الأزمة "تخمد" لهيب آخر فرن للزجاج اليدوي في دمشق
"مشغل أبو أحمد"، آخر معمل زجاج يدوي في دمشق مهدد بالإقفال بسبب شحّ المحروقات.. تعالوا نتعرف إلى واحدة من أقدم المهن في العاصمة السورية.
على الطرف المقابل لسور "باب شرقي" الأثري، يقع "مشغل أبو أحمد"، آخر معمل زجاج يدوي في دمشق. حافظت العائلة على مهنة الأجداد من الاندثار، وتأجَّجت نار الفرن المصنوع من الآجر على مدى عقود، لكنها انطفأت مع اشتعال الحرب في البلاد، بعدما تحوَّلت المنطقة المحيطة إلى ساحة معركة.
في العام 2017 أوقد آل الحلاّق فرنهم مجدَّداً، قبل أن يُجبرهم شحّ موارد الطاقة مؤخّراً على وقف أعمالهم.
يجلس أحمد الحلاّق (65 عاماً)؛ "شيخ كار" مهنة النفخ والتصليح الزجاجي اليدوي في دمشق؛ على كرسي بالقرب من فرنه المنطفِئ. يبدو المكان هادئاً وبارداً على غير عادته، فلا نار من دون محروقات.
يقول أبو محمود لـ "الميادين الثقافية":"إن أفران الزجاج عليها أن تعمل طوال اليوم؛ لأن ساعة انطفاء واحدة تعادل 4 ساعات اشتعال. أثناء انقطاع مادّة المازوت يتوقّف الفرن عن العمل، ونضطر إلى إيقاده 10 ساعات من جديد كي يطرى الزجاج، وهذه خسارة كبيرة".
ما قبل الأزمة السورية، عاشت حرفة صناعة الزجاج اليدوي فترات مزدهرة
ويوضح الحلاّق أنه: "يُسبِّب نقص موارد الطاقة تأخّر تسليم الطلبات لأشهر، البعض يقدِّر الظروف الحالية، لكن في حالات معيّنة نحن ملتزمون بالعقد القانوني والموعد النهائي للتسليم". كما انعكس الأمر على العمال الذين يحصلون على أجورهم بحسب كمية الإنتاج، بَيْدَ أن توقّف العمل لبضعة أسابيع يكبِّدهم خسائر في ظلّ محدوديّة الأرباح.
منذ أكثر من نصف قرن والمعمل لم يقفل أبوابه، على الرغم من توقّف الفرن عن العمل 7 سنوات مع بدء الأزمة السورية. استؤنِف الإنتاج في العام 2017؛ لكنه توقّف مرة أخرى منذ شهرين تقريباً بسبب شحّ الوقود، ويعتمد المعمل على مادّة المازوت الصناعي الضرورية لتشغيل الفرن، وفق مخصَّصات محدَّدة تؤمّنها "الجمعية الحرفية" في دمشق، لكنها غير متوافرة الآن.
ويتطلّب عمل الفرن من 180 إلى 200 ليتر مازوت يومياً وسط نقص في المحروقات تعاني منه البلاد منذ سنوات، وهو ما برَّرته "وزارة النفط والثروة المعدنية" بالعقوبات الاقتصادية المفروضة على البلاد، ومنع وصول التوريدات البحرية.
وحدَّدت "وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك" سعر مبيع الليتر الواحد من مادّة المازوت الصناعي والتجاري في شهر تشرين الأول/ أكتوبر من العام الجاري بـ 1700 ل.س، فيما صرَّح رئيس "غرفة صناعة دمشق وريفها"، سامر الدبس، في آب/أغسطس الماضي إن معظم المعامل تغلق أبوابها الخميس والجمعة والسبت نتيجة عدم توافر المازوت، داعياً إلى اجتماع مع لجنة النفط بغرض التوصّل إلى سعر منطقي للمازوت الصناعي؛ بحسب ما نقل موقع "الوطن أونلاين" المحلّي.
ويقول "شيخ الكار" أبو أحمد: "سعَّرت الحكومة ليتر المازوت الصناعي بمبلغ 1700 ل.س، بينما سعره في السوق السوداء لا يقلّ عن 6 آلاف ل.س؛ بالمقابل لن أستطيع زيادة سعر قطعة الزجاج كي أعوِّض ارتفاع تكاليف الإنتاج الناشئة حديثاً".
عاشت الحرفة - ما قبل الأزمة السورية - فترات زمنية مزدهرة؛ إذ كان عدد العمّال وحجم الفرن والإنتاج أكبر مما هو عليه الآن؛ وعلاوة على ذلك كانت السوق المحلية تستوعب نصف الإنتاج؛ بعد أن اعتادت الفنادق والمطاعم الكبرى في دمشق على اقتناء القطع الزجاجية من المعمل وفق نموذج خاص بكل منها، لكن الحال انقلبت نتيجة الأزمة وتراجع القطاع السياحي، والتضخّم العام في الأسعار؛ بما في ذلك أسعار القطع الزجاجية.
وشكّلت دول الجوار والخليج منافذ مهمّة لتصريف الإنتاج وتحقيق الأرباح في فترات سابقة، أما اليوم فالشحن والمواصلات شبه مقطوعة، وما زالت فرنسا تتسلم حالياً بعض الطلبات على الرغم من وجود صعوبات عديدة في التصدير.
يروي الحلاّق بداياته الأولى مع صنعته الدمشقية التي عشقها وأفنى عمره من أجلها. إنها "مهنة تراثية ورثتها عن والدي وعملت فيها قرابة 52 عاماً ومازلت مستمراً فيها". ألمّ الحلاّق بأسرار الحرفة في عُمر 14 عاماً، وبذل جهوداً لتوريث أولاده مهارات العمل في ما بعد؛ إلا أنهم لم يمتلكوا رغبة كافية للتعلّم، وبخاصة مع غياب برنامج تعليمي واضح المعالم، و"هي مهنة تتطّلب 5 سنوات من التدريب، ولا يمكن اختزالها في دورات شهرية قصيرة ".
ويجد الزجاج اليدوي نفسه في صراع غير متكافئ مع معامل الزجاج الآلي والبلاستيك، "لكن القطع اليدوية تراثية، كما أن القطعة الشامية لها رونق وجاذبية خاصة"، كما يرى أبو محمود. ويذكر الحلاّق أن مهنة الزجاج اليدوي ضمّت 30 حرفياً سابقاً، بينما لا يتجاوز عددهم اليوم أصابع اليد الواحدة تقريباً، أما معامل الزجاج في دمشق، فلم يبقَ منها سوى معمل العائلة الحالي.
عرفت الحضارات القديمة في الشام والعراق ومصر فن صناعة الزجاج اليدوي
وتعتمد مراحل إنتاج الأواني الزجاجية على تعمير الفرن بقطع الآجر، ثم جلب شظايا الزجاج وفرزها. بعد تكسير الزجاج وتنقيته من الشوائب يُوقَد الفرن مدة 5 ساعات حتى يتوهَّج اللهب، ثم يقذف العمّال كمية من الزجاج في داخل الفرن حتى يمتلئ وتركه في الشيّ، وهنا تمضي 24 ساعة على عمل الفرن.
ويتألّف الفرن من أقسام عدّة: الأول يُرمى فيه الزجاج بحرارة 1200 درجة مئوية، وفي القسم الثاني يُصهَر الزجاج بحرارة 1000 درجة مئوية حتى يتحوّل إلى عجين.
"هنا تظهر براعة الحرفي بالتعامل مع القطعة"، كما يعقّب الحلاّق، بعدها يُنقَل الزجاج إلى منطقة الشيّ (المشواية) بدرجة حرارة 500 درجة مئوية، ولا يجب أن يتعرَّض للبرودة المفاجئة كي لا يتكسَّر، وبعد تعبئة عربة الشيّ بالزجاج يحرّكها العامل على سكّة لتنخفض حرارتها تدريجاً إلى أن تتناسب مع درجة حرارة الجو خارجاً، وتصبح القطعة جاهزة للعمل في اليوم الثاني، كما يمكن استعمال الأصبغة الملوّنة حسب طلب الزبائن.
عرفت الحضارات القديمة في الشام والعراق ومصر فن صناعة الزجاج اليدوي، وجاء في كتاب "تاريخ الفنون والصناعات الدمشقية" لتوفيق يوسف بولاد الذي ترجمه وأعدَّه إلياس بولاد أن الدكتور جورج كونتونو Conteneau المحافظ المساعد في دائرة الآثار الشرقية في "متحف اللوفر" في باريس؛ ينسب في كتابه: "حضارة الفينيقيين" لمصر شرف اكتشاف الزجاج الذي يعود إلى العهد الأول لمملكة طيبة، ويؤكّد أن الفينيقيين الذين كانوا يصنعون الزجاج الفاخر نقلوا طرائق صنعه إلى المصريين، ويضيف أن أصناف الزجاج الذي صنعه الفينيقيون يضاهي تلك التي كانت تخرج من ورشات فينيسيا (البندقية) في العصور الوسطى.
اليوم، يعلّق أحمد الحلاّق آماله على توافر المحروقات بشكل كافٍ وبسعر مناسب، كي يوقد الفرن طيلة اليوم في أسرع وقت ممكن، ويعود لمتابعة شغفه في نفخ قطعه الزجاجية العجيبة.