الأرشيف الفلسطيني: صورة أيامنا القادمة؟
كيف يوظف الفلسطينيون العالم الرقمي لحماية تاريخهم؟ وكيف يمكن للأرشيف أن يكون حاضنة للمستقبل الفلسطيني؟
في مقدّمتهما للنسخة العربية من كتاب "قول يا طير: نصوص ودراسة في الحكاية الشعبية الفلسطينية"، يقدّم لنا الباحثان الفلسطينيان المتمرسان، إبراهيم مهوي وشريف كناعنة، مفهوم "التمدي" الذي يضعانه في سياق "الخراريف" (الأساطير) الفلسطينية الشعبية، والذي يمكن تطبيقه على الواقع الفلسطيني، وعلى الأيام الراهنة خصوصاً. التمدي هو "عملية ترجمة الشيء المجرَّد إلى حيِّز المادة - وهي عملية ذات أهمية فائقة… عندما تصبح الفكرة أو الرغبة حدثاً منذ اللحظة التي تأخذ فيها شكل الكلام"[1]. فماذا يعني ذلك بالنسبة إلى صوَر فلسطين المؤرْشفة الآخذة بالانتشار رقمياً مع مرور الوقت؟
كنت قد أعربت، في جلسة أكاديمية مؤخّرة، عن قلقي إزاء تحجير الشعب الفلسطيني في صوَر قديمة مونوكرومية ماضية. حاججت أن الأرشيف منشأة امبريالية تساهم في حبس الشعب الفلسطيني في صوَر مادية وميتافيزيقية بشكل أبدي. إلا أنني أجد نفسي أتّخذ موقفاً مُغايراً الآن بالنسبة إلى دور الأرشيف وعملية الأرشفة الفعّالة التي تتّخذ في هذه الأيام خاصة أبعاداً وأهميات تتعدَّى الكثير من انحيازاتي الأكاديمية والتي أشرحها تالياً.
نقرأ عن وظيفة الأرشيف في مقالة نُشِرَت في "مجلة الإتحاف"عام 1999 للباحث الأسعد الهلالي (والتي استطعت الوصول إليها من خلال "أرشيف الشارخ"، الأمر الذي يمثل طبيعة المعرفة الماورائية لمنشأة الأرشيف).
View this post on Instagram
يُحاجج الهلالي أن الفرد أو الشعب من غير أرشيف حام للماضي كمثل بحارة أضاعوا بوصلتهم. "وكذلك الأمر بالنسبة إلى شخص مادي أو اعتباري أو مجتمع بأسره يفقد ذاكرته وينقطع عن ماضيه، فيتردّى في مهاوي الضياع بفُقدان الأصول الشرعية لميلاده وتكوينه"[2].
ويضيف الهلالي إن غياب العمليات الأرشفية سواء كتابياً أو شفاهياً لمجتمع معيّن، يعني عدم قدرة ذلك المجتمع "أن يحدِّد أبعاد وجوده في حاضره ولا أن يستشرف ما ستؤول إليه تلك الأبعاد في مستقبله لأنه لا يمتلك ما يميِّز به الخيال والوَهْم عن الواقع والحقيقة في ماضيه"[3].
ويرى أن الأرشيف يقف موقف الشاهِد فقط ولا دور له مثل المُدافعة عن الماضي. إلا أن إتاحة ووجود هذه الوثائق والشهادات واستعمالها كبُرهان في سياقات معيّنة تكسب هذه النشأة رصيدها الأرشيفي بالنسبة له.
أما الباحث عبد الوهاب فيتساءل في مقالة له حول "إلى أي مدى حقَّقت الوثيقة الأرشيفية الوظيفة الموكولة إليها والمُتمثّلة في تقديم المعلومة وإنارة الحق، في خِضمّ الحياة اليومية أو في سياق الصيرورة التاريخية؟"[4] ويجيب بأن إدراك التاريخ هو مطلب إنساني وأن الأرشيفين المكتوب والشفاهي يضيفان بُعداً أسطورياً خارِقاً لأشخاصٍ ماديين. بذلك، يصبح كل تاريخ مكتوب، لكونه تاريخاً مبنياً دائماً لحدٍ ما على الشهادات الشفوية، تاريخ شفاهي.
ترينا الصوَر العتيقة التي تُرْفَع الآن على المواقع ووسائل التواصُل الاجتماعي حيوات اجتماعية واقتصادية وسياسية حيوية تتجلّى في صوَر لعائلات فلسطينية وبيّارات ومبان تاريخية ومدارس وفِرَق كرة قدم، ولقطات أخرى كثيرة دائماً ما تصرّ على تحديد الوجود الفلسطيني خارج السرديات الانهزامية التي تدعو إلى الانصياع لواقع أحادي الجانب وفُقدان الأمل.
أهمية الأرشيف تتمثّل الآن في تخلّل مقاومتنا الرقمية صوَراً تنتشر لفلسطين من الأرشفة العديدة المخصوصة للتذكير والإصرارعلى حياة الشعب الفلسطيني قبل النكبة، ليس فقط للتثبيت على الوجود الفلسطيني الأصلي قبل الاحتلال الصهيوني، ولكن لتفعيل عملية فلسطينية جمعية عملاقة: الرجوع إلى الأمام.
من هذه المنابر الأرشيف الرقمي التابع للمتحف الفلسطيني الذي يحوي أكثر من 200 ألف مادة تغطّي 200 سنة من الحياة الفلسطينية. كما أن هناك "أرشيف خزائن" وهو مصدر مهم يحوي على مواد مختلفة تتفاوت بين صوَر لوصول نقدية وفواتير خدماتية إلى مُلصقات لعروض موسيقية وأمسيات ثقافية. تتخلّل المجموعة بالطبع صوَر قديمة مهمة مثل لقطات لتظاهُرات فلسطينية خلال فترة الانتداب البريطاني ومقاومات الكتائب الفلسطينية وصوَر شخصية لفلسطينيين من أربعينات القرن الماضي.
View this post on Instagram
وعلى منابر التواصُل الاجتماعي نلحظ وجوداً كبيراً ومهماً لصفحة "توثيق فلسطين" التي تقدّم صوَراً نفيسة للحيوات العمالية للفلسطينيين من صيد السمك وطحن القمح ورعي الأغنام، إلى جانب الكتاتيب والتعليم وأوجه المقاومة العديدة.
وبالنسبة إلى التاريخ المحكي، الذي يعدّ من أهمّ قوام التاريخ الفلسطيني وحفظ الهوية، يعدّ أرشيف التاريخ الشفوي الفلسطيني التابع لمكتبات الجامعة الأميركية في بيروت مصدراً مهماً وثميناً يضمّ أكثر من 1000 ساعة من المقابلات والشهادات المُسجّلة لفلسطينيين من الجيل الأول إلى جانب فلسطينيين في لبنان. إلا أن توثيق الحياة الفلسطينية بكافة أشكالها لا يتوقّف عند تخزين وحفظ صوَر التقطت من ذلك الوقت.
نرى ذلك في مشروع "مكتبة البذور البلدية الفلسطينية" الذي تقيم عليه فيفيان صنصور والذي من خلاله تخزن حبوب محاصيل فلسطينية بلدية تواجه خطر الاختفاء بسبب السياسيات الصهيونية الاستعمارية. من أهمّ هذه الحبوب، التي تحفظها المكتبة وتوزّعها على فلاّحي فلسطين، السلق وقمح أبو سمرة والكوسا البعلية.
ومن ذلك نتساءل عن العلاقة التي تجمع بين الصوَر وغيرها من المواد المؤرشفة بالهوية الوطنية وفي هذا السياق بالتحديد، بالهوية الفلسطينية النامية على الرغم من التشتّت المادي المغصوب. يسأل الباحث سلال عاشور في مقالة له "ما هي العلاقة بين الأرشيف والذاكرة الوطنية؟"[5] ويشير إلى أن الأرشيف كان يُعرف كذاكرة الدولة في القرن العشرين ثم الذاكرة الوطنية المدوّنة.
يشرح عاشور عن دور الأرشيف ذا "الطابع الإثباتي، والمساهم بصفة جذرية في تدعيم وتوسيع وتأصيل مجال الذاكرة الوطنية"[6]. ومع أن عاشور يبحث في موضوع الأرشيف من منطلق الأملاك العقارية واسترجاع الحقوق المادية المسلوبة، إلا أن جزئيّة المقال التي يقول فيها إن "دور الأرشيف كعنصر هام وحسَّاس في الذاكرة الوطنية يمكن تحديثه وإعادة تنشيطه وتحريكه"[7] يمكن تطبيقها على سياق ثقافي هويّاتي أوسع، والذي يمكن قرنه بعملية الرجوع إلى الأمام المذكورة آنفاً.
View this post on Instagram
فالسبب الذي يدفع باحثين وفنانين ومُثقّفين لتخزين وحفظ جميع أشكال الحياة الفلسطينية (مثل البذور الآيلة للنسيان) وثقافاتها وانتشار الأرْشَفة المنوّعة والمُطالبة بها، لا تتوقّف عند رغبة نوستالجية بحتة بغيتها فصل الماضي الفلسطيني قبل النكبة وتجميده، بل رسم خارطة مكانية إلى حين العودة في المستقبل؛ أية ممارسة يومية لفعل التمدّي المُتجسّد في الرجوع إلى فلسطين في المستقبل.
هكذ نقرأ قول الهلالي إن "عمل المؤرّخ إذن في إعادة تكوين الوقائع التاريخية ميزة خاصة، فهو يسعى إلى الانتقال إلى حاضر ماض مضى"[8]. إلا أنه عندما يكون تركيز المؤرِّخ أو المؤرِّخة على المستقبل، فنجد أن عملية إعادة تكوين الواقع التي يذكرها الهلالي تُعكَس ويصبح الانتقال من المستقبل إلى الحاضر بغاية تفعيله. بذلك، نرى أن عمليات الأرْشَفة ونشرها تتمثّل في عكس عملية الأرشفة وتخصيبها، فيصبح الأرشيف الفلسطيني أرشيفاً مستقبلياً مضاداً.
في مشروع مهم للمؤرِّخ وخبير الخرائط الفلسطيني سلمان أبو ستة، المؤسِّس لــ "هيئة أرض فلسطين"، والناشِر لكتاب "حق العودة مُقدَّس وقانوني وممكن" و"من لاجئين إلى مواطنين في ديارهم" وكُتب أخرى، نقرأ عن مجموعة من طلاب وطالبات هندسة معمارية يقومون بتصميم أحياء فلسطينية مستقبلية.
View this post on Instagram
ونجد أن توظيف المعرفة العلمية المُتمثّلة في هذا السياق بمعرفة الهندسة المعمارية والتاريخ المكتوب مقرونان بعملية تمدّي جمعية من قِبَل الفلسطينيين. الجانب العملي لهذا المشروع يكمن أيضاً في كونه جزءاً من مقاومة شعبية جامعة وفعالة. من حملات المقاطعة الآخذة بالانتشار إلى تضخيم وإعلاء الأصوات الفلسطينية والمُناصرين للقضية على منصّات التواصُل الاجتماعي وضمّ الأصوات التحرّرية الأخرى والمُحاكمات وفضح الآليات الاستعمارية الصهيونية والكتابة عنها، نجد أن المُطالبة بحق الرجوع والإصرار عليه يقوى مع مرور الوقت. فتسقط السرديات الانهزامية التي تطالب بتناسي الوجود الفلسطيني والانكفاف عن العمل نحو مستقبل يشمل الرجوع إلى فلسطين.
هكذا تصبح عملية الأرْشفة الفلسطينية، حاضِنة مؤقتة لمستقبل آتٍ من خلال المقاومات وعمليات التمدّي عوضاً عن مساحة ضيّقة للتحسّر على ما مضى. وكذلك عملية إعمال للحنين وليس استكانة به وتخصيب الأمل عوضاً عن الانصياع للغضب الحقّ، فتبتدئ من اليوم عمليات أرْشفة المستقبل: الأيام القادمة في فلسطين.
المصادر
[1] أبراهيم مهوي وشريف كناعنة، قول يا طير:نصوص ودراسة في الحكاية الشعبية الفلسطينية (بيروت: مؤسّسة الدراسات الفلسطينية، 2001)، 56.
[2] الأسعد الهلالي، "احترام الرصيد الأرشيفي بين ضيق المفهوم وسِعة الأفق"، الإتحاف عدد 108 (1999)، 9.
[3] الهلالي، "احترام الرصيد الأرشيفي"، 10.
[4] عبد الوهاب عبود، "الوثيقة الأرشيفية أو الوجه الآخر لكتابة التاريخ"، الإتحاف عدد 108 (1999)، 15.
[5] سلال عاشور، "الأرشيف والذاكرة الوطنية"، التبيين، عدد 25 (2006)، 25.
[6] عاشور، "الأرشيف والذاكرة الوطنية"، 47.
[7] عاشور، "الأرشيفة والذاكرة الوطنية"، 46.
[8] الهلالي، "احترام الرصيد الأرشيفي"، 12.