أحمد لمسيح للميادين نت: كثير من الزجّالين المغاربة سجناء وهْم التراث
عن الكتابة الزجلية وأصل الزجل في المغرب وغيره، يحدثنا الشاعر أحمد لمسيح في هذا الحوار.
يستعيد أحمد لمسيح طُرفة قديمة، فقد حدث مرة أن كان في لقاءٍ وسمع أحد شعراء الزجل يقول عنه: "أحمد لمسيح من الذين يخرّبون الزجل". لم ينتبه إلى أن المعني بالأمر كان يسير خلفه، وحين التفت إليه محرجاً قال له لمسيح: "إنك تمدحني". ما يراه البعض تخريباً للزجل المغربي يراه لمسيح تحديثاً للكتابة.
دخل أحمد لمسيح (مواليد 1950 بسيدي إسماعيل) إلى بيت الكتابة مع نهاية الستينيات عبر العربية الفُصحى، لكنه لم يُقِم هناك طويلاً، إذ اختار أن ينتقل بشكل حاسم إلى الكتابة باللهجة المحلية؟ هذه اللهجة التي مارست عليه سحرها، وجعلته يُبدع فيها عدداً من الأعمال الشعرية التي راهن فيها على لغة حديثة وأسلوب مُغاير عن الموروث الشعبي، وعن الشعر الرائِج لدى معظم مجايليه.
فقد رفع رهان تحديث القصيدة الزجلية باكراً، مُتأثّراً في ذلك بأشكال الكتابة لدى شعراء الفُصحى والفرنسية والإنكليزية أكثر من تأثّره بشعراء القصيدة العاميّة. أصدر 25 مؤلّفاً من بينها 18 مجموعة شعرية زجلية. وهو من بين شعراء الزجل القلائل الذين تُرجِمَت نصوصهم إلى لغات أخرى كالفرنسية، الإنكليزية، الهولندية والإسبانية. عمل أستاذاً ثم مُفتّشاً في وزارة الثقافة ومُستشاراً للوزير السابق محمّد الأشعري.
نفتح هذا الحوار مع الشاعر أحمد لمسيح تزامُناً مع ما يُطرح اليوم في المغرب من نقاشٍ يقسِّم الكتابة الزجلية على الأقل إلى فريقين: قصيدة تنهل أكثر من لغة محلّية وأخرى تقترب أكثر من الفُصحى. ولا يعني هذا بالضرورة أننا ننحاز إلى تيار لمسيح بقدر ما نريد الاقتراب أكثر من تجربته في مغرب ثقافي يُغنيه اختلاف التجارب.
حين يتعلّق الأمر بالزجل نجد أنفسنا أننا أمام مفهوم له أكثر من معنى. فكلمة زجل في المشرق العربي ليست بالدلالة نفسها في المغرب. لذلك طلبنا من لمسيح أن يتوقّف عند مسافة الفرق هاته، فأكدّ لنا أن مُصطلح الزجل ولِدَ في الأندلس على أيدي شعراء كتبوا بالعربية المعيارية، ولهم خلفيّة ثقافية وذاكِرة غنية بالموروث الشعري العربي، وانخرطوا في حركيّة الانفصال عن السيادة المشرقية والبحث عن الذات المستقلّة في الفكر والفلسفة والفقه والشعر. ومن الأندلس رحل الزجل بتسمية أهله ومُبدعيه آنئذ إلى أقطارٍ مختلفة.
يوضح لمسيح فكرته لــ الميادين الثقافية: "يمكن أن نعتبر أن الأمر يتعلّق بهجرة النصّ، ولكنه يتعلّق بهجرة جنس مُبتدع. وعلينا أن نقف أمام أطروحات تعتبر أن الشعبي موجود في الجاهلية، وأن اللغة العربية ليست غير لغة القرآن، وما دونها لهجات حسب القرآن نفسه. في المشرق يلصقون الزجل بما هو فطري وارتجالي وشعبي، وفي المغرب احتفظنا بمصطلح الزجل ليشمل كل التنويعات الإبداعية في بيت – حتى لا أقول خيمة – ويسع تجارب وأنماطاً متنوّعة من الشعبي الفطري والموروث والعيطة والملحون – معلّقات الزجل وديوان المغاربة – وكتابة الكلمات للأغاني ومجذوبيات الغيوان، ثم التجريب الذي أسّس للكتابة الزجلية بعيداً من الشفوي وتقديس الذاكرة".
عدنا مع لمسيح إلى بداياته، وسألناه وهو الذي دخل بيت الكتابة ناقداً ومسرحياً، كيف اهتدى إلى الزجل، فاعتبر أن تلك البدايات كانت بمثابة تمارين الحائر: "في تكويني شيء من البوهيمية. كيف أخضع للقواعد وأؤمن بالتزام الغير بها؟ كنت أتجوّل لأثبت ذاتي بمساعدة أساتذتي، ولأثبت حضوري وأحظى برضا واعتراف المشهد الثقافي".
يعود لمسيح إلى الستينيات وإلى بداية شبابه: "وأنا في المرحلة الأخيرة للمراهقة، كتبت نصوصاً بالفُصحى، شعرية ومسرحية مغامرة، أو بحسّ المغامرة، لكني زاوجت بين الكتابة بالعربية المعيارية والدارجة، ثم انسقت إلى الكتابة بالعاميّة. العاميّة هي سحري ومجال انشغالي".
يستعيد لمسيح طُرفة قديمة، فقد حدث مرة أن كان في لقاء وسمع أحد شعراء الزجل يقول عنه: "أحمد لمسيح من الذين يخرّبون الزجل". لم ينتبه إلى أن المعني بالأمر كان يسير خلفه، وحين التفت إليه محرجاً قال له لمسيح: "إنك تمدحني".
ما يراه البعض تخريباً للزجل المغربي يراه لمسيح تحديثاً للكتابة. لذلك سألناه عن إسهامه في نقل الزجل المغربي إلى أرض الحداثة، فكان ردّه: "لست الوحيد المهووس بنقل الزجل إلى مناخ الكتابة والانخراط في فضاء الشعر – بأية لغة – لقد جئت إلى الكتابة بالعامية من الكتابة بالعربية المدرسية، ولكني أعتبر نفسي خريّج قصيدة التفعيلة ومسحوراً بالسيّاب وخليل حاوي ويوسف الخال وسليم بركات وفاضل العزّاوي، ولست حفيداً للملحون والعيطة – وإن كنت عاشقاً لهما – بل للحداثة، مع أدونيس وماياكوفسكي ووايتمان وعزرا باوند وغيرهم".
ويضيف الشاعر: "غامرت في أن أكتب بالعاميّة نصوصاً بخلفيّة معرفية لا تستلهم التراث المحلي، بل التراث الإنساني. كنت أسعى إلى الانخراظ في المشهد الشعري المغربي بعاميّتي ومعرفتي، وانخرطت في التجريب في فترة السبعينيات. وحلمي ألا أكون صدى".
ولأن لغة الكتابة لدى لمسيح تقطع على ما يبدو مع الموروث الشعبي، وتنفتح على لغة الشعر الحديث في مختلف الألسن، أكّد لنا أن رهانه من وراء ذلك هو كتابة نصّ مختلف.
وأضاف في حديثه مع الميادين الثقافية أن: "الموروث ليس كله إبداعاً ومضيئاً. الموروث الإنساني هو مرجعي. لقد قلت دائماً: الدارجة ولدتني والعربية ربَّـتْني".
سألنا لمسيح إنْ كان يُنظر اليوم إلى الزجل في المغرب كأدب من درجة ثانية فتوقّف عند التباس في التداول والتعاطي مع المنتوج الزجلي: "لحد الآن هناك مَن يتحدَّث عن الزجل وكأنه تراث، وهناك مَن يخلطه مع الثقافة الشعبية. وكثير من الزجّالين سجناء هذا الوَهم. لا أظنّ هناك أطاريح تنجز حول الزجل من التراثي إلى الحداثي. المشكل في المتلقّي. ينتظر العامّة من الزجل أن يكون صدى لصراخ الجماهير الصامت، وبعض الأساتذة الجامعيين الذين لا يتابعون الكتابات الزجلية ما يزالون قابعين في التراث".
دفعنا نقد لمسيح لطريقة تناول الزجل من لدن العديد من الجامعيين إلى سؤاله عن حضور الزجل في الجامعة، وعن التداول الأكاديمي له. وكنا نقصد الجانب الممتلئ من الكأس. فأجابنا لمسيح مُستطرداً: "نعم. هناك حضور للزجل المغربي في الجامعة، لكن على نحو محدود. ويرجع الفضل في هذا الحضور إلى أساتذة حداثيين جاؤوا بعد الأستاذ عباس الجراري، لفتوا الانتباه إلى البحث في الزجل في تراثه وحداثته. وأستحضر هنا رسالة الشاعر حسن نجمي في الثمانينات تحت إشراف الأستاذ محمّد برادة، ودكتوراه مراد القادري تحت إشراف الأستاذ عبد الرحمان طنكول، وأطاريح عدّة في الجديدة وأكَادير تحت إشراف الأستاذ عبد السلام الفزازي".
توقّفنا في النهاية مع لمسيح عند أشكال كتابة الزجل في المغرب اليوم، وسألناه هل يمكن الحديث عن زجل بدوي وزجل حَضَري. فاكتفى بالقول: "سؤال دقيق. وأفضّل أن أقول هناك زجل القول وزجل الكتابة، زجل المعرفة وزجل الأميّة".