نساء في الأرض

كثيرات هنّ النساء اللواتي يمثلن التراث الثقافي والاجتماعي والسياسي للشعوب. في بعض الدول التي سأتحدث عنها هنا، تحضر المرأة الرمز التي لا تبخل على الأبناء والزوار بعاطفة الأمومة، لكنها أيضاً تمتلك العزيمة الكافية للذود عن وطنها وشعبه. نُصُب تمثل المرأة الأم التي تحتوي الوطن وتحميه كما تحمي أطفالها. أرادت الشعوب أن تفصح أن الوطن هو الأم.

أم الجورجيين في تبيليسي

... ثم توقف "مينا" ليصرخ لي بلهجته المصرية: "يا فرح، بُصّيّ! إنتِ شُفتي الخالة فوق؟" لم أتوقف، لم أنظر، لم أعلم عماذا يتحدّث. كان مينا شاباً كثير "الهزار" (المزاح)، سمرته تبدو وكأن الشمس قد أحرقت بشرته وتربّصت بها قبل أن يولد. طويل القامة، يزيّن بنصريه خاتمان من الفضة في أوّلهما حجر أخضر اللون وفي ثانيهما حجر أسود اللون. كان دخان سيجارته الذي ينفثه في الهواء ثقيل الرائحة، بخيس الثمن، كثير الأمل! كنت أمشي بعيدة منه متفادية الدخان.

كان هذا في نهاية الصيف في تبيليسي عاصمة جورجيا التي شعرت بها مالحة الجمال. فهي مدينة صغيرة بعيدة من البحر، تنطوي على كثير من القصص والمعالم التاريخية، الشلالات والمغارات، الكنائس والمسجد الحديث، البساطة والأبّهة. حتى أنّ فن الشوارع والفنان الإسلامي والبيزنطي تسللوا إلى أحيائها، فوجدت نظري وقد تاه يمنة ويسرة بحثاً عن تفاصيل. كانت تبيليسي تشبه امرأة جميلة تتسلّل بفستانها البسيط الأبيض من بين ثنيات ستارة نافذتها وتغلقها مسرعة كلما أدرك أحدهم أنّ جمالاً يتلألأ من علٍ.

كثيرات هنّ النساء اللواتي يمثلن التراث الثقافي والاجتماعي والسياسي للشعوب. في بعض الدول التي سأتحدث عنها هنا، تحضر المرأة الرمز التي لا تبخل على الأبناء والزوار بعاطفة الأمومة، لكنها أيضاً تمتلك العزيمة الكافية للذود عن وطنها وشعبه. نُصُب تمثل المرأة الأم التي تحتوي الوطن وتحميه كما تحمي أطفالها. أرادت الشعوب أن تفصح أن الوطن هو الأم. 

لم يتردد مينا مرة بمقاطعة تأملي الخافت بصياحه: "الخالة فوق حَنِطلَعلَها الليلة! ما لِك يا فرح؟".

أبصرت عندها فوق التلّة المطّلة على العاصمة نصباً لامرأة كنت قد رأيت شبيهاً له في يريفان عاصمة أرمينيا يسمّى "نصب أرمينيا الأم" The Mother of Armenia وهو يجسد الشهيدة الأرمنية "صوصى مايريك". النصب مصنوع من البازلت والنحاس ويبلغ طوله حوالى 51 متراً مع قاعدته التي تحولت إلى متحف فيه مقتنيات من حرب ناغورنو كاراباخ بين أرمينيا وأذاربيجان قبل عقدين من الزمن.

يطل نصب أرمينيا الأم على العاصمة من تلّة مرتفعة، وهي تحمل سيفاً تخال أنّها على أتم الإستعداد لخوض معركة تحرر فيها الأراضي التي تطل عليها! يعتبر الأرمن أنّ نصب أرمينيا الأم يمثل النساء في التاريخ الأرمني اللواتي حملن السلاح ليساندن أزواجهنّ في المعارك والحروب من جهة، والأم أو الجدة أو المرأة الأكبر سناً في العائلة من جهة أخرى.

أما نصب "كارتليس ديدا" والمعروف بنصب أم الجورجيين أو Mother of  Georgian، فلا تتعدّى قامته الــ 20 متراً وهو مصنوع من الألمنيوم وشُيّد على تلّة سولولاكي. يتخذ النصب هيئة امرأة ترتدي الزي الجورجي وتحمل في يدها اليمنى سيفاً وفي واليسرى كأس شراب للدلالة على أنّ المرأة الجورجية تقابل الأصدقاء بحسن الضيافة وتقدم لهم الشراب، أما الأعداء فتقابلهم بحد السيف. وبالنظر معمقاً إلى المرأة في النصب تجدها على أتم الإستعداد والجهوزية لأي داخل إلى المدينة مهما اختلفت نواياه. 

وكذلك في كييف عاصمة أوكرانيا حيث يرتفع نصب ثالث يسمى "تمثال الوطن الأم" أو The Motherland Monument، وهو مصنوع من الفولاذ ويبلغ ارتفاعه نحو 102 متراً وقاعدته ضمناً، ويمثل امرأة ترفع سيفاً يبلغ 16 متراً ويزن 9 أطنان بيد، وباليد الأخرى درع المطرقة والمنجل السوفياتي. أنجز هذا النصب على ضفة نهر الدنيبر ويحتوي على منصة للمراقبة حيث يمكن مشاهدة العاصمة الأوكرانية والقبب الذهبية للكاتدرائيات والأديرة. أما قاعدة التمثال فقد تحوّلت إلى متحف للمعدات العسكرية والأسلحة التي تعود إلى الحرب مع النازيين.

وفي روسيا يقوم أعظم نصب لامرأة في العالم منذ العام 1967 ويحمل اسم "الوطن الأم ينادي" The Motherland Calls على هضبة ماياييف كورغان التي تطل على مدينة فولغوغراد، وهو يعتبر تمثالاً قيّماً من الناحية الهندسية. فالمرأة ترفع السيف بشكل عمودي وتمدّ يدها الأخرى كأنها تدعو أبناءها لحضنها. يبلغ النصب من قاعدته وحتى أعلى السيف 85 متراً وتبدو المرأة وكأنها مقبلة على الحرب بكثير من العنفوان والحنان في آن معاً. وفي الطريق إلى قمته 200 درجة تمثل 200 يوم من معركة ستالينغراد.

هناك نُصُب مشابه في ألبانيا لا يتعدّى الـ 12 متراً ويمثل الوطن كأم تحرص على أرواح أبنائها الذين قضوا في الحرب العالمية الثانية وهو موجود في مقبرة لـ 28000 شخصاً قتلوا في تلك الحرب.

-"الخالة دي بتبص علينا كل النهار وكل الليل- آه والله!"

نظرت مجدداً علّني أراها تنظر إلي... كنت أدرك أنّ الوطن أم وأنّ المرأة مدرسة الشجاعة وأنّ نصب الأمهات في بعض بلدان الإتحاد السوفياتي السابق هي رمز للصمود والجمال في كل ما تمثلنه. تطلعت مطولاً إلى "الخالة" ثم إلى "مينا"، كان مشتاقاً إلى أم الدنيا وإلى والدة تنتظره هناك.

 

ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك التحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]