبّة غربة، والغربة المقصودة هنا هي غربة الروح لا الجسد، وهي أقسى أنواع الوجود. تكون حاضراً غائباً في الوقت ذاته. حياً وميتاً. أنت ولست أنت، فكيف إذا كان جرح الفَقْد قلوب الآباء والأمّهات؟ حينها يصبح العمر خريفاً دائماً، وصقيعاً قاتلاً لا يذيبه إلا دفء اللقاء بالفقيد، لذا كان لشعر الرثاء طعم آخر، وصبغة مختلفة.
وهنا سنذكر بعض الشعراء العرب الذين هزمهم موت أبنائهم عبر الزمن، فسلّمهم إلى الألم فريسةً يستلذّ بها، وأطلقوا صرخات عميقة جداً، توغّلت في التاريخ لتعبّر عن عويل الروح كيف ينطق، ويتجسّد شعراً يقطر دمعاً ووجعاً.
البداية مع أحيحة بن الجلاح، الشاعر الذي عرف ببأسه وقوّته، واستبساله في حربه ضدّ الخزرج، وانصرافه إلى جمع المال، لم يتوان يوماً عن الخوض في أية معركة، ولم تركعه الظروف مهما صعبت، لكننا سنجده ضعيفاً أمام فَقْد ولده. دموعه غزيرة، وقلبه مفجوع، وليله طويل، ووحدته قاتلة:
ألا إن عيني بالبكاء تهلّل
جزوع صبور كل ذلك تفعل
فإن تعتريني بالنهار كآبة
فليلي إذا أمسى أمرّ وأطول
أما الحارث بن عباد فيتحرّق ألمًا على ولده "بجير" الذي قتل غدراً، وهو يسعى إلى الإصلاح بين قبيلتي بكر وتغلب، وأنشد قصيدته المشهورة "مربط النعامة"، دعا فيها إلى الثأر لولده:
قل لأمّ الأغرّ تبكي بجيراً
حيل بين الرجال والأموال
ولعمري لأبكيّن بجيراً
ما أتى الماء من رؤوس الجبال
وأشابوا رأسي بقتل بجير
قتلوه ظلماً بغير قتال
لهف نفسي على بجير إذا ما
جالت الخيل يوم حرب عضال
يا بجير الخيرات لا صلح حتى
نملأ البيد من رؤوس الرجال
نستطيع من خلال هذه الأبيات أن نقرأ جرحاً موجعاً جداً. إنها حسرة الأب على إبن مظلوم، جرّدته الحياة من هويّتها، وغدا تائهاً لا يعرف إلا درب الانتقام ممّن حرموه نبض قلبه. لذا نجد اجتماع الحقل المعجمي للبكاء والحزن والتوعّد بالثأر "تبكي، لأبكيّن، أشابوا رأسي، لا صلح، نملأ البيد من رؤوس الرجال".
وتجدر الإشارة هنا إلى سيطرة الرغبة بالثأر الناتجة من عادات الجاهلية، لأنها سمة أساسية من سمات ذلك العصر، إضافةً إلى الخوف من إظهار الضعف أمام الأعداء، فذلك عار كبير، يتبعه الخوف من العدم والفناء في ظلّ الصراع العنيف مع الموت الذي يواجهه الجاهلي يومياً في الغزوات، ونقص المياه، وغيرها من العوامل الطبيعية والبشرية.
ولننتقل الآن إلى زهير ابن أبي سلمى الذي فجع بإبنه سالم، ونذكر هنا بيتين فقط:
وعندي من الأيام ما ليس عنده
فقلت: تعلم إنما أنت حالم
لعلّك يوماً أن تراع بفاجع
كما راعني يوم النتاءة سالم
نتبيّن في هذين البيتين فاجعة عظيمة، إذ كان موت ولده المفاجئ صدمة كبيرة حفرت في روحه عميقاً.
ثم الشاعر أبو ذؤيب الهذلي الذي رثى أبناءه الخمسة، وقد فقدهم بسبب وباء جرفهم بقسوة، ولم يرحم شبابهم، ولا دمع أب فاض حتى كاد يغرق العالم:
أودى بني فأعقبوني حسرةً
بعد الرقاد وعبرةً لا تقلع
فعبرت بعدهم بعيش ناصب
وإخال إني لاحق مستتبع
ولقد حرصت بأن أدافع عنهم
وإذا المنية أقبلت لا تدفع
وإذا المنية أنشبت أظفارها
ألفيت كل تميمة لا تنفع
نقرأ هنا التسليم بقضاء الله وقدره، لأنه كان مستعدّاً ليبذل نفسه في سبيلهم، لكن المنية اختارتهم، فأنشبت أظفارها فيهم، وكأنها وحش مفترس، وتركته للصراع مع جفاف العالم حوله، منتظراً حتفه الذي تمنّاه قريباً جداً، ليستريح من تخبّطه القاتل، خصوصاً وأنه شاعر مخضرم، آمن بالتعاليم الإسلامية، فسلّم أمر حزنه إلى الله سبحانه. إذ بدأ الرثاء في عصر صدر الإسلام يخرج من دائرة الخوف من الموت، ليدخل في دائرة الرضا بحكم الله، مع ما يصحب ذلك من ألم الفراق واللوعة.
ومثل أبي ذؤيب كان جرير حين رثى إبنه سوادة، يقول:
قالوا نصيبك من أجر فقلت لهم
من للعرين إذا فارقت أشبالي
لكن سوادة يجلو مقلتي لحم
باز يصرصر فوق المرقب العالي
فارقتني حين كفّ الدهر من بصري
وحين صرت كعظم الرمّة البالي
الهمّ يأكل روحه، وبات ضعيفاً جداً بفقد ولده القوي، وبليت نفسه، وما عادت قادرةً على العيش الطبيعي، ولا النظر إلى الدنيا بعين الأمل، لكأنها قد ألقت بأحمالها على كاهله، وتركته هشّاً جداً.
وحين نتحدّث عن إبن الرومي، تستحضر أذهاننا تلقائياً تلك القصيدة التي رثى بها ولده محمّد، فتجد الدموع مسارها إلى القلب والعين سريعاً، لأنها من أجمل قصائد الرثاء:
بنيّ الذي أهدته كفاي للثرى
فيا عزّة المهدى ويا حسرة المهدي
ألا قاتل الله المنايا ورميها
من الناس حبّات القلوب على عمد
توخّى حِمام الموت أوسط صبيتي
فلّله كيف اختار واسطة العقد
طواه الردى عني فأضحى مزاره
بعيداً على قرب قريباً على بعد
نلاحظ في هذا النصّ سلاسة واضحةً، ووضوحاً في الألفاظ، وعمقاً في المعاني والأبعاد الدلالية. التلاعب في الألفاظ وإيراد التناقضات مكّنا الشاعر من نقل ما يتصارع في داخله من آلام وحسرات، وفي عتابه الموت على اختياره أوسط أبنائه، نجد تضرّعاً كبيراً، وبكاءً داخلياً عالياً إلى درجة أن القلب يسمعه مباشرةً، لأنه أصابه في الصميم، ولا سبيل إلى الحياة من بعده، فهذا القريب قبره البعيدة روحه، ما أفجع رحيله، وما أطول رحلته وأمرّها!
ولإبراهيم بن المهدي نصيب من معاناة الفَقْد، وما أتعسه وقد ودّع بعضاً منه وواراه الثرى، فما عادت عينه قادرةً إلا على رؤية الغروب، ودموعه لا تعرف التوقّف عن التدفّق:
نأى آخر الأيام عنك حبيب
فللعين سح دائم وغروب
يؤوب إلى أوطانه كل غائب
وأحمد في الغياب ليس يؤوب
وكان نصيب العين في كل لذّة
فأمسي وما للعين فيه نصيب
نقرأ العاطفة الجارفة والنكبة النفسية التي ألمّت به، بعدما فارقته شمس حياته، ولن يستطيع رؤية حبيبه مرةً أخرى، لذا انطفأ ضوء عمره، فأحمد لن يعود من الغياب البعيد.
وفي رثاء بشّار بن برد إبنه محمداً، نرتّل آيات الحزن والاستسلام لمشيئة الرحمن:
كأني غريب بعد موت محمّد
وما الموت بعده بغريب
صبرت على خير الفتو رزئته
ولولا اتقاء الله طال نحيبي
دعته المنايا فاستجاب لصوتها
فلّله من داع دعا ومجيب
نؤمل عيشاً في حياة ذميمة
أضرّت بأبدان لنا وقلوب
الغربة سيّدة الموقف، والصبر على البليّة، والنظر إلى المنيّة على أنها العدو القاسي الذي لا يرحم القلوب المتوسّلة أبداً، وذمّ الحياة التي صارت جحيماً، كل هذا يصوّر مأساة الشاعر بشفافية عالية وصدق كبير.
ولإبن عبد ربه نصيب في الفَقْد والموت، إذ رثى إبنه يحيى:
واكبداً قد تقطّعت كبدي
وحرقتها لواعج الكمد
يا رحمة الله جاوري جدثاً
دفنت فيه حشاشتي بيدي
لا صبر لي بعده ولا جَلَد
فجعت بالصبر منه والجَلَد
للموت أشكال غريبة وعنيفة، وهذه أعنفها وأغربها، أن تفقد ذاتك وأنت موجود جسدياً، وأن تجزأ وأنت تنظر بعينين مصدومتين، وأن تنفى وأنت في أرضك ووطنك، فأية معجزة يمكن أن تلملم أشلاءك المبعثرة وقواك المحطّمة، حينها لا صبر يداوي، ولا جَلَد يبعث الموتى من جديد.
وانتقالاً إلى عصر الحداثة، كان لا بدّ من الوقوف عند رثاء الشاعر السوري نزار قباني إبنه توفيق، ليشهد هذا الفن الأدبي أسمى مشاهد التعبير عن هذه المعاناة البشرية الإنسانية، وأرقّ المعاني في تصوير الفجيعة، لقد انفتح على أمداء واسعة، لأن الشاعر أعطاه معنى شمولياً، فجعل من قصيدة رثاء ولده قضيةً عامةً تجاوزت حدود المنزل والوطن، لتصل إلى كل منزل عربي. استطاع قباني نقل صورة الغربة ومرارتها، وكأنه يتحدّث بلسان كل من يفقد عزيزاً بعيداً من وطنه، ويصف عجزه التام وانكساره الكبير، مستعيناً في ذلك بحقل الطبيعة، لأنها الأكثر قدرة على تجسيد بساطة الإنسان وهو في قمّة الحزن، حيث لا مؤثّرات خارجية، ولا مجاملات، إنه الحزن الخالص فقط:
أشيلك يا ولدي، فوق ظهري
كمئذنة كسرت قطعتين..
وشعرك حقل من القمح تحت المطر..
ورأسك في راحتي وردة دمشقية.. وبقايا قمر
أواجه موتك وحدي..
وأجمع كل ثيابك وحدي
وألثم قمصانك العاطرات...
ورسمك فوق جواز السفر
وأصرخ مثل المجانين وحدي....
هذا جزء بسيط من قصيدة عظيمة، تحمل تحوّلاً كبيراً في قصيدة الرثاء العربي. فقد منح قباني قصيدته طاقةً تعبيريةً هائلة، تتفجّر منها التأويلات، لأنها ذات أبعاد ودلالات جديدة، ولم يكتف بالتعبير عن مشاعره فقط، بل قدّم أيضاً صورة ولده المفقود على أنه ذو فرادة، كأنه لوحة حقيقية في حديقة الحياة، لا شبيه له في جماله.
هذه المبالغة منحت الشعر طابعاً مميّزاً، ومكّنته من الإيغال في قلب المتلقّي بسهولة ويسر، فتجد نفسك عاجزاً عن منع دموعك من التمرّد والانهمار. ووصف الحب في بلادنا.
ومع غسان مطر الشاعر اللبناني المعاصر، في رثاء ابنته "لارا"، في ديوانه "عزف على قبر لارا"، يظهر التجديد جلياً أيضاً، فما عادت العبارات سطحية، إنما اكتسبت عمقاً كبيراً جداً، فكانت أرحب في التعبير عن الحزن العظيم الذي انتابه لفقده ابنته:
قبر ووجهك؟ كيف يلتقيان؟
ما كان أحلى أن يقال:
قمر ووجهك...
آه أحلى،
غير أن دمي المسافة
بين ما كان...وما يقال
لم يكن الشاعر قادراً على تقبّل فكرة نوم ابنته الأبدي في ذلك القبر، وهي التي يليق بها الفضاء الشاسع بكل ما فيه من جمال، لكن عبثاً هذه الأمنيات تطوف في ذاته المنكسرة.
وكان للشاعر العراقي خالد الداحي نصيب من الحزن والبكاء على ولده محسد أيضاً، ففي قصيدته "بكاء عند بوابات الموصل" نقرأ تلك اللوعة الجارفة:
يا فارساً عشق الصهيل
فملّ أخمصه الركاب
"حول" فقهوتنا الدموع
وزادنا وجع مذاب!
وأنا يتيمك ضائعاً
أمشي ويخدعني السراب
لقد شبّه ولده بالفارس الذي ملّه الركاب، فمضى بعيداً إلى حيث لا عودة، وبين ما آلت إليه أحواله بعد غيابه عنه، إذ وصل إلى مرحلة اليتم من الحياة كلياً، يبحث في صحرائها عن أمل ضائع، فإذا كل ما حوله سراب قاتل.
في الخلاصة، يشكل الرثاء أجمل الفنون الشعرية، لأنه نابع من مشاعر صادقة جداً، وفي أوقات يكون الإنسان فيها يائساً خاضعاً لسلطة الوجع والموت، ولا تحتمل الكذب والنفاق والمجاملات، لذا جاء عفوياً تملأه العاطفة المتدفّقة التي تشدّك إليها بكل ما فيك من إنسانية، فكيف إذا كان رثاء الأبناء؟
تقرأه فتنتابك نوبة البكاء الحاد والاحتراق. إذ يتجلّى لك الموت النفسي في كامل هيئته، ولا داعي للتكلّف، والصنعة، والتقنيات، وربما لا قدرة عليها. فالشعراء في مثل هذه الحال ينشغلون بمآسيهم عمّا عداها، والأمر المنطقي المعروف، أن الإنسان عندما يكون في صلب الحدث تكون رؤيته محدودة، لأنها من زاوية واحدة فقط، وهو غير قادر على الإلمام بكل ما يحيط به، أو النظر بعين العقل والإدراك، وهذا ما لاحظناه في شعر الرثاء. إنه يضجّ بما يشغل الشاعر فقط، عاطفة صارخة، وبكاء وتفجّع، وندب ومطالبة بالثأر كما عند الحارث بن عبّاد، لأن هذه الفكرة منغرسة في كلية الجاهلي ولاوعيه، ولا يستحضرها في تلك اللحظات.
ومع دخول عصر الإسلام، نلاحظ تسليماً بقضاء الله، فما عاد الموت مخيفاً، وما عاد العدم والفناء مصدر قلق، بل صار الموت مرتبطاً بالآخرة إلى جوار الله، خصوصاً مع الشهادة في سبيله.
والملفت في هذا الشعر أيضاً التركيز فقط على موضوع واحد، وترك المقدّمات الطللية.
أما مع عصر الحداثة وما بعدها، فنجد تطوّراً في فن الرثاء، ولا غرابة في ذلك، لأن الشعر عموماً تأثّر ويتأثّر بالتغييرات الجذرية على صعيد العالم، من حيث الشكل والمضمون، لأن الموضوعات المطروحة يجب أن تلائم عقلية الإنسان في هذا الزمن وهو إبن بيئته، لذا نقرأ لغةً شفّافةً إلى أبعد الحدود، محمّلةً بالكثير من الدلالات بعيداً من المباشرة والسطحية في التعبير.