266 عاماً على ولادته.. موزارت: فصل ختامي لذوق أوروبي
في الذكرى الــ 266 لولادة موزارت، كيف رآه نيتشه وإدوارد سعيد وتولستوي وشوبنهاور؟
ذلك الذي امتشق ضوءه في الغياب، تحلّ اليوم ذكرى ولادته الــ ـ266 ليحتفي العالم برمّته بفنّان ذي قدرة خلاّقة لا يشكّ أحد في نبوغه.
إنه المؤلّف الكلاسيكيّ النمساوي وولفغانغ أماديوس موزارت (1756-1791)، الذي أتى بالفرائد والدّرَر الفنية فأثرى المكتبة الموسيقية الأوروبية والعالمية. أعماله تفاجئ المتلقّي في القرن الحادي والعشرين في حضّها المستمر شرقاً وغرباً على انطباعات تعلن وتفتل كمّاً ونوعاً بمغزل الدهشة، بموازاة مجموعة مقاربات وتأويلات تاريخية وحديثة تقتفى.
كأنّ موزارت لم يغادر يوماً دهشته الطفولية المعدية التي تتسرّب إلى بعض أعماله رغم تدثّرها بالنضوج الدامغ والإتقان المثير والرهيب.
هناك جماليات هدّارة تكوّمها موسيقى موزارت وترشح بها. ثمّة أبعاد دلالية ومراوح تعبيرية لموسيقاه الصامدة في مهبّ الزمن ولنوتاته المُتَهَنْدِسة التي عمّت الأرض. غزارة إبن مدينة سالزبورغ طلعت علينا من فوران الإبداع بين يديه، ومن لجّة مخيّلته وقواها النادرة وتوقّد ذهنه.
فخم موزارت في أفضية الموسيقى الأوبرالية والسمفونية، وتألّق في مدارات "موسيقى الحجْرة" والموسيقى الدينية. "سوناتّاته" Sonates وكونشرتوهاته أسرت المسامع. وقد سطع في أفلاك الـ"ديفيرتيمنتو" Divertimento (عرّف الـ"ديفرتيمنتو" بيتر ليختنثال Peter Lichtenthal كنوع من قطع الموسيقى الآلية التي راجتْ كثيراً منذ سنة 1790 حتى عام 1810 تقريباً).
في لبنان شدتْ "جارة القمر" فيروز بأنغام موزارت في أغنيتها "يا أنا يا أنا" المُنسلّة موسيقياً من سمفونيّته رقم 40، وذلك في رحاب رؤية الأخوين عاصي ومنصور الرحباني. لقد أعاد نسْج رؤيتها الفنان زياد الرحباني آلياً ضمن فيديو "موسيقى على قَيْد الحياة من بيروت" (استديو Take- 1985)، متجلّياً في تمحوراته وانزياحاته وشطحاته الإبداعية وظلال الجاز المخيّمة على المقطوعة والارتجال، وفي بعْثه موزارت ضمن مقاربة تحتشد بالاستحداث والجرأة على نول مزاجه الفنّي وهواه الجارف.
لم يغادر موزارت يوماً دهشته الطفولية المعدية التي تتسرّب إلى بعض أعماله، رغم تدثّرها بالنضوج والإتقان المثير والرهيب.
صاحب "موسيقى ليلية صغيرة" استحقّ اهتمام النخب وتقدير الأفذاذ في العالم. وقد تناول عدد من الفلاسفة والمفكّرين والنقّاد الكبار والمنظّرين والإستطيقيين أعماله المؤسْلبة في تقييم إجماليّ لها، أو لروحيّة بعضها غير المنفصلة عن كُنْه ظاهرة موزارت، وكان من ضمنهم فريدريك نيتشه وليو تولستوي وإدوارد سعيد وآرثر شوبنهاور وهنريش شنكر.
موزارت بعيون نيتشه: فصل ختامي لذوق أوروبي
في كتابه "ما وراء الخير والشر " غاص الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه في تساؤله عن "الأيام الخوالي المجيدة" التي اعتبر أنّ صداها قد بهت وخفت مع موزارت وموسيقاه.
في الفصل الثامن "أقوام وأوطان" أعلن نيتشه أنّهم محظوظون لأنّ "الروكوكو" Rococo ما زال يكلّمهم، على حدّ تعبيره، أي أنه كان لا يزال يخاطبهم ويناجيهم. في هذا الإطار لا بدّ هنا من استحضار معنى "الروكوكو" الذي كان ريمون باير Raymond Bayer من السبّاقين في وصفه بـ"إستطيقا الأناقة"، علماً بأنّ "الروكوكو" ينعكس موسيقياً في التنقيب عن التأنّق أولاً.
إنّ ما خلص إليه بصيغة تعجّب صاحب "هكذا تكلّم زرادشت" - الذي نشر كتاب "ما وراء الخير والشر" عام 1886- اختزله في تصوّره واعتباره أنهم في القريب العاجل سيتوقّفون عن تذوّق لودفيغ فان بيتهوفن وعن اكْتناهه، متسائلاً عمّن يخامره الشكّ في الأمر.
ووفقاً لرؤية نيتشه، فإنّ "بيتهوفن لم يكن سوى الرنين الأخير لموسيقى في طور الانتقال ولقطع أسلوبيّ". لم يكن بيتهوفن مثل موزارت الذي عدّه نيتشه في معرض المقاربة "فصلاً ختامياً لذوق أوروبي كبير ساد طوال قرون".
أضواء تولستوي على عالمية موزارت
أمّا الأديب الروسيّ ليو تولستوي الشهير على مستوى العالم، لا بوصفه روائياً ودراماتورجياً فحسب، بل أيضاً على اعتباره إستطيقياً ومفكّراً بماهيّة الفنّ، اعتبر في كتابه "ما هو الفنّ؟"، أنه بإستثناء "المارْشاتْ" marches والرقصات التي تعبّر عن مشاعر أدنى، لكنّها حقّاً مشتركة بين جموع البشر، فإنّ عدد الأعمال الفنية التي تفي بتعريفنا للفن الكونيّ محدود جداً.
في هذا الإطار ذكر تولستوي على سبيل المثال عملين لباخ وشوبان ومقاطع منتقاة ضمن أعمال هايدن وموزارت وبيتهوفن، وسواهم.
إدوارد سعيد : أنغام موزارت مدوخة
في المقابل، في كتابه "عن الأسلوب المتأخّر: موسيقى وأدب عكس التيار"، وفي الفصل الثالث بعنوان "مدرسة العشّاق، عند الحدود"... استذكر الناقد والمفكّر الفلسطيني - الأميركي إدوارد سعيد "المشاعر الإستثنائية من الحنين المستوحد والبرود، التي تحدّث عنها موزارت وهو يكتب الأوبرا".
اعتبر سعيد أنّ "الموسيقى هي طبعاً ما يؤثّر فينا أكثر من أي شيء آخر في "كوزي"Così fan tutte، لكن تبدو الموسيقى أحياناً كثيرة أشدّ إثارة في تفارقها الكبير مع الحال التي يستخدمها موزارت لأجلها".
في تحليله إكْتنه صاحب "الثقافة والإمبريالية"، "ما يجعل الموسيقى تبدو مضخّمة فوق التصوّر وجميلة بطريقة أخّاذة"، وذلك في اعتقاده "مزيج يقابل مشاعر الحنين غير المرتوي والسيطرة الباردة عند موزارت".
في تقييمه لـ"كوزي" كتب سعيد أنّ "السطح هو كل شيء، اللهمّ إلاّ بالنسبة إلى الموسيقى" التي وصفها بالمدوّخة من شدّة جمالها!
عرضت "كوزي" للمرة الأولى في فيينا عام 1790 وكانت وقتذاك أوبرا معاصرة ولم تكن "كلاسيكية" مثلما أصبحت لاحقاً، ما أخذه سعيد بعين الاعتبار موضحاً أنّ التصالح مع "كوزي" يعني تذكّر ذلك.
لقد أخبرنا صاحب "الاستشراق" أنّ "كوزي فان توتي" (مدرسة العشّاق) هي الأوبرا الأولى التي شاهدها حينما جاء إلى الولايات المتحدة الأميركية كتلميذ في مطلع الخمسينيّات من القرن الماضي.
شوبنهاور وشنكر: موزارت.. تماس مع الإرادة وعبقرية عاتية
أما من زاوية فلسفية جليّة، فاعتبر الألمانيّ آرثر شوبنهاور أنّ "الموسيقى الآلية لموزارت وروسّيني قادرة على جعلنا في اتصال مباشر مع الإرادة" (كتاب "رغبة رومانسية في ما بعد حداثة الفن والفلسفة"- جوس دي مول Jos De Mul ). هكذا عظّم بتبصّر وحكمة صاحب "العالم إرادةً وتمثّلاً" صاحب السمفونية رقم 40.
من جهة أخرى، في دراسة هنريش شنكر عن سمفونية موزارت على "صول مينور" Sol mineur، استنتج شنكر - وهو من المنظّرين الموسيقيين البارزين في العالم - أنّ "موسيقى العباقرة كانت منفصلة عن الأجيال وتقلّباتها" (كتاب "موسيقى، مقدّمة مقتضبة جداً" Music : A very short introduction- Oxford University Press لعالم الموسيقى البريطاني نيكولاس كوك Nicholas Cook).
موزارت لابساً سربال الخلود
اللافت اليوم في موسيقى موزارت لمعانها الذي ظلّ طازجاً وملهماً ومؤثّراً بصورة أو بأخرى، على اعتبارها - في الحدّ الأدنى - من الركائز الأوّلية للتعلّم والانطلاق أو الإستشفاف.
لا يُخفى على أحد أنّ المذاق المعاصر للتأليف الحرّ ينأى في معظم الأحيان عن هذا الأسلوب بأدواته البيّنة وبمفهومه ونبضه المباشرين، علماً بأنّ الكلاسيكيات تبقى مرجعيةً أو على الأقلّ خلفية تاريخية شاهقة تخاطب أذواق النخب في امتدادها إلى الراهن، وتتحدّى قدرات المبدعين المجدّدين في الأزمنة المتعاقبة.
عرضت "كوزي" للمرة الأولى في فيينا عام 1790 وكانت وقتذاك أوبرا معاصرة ولم تكن "كلاسيكية" مثلما أصبحت لاحقاً.
يتبدّى ذلك أيضاً في إحياء موزارت من خلال تأدية موسيقاه بسطوتها وهالتها الكلاسيكيتين في عدد كبير من البلدان في الغرب والشرق.
ثمّة سخاء مبهر في موسيقى موزارت التي فتنت المتذوّقين واجتذبت وجوهاً وهامات وقامات باسقة بين الفنانين والباحثين والعلماء والكتّاب والمفكّرين والمنظّرين والفلاسفة وسواهم ممّن تناولوها. كلّ منهم فعل ذلك من منطلقاته أو في فضائه في إثر إعجاب بالغ غالباً أو على اعتبارها تكثيفاً إبداعياً وإشراقاً يلتحفان بمحطّة تاريخية هائلة تناجي روح العصور.
أحياناً تتأرجح المقاربات بين الذاتيّ الطبيعي في تلقّ قد أوّله غالبيّتهم، وبين الموضوعيّ والعلميّ الموغلين في التحليل والتأمّل والتجريد.
موسيقى موزارت متماسكة وثابتة قبالة التحوّلات،ومتجلّلة بالخلود ومدموغة بسرّه وسحره.