مار جرجس والتنّين ... تفوّق الخير على الشر
برغم اختلاف الروايات حول مار جرجس إلا أن جوهرها يبقى واحداً.
القدِّيس مار جرجس أو "أمير الشهداء" في الديانة المسيحية، اكتسب شهرة ومحبّة وتبجيلاً لم يحظ بها أقرانه من القدِّيسين والشهداء. لم تقتصر هذه المكانة على الديانة المسيحية، بل حظيَ بتقدير الديانة الإسلامية الذي عُرِفَ في أوساطها باسم "السيّد الخضر"، وذلك يرجع إلى قصة القدِّيس وتضحياته في سبيل ما يؤمن به ويعتقد.
استحوذ مار جرجس على اهتمام الرسّامين والفنانين بحيث نجد أعمالاً فنية كثيرة جسَّدت قصصه، في الفترة التي كانت فيها القصص الدينية تسيطر على الأعمال الفنية المختلفة، كما كانت مجال تنافُس بين الفنانين عموماً والرسّامين بشكلٍ خاص.
اختلطت وتشعَّبت الحكايا التي تروي قصة هذا القدِّيس، بين تلك الحامِلة للطابع الديني وبين بعض السِيَر الأقرب إلى الأساطير منها إلى الحقيقة، ويتداولها الناس في ما بينهم، فأصحبت من الموروثات الشعبية للكثير من الدول والمناطق والشعوب حول العالم.
والسِيَر على تنوّعها تروي شجاعة وتفاني مار جرجس، ولذلك لا تخلو دولة في العالم من كنيسةٍ أو ديرٍ بإسمه تقديراً له.
مار جرجس ... عذابات وتضحيات
يصعب تحديد تاريخ ولادة القدِّيس مار جرجس بشكلٍ دقيق، لكن تتّفق المراجع على أنه ولِدَ في النصف الأول أو الثاني من القرن الثالث، في إقليم كبادوكيا في آسيا الصغرى، ومن هنا ترجع تسميته بـــ "جرجس الكبادوكي". كَبُرَ مار جرجس وسط عائلة واسعة الثراء والمكانة والنفوذ، فقد كان والده الأمير أنسطاسيوس حاكِماً لمدينة ملطية، ووالدته الأميرة ثيؤبستي إبنة الأمير ديونسيوس حاكِم مدينة اللد في فلسطين. تلقّى من والديه تربية قائمة على الإيمان المسيحي والتعاليم الروحية، انعكست على شخصيته وحياته لاحقاً.
بعد وفاة والده وانتقاله في سن العاشرة مع والدته وأختيه كاسيا ومدرونة إلى فلسطين، في الفترة التي عيّن فيها الأمير يسطس حاكِماً على فلسطين، أخذ الأخير على عاتقه تربية القدِّيس تربية مسيحية صالحة وإلحاقه بسلك الجندية وكذلك تعليمه الفروسية، وبذلك أضحى الأمير يسطس أباً للقدِّيس الذي مكث معه عشر سنوات. ومن جانبه أظهر مار جرجس شجاعة فائِقة وكفاءة دفعت الأمير يسطس إلى توكيله بخمسة آلاف جندي وإشراكه معه في حُكم فلسطين.
بعد وفاة يسطس ذهب مار جرجس إلى مدينة صور في لبنان لمقابلة الإمبراطور داديانوس الفارسي والتحدّث إليه في أمور تخصّ الجندية ، وللمطالبة بالاستمرار في تسلّم مقاليد الحُكم في فلسطين من بعد الأمير يسطس. لكن الحال التي كانت فيها المدينة لم ترض القدِّيس. فالإمبراطور داديانوس كان يُعاقِب كل مَن يرفض عبادة الأصنام، وذلك جاء في منشوره المَلَكي الذي قرَّر فيه هَدْم الكنائس، وحَرْق جميع الكتب المُقدَّسة وطرد المسحييين من وظائفهم في الدولة.
هذه الأحوال دفعت مار جرجس إلى تمزيق المنشور أمام الامبراطور وحاشيته ما أثار غضب الأخير، ومن هنا بدأت قصة القدِّيس مع العذابات والظلم الذي تعرَّض له، لكنه بقي مُتمسِّكاً بإيمانه ورفض التخلّي عن مُعتقداته، ومن هنا ونظراً لتضحياته، لُقِّبَ القدِّيس مار جرجس بــ "أمير الشهداء".
تفوّق الخير على الشر
طغى الطابع الديني على الأعمال الفنية في عصر النهضة، ويُعدّ الرسّام رفائيل أو رفائيلو سانزيو من أعظم رسّامي عصر النهضة في إيطاليا، الذي تتميَّز أعماله بالرقّة والعُمق وبفيضٍ المشاعر والحساسية، فصوَّر الأحداث والموضوعات التي تحمل جانباً دينياً ومنها الرموز الدينية. وكان له العديد من اللوحات منها لوحة القدِّيس مار جرجس والتنّين التي رسمها في نسختين بين عامي 1504- 1506.
تحكي اللوحة القصّة الشهيرة التي حصلت في مدينة سيلين في ليبيا، عن تنّين كان يعيش في بحيرة، ولكي يحمي أهل المدينة أنفسهم من براثنه كانوا يقدِّمون له خروفين يومياً. وعندما قلّ عدد الخِراف اتفق الأهالي أن يقدِّموا له خروفاً واحداً وإنساناً كل يوم يتمّ اختياره عن طريق القُرعة. وفي يوم وقعت القُرعة على الأميرة إبنة الملك لتصبح القربان المُقدَّم للتنين حزن الملك حزناً شديداً ما دفع القدِّيس والفارس مار جرجس الذي يتمتَّع بالشجاعة والشهرة الواسعة في المدينة، إلى القدوم مُمتطياً جواده وقد ارتدى درع القتال والخوذة النحاسية ومُمسِكاً رمحه، لينقذ الأميرة من التنّين.
تتشابه هذه الرواية مع الرواية الروسية، لكن الأخيرة تختلف عنها في المكان وبعض التفاصيل. فهي تذكر أن الحادثة حصلت شمال بيروت، في منطقة سكانها من الوثنيين، حيث كان هناك تنّين ضخم إتّخذ من النهر مسكناً له، الأمر الذي انعكس سلباً على حياة أهالي المنطقة، وذلك لتعذّر وصولهم إلى مصدر المياه الوحيد ولوجود كائن مُفترِس في منطقتهم. لذلك بدأوا بتقديم الخِرفان والتضحية ببعض السكان، ليخرج التنّين من النهر، لكن مار جرجس خرج لمواجهة التنّين وتغلّب عليه حماية للناس، وهو ما دفعهم إلى اعتناق المسيحية تعبيراً عن امتنانهم له.
تُفسِّر إحدى الروايات الأيقونة الخاصة بمار جرجس من ناحية رمزية، بحيث لا ترجع الأيقونة لأية قصة حقيقية، بل تفسّرها على أنها تحمل معان ورموزاً تتعلّق بالصراع في الفترة التي عاش فيها القدِّيس. فالأميرة التي تظهر في الخلف تشير إلى الكنيسة التي تفخر بشجاعة أبنائها، والتنّين يشير إلى الشيطان والشر، وهزيمته تعني انتصار الخير على الشر، أما القدِّيس مار جرجس فيرمز للشجاعة والإيمان.
يعتبر البعض أن الأيقونة مُستوحاة من أسطورة فرعونية عُمرها آلاف السنين وهي أسطورة إيزيس وأوزوريس وإبنهما حورس، حيث صوّر قديماً على شكل صقر وهو يمتطي حصاناً ويطعن ست إله الشر الذي يظهر على صورة تمساح بالحربة.
اهتمّ الكثير من الرسّامين والفنانين في تصوير مار جرجس في أعمالهم فنجد الكثير من اللوحات التي تروي قصة للقدِّيس والتنّين والأميرة، وأعمال فنية أخرى تصوِّر القدِّيس والتنّين فقط من دون أيّ ظهور للأميرة، لذلك تتشابك وتختلف الروايات حول قصة مار جرجس والتنّين، إذ يعتمد البعض على تفسير اللوحة ذاتها من دون الرجوع لأصل القصة.
وبرغم اختلاف الروايات والقصص حول مار جرجس وما وراء الأيقونة من حكايات، إلا أن جوهر القصة يتمثّل بتفوّق الخير على الشر.
ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك المقالات والتحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]