لماذا يقتلون عبد الله العروي؟
في غضون أسابيع قليلة، انتشرت شائعة وفاة المفكر والمؤرخ المغربي عبد الله العروي مرتين.. فمن يقف وراء ذلك؟
حين شاع خبر وفاة الكاتب الأميركي مارك توين (1835 - 1910)، وهو بعدُ على قَيْدِ الحياة، ردّ ساخِراً: "لقد كان خبر وفاتي مُبالغاً فيه إلى حدّ كبير".
تتكرَّر عبر التاريخ أخبار زائفة عن رحيل أسماء تكون في الغالب رموزاً فنية أو اجتماعية أو سياسية. لكن نادراً ما ينسحب الأمر على حياة أهل الفكر والثقافة. فإذا كنّا نفهم رواج أخبار غير صحيحة من حين إلى آخر عن الممثلين والمطربين، ونربط ذلك برغبة الجهة المُنتجة للشائعة في التداول والانتشار وزيادة نِسَب المتابعة، فإننا لا نفهم بالمقابل معنى وجدوى إشاعة خبر وفاة رجل ينتمي إلى حقل الفكر والفلسفة والتأريخ.
فقد نشر العديد من صفحات وحسابات مواقع التواصُل، ومعها عدد من المواقع الصحافية المُتهافِتة، خبر رحيل المُفكِّر والمؤرِّخ المغربي عبد الله العروي (1933) في فترتين مُتتابعتين، الأولى مع مطلع السنة الجديدة، والثانية خلال الشهر الماضي. وإذا كان مارك توين قد ردّ بسُخريته المعهودة، فإن عبد الله العروي آثر الصمت، هو الذي عُرِف بلجوئه إلى الصمت في معظم الأحيان، والنفور من التفاعُل مع الأحداث الطارئة.
وفي اللحظتين معاً، اللتين راج فيهما خبر رحيل صاحب "مفهوم العقل"، تناقل عدد كبير من مُحبّيه الخبرَ على صفحات "فيسبوك" و"تويتر" مع صوَرٍ له وأقوال مُقتبسة من كتبه أو أغلفة لأعماله الفكرية والأدبية في ما يشبه حالاً من التأبين والتوديع لرجلٍ مهمٍّ لم يمت.
غير أنّ السرعة التي شاع بها الخبر الزائف، في اللحظتين معاً، كانت تقريباً هي السرعة نفسها التي ذاع فيها خبر التكذيب. فعاد ضحايا الشائعة إلى حساباتهم وصفحاتهم الافتراضية ليصبّوا غضبهم على مَن كان وراء هذا "القتل العمد" للمُفكِّر والمؤرِّخ الذي ناضل طوال حياته كي يكون العقل مدخلاً أساسياً لكل فعل وسلوك.
ثمة سؤال يفرض نفسه ونحن نُصدَم في مناسبتين مُتتاليتين بشائعة موت صاحب "ثقافتنا من منظور التاريخ": مَن يقف وراء هذه الشائعة؟ إن سؤالاً كهذا يفرض سؤالاً موازياً قد يُضيء طريقنا إلى الجواب: مَن هم خصوم عبد الله العروي؟ قد يُطرح سؤال آخر: هل للعروي خصوم؟ لا نقصد هنا خصوم الفكر الذين يختلفون مع العروي من الناحية الفكرية، ومن مجال اشتغاله، وبمعرفة تقارُب معرفته وتقارعها. بل ثمة خصوم من نوع آخر، يختلفون مع العروي من دون أن يتعمّقوا في فكره ومن دون أن يحملوا مصابيح تُضيء رؤيته العلمية والسياسية أيضاً.
ونقصد هنا نوعين من الذين يقفون في الجهة المُضادّة له: الطرف الأول يمثله الفكر الرَجعي بمختلف ألوانه وأطيافه، فالعروي منذ بداياته انحاز إلى الفكر الحَداثي وسلك مسالك التنوير. لقد كان منطلق الرجل ابستيمولوجياً، رأى أن تقدّم الأمَّة العربية لا يمكن أن يكون إلا في أفق حَداثي يتوسّل العقلانية والنقد، ولا يركن إلى الخطابات التقليدية. لذلك كان العروي سبّاقاً في بناء مفهوم "القطيعة المنهجية"، بما هي دعوة إلى تجديد الفكر والانخراط الثقافي في المُعاصرة.
أما الفريق الثاني الذي يعارض العروي، فهم دُعاة تحرير اللغة من فصاحتها، واعتماد لغة دارِجة/ محكية في الخطاب الرسمي والتربوي في المغرب. وهو ما رفضه العروي، وخرج لأجله من مقبعه على حدّ تعبيره. فقد كانت للمُفكِّر المغربي خرجات إعلامية، استثنائية ومهمة، أوقفت مشروعاً لغوياً رفعته الأطراف المُدافعة عنه إلى الجهات العليا في البلاد.
ثمة احتمال ثالث تبدو فيه العبثيّة مدخلاً كبيراً لفَهْم موضوع الشائعة. فقد تكون هناك أطراف لا يعنيها العروي إلا كإسم معروف قد تثير شائعة موته انتباه المولعين بأخبار الموت، ويرفع نِسَب المتابعة عند كائنات غريبة ترى في الموت عنصراً مسلياًَ من عناصر الإثارة.
درس العروي في المغرب قبل أن ينتقل إلى فرنسا ليُتمّم دراساته العليا في العلوم السياسية، وبعدها في التاريخ، وليحصل أيضاً على شهادة التبريز في الإسلاميات، قبل أن ينال الدكتوراه منتصف السبعينيات، من جامعة السوربون، في دراسة الأصول الاجتماعية والثقافية للوطنية المغربية. دخل عالم السياسة باكراً، ثم غادره باتجاه التأليف الفكري وتدريس التاريخ سواء في الجامعة المغربية، أو في فرنسا وأميركا أستاذاً زائراً.
ألّف أعمالاً فكرية مهمّة باللغتين العربية والفرنسية، جمعت بين الفلسفة والتاريخ من بينها: "الإيديولوجيا العربية المعاصرة"، "العرب والفكر التاريخي"، "مُجْمَل تاريخ المغرب"، "مفهوم الحرية"، "مفهوم الدولة"، "مفهوم الإيديولوجيا"، "بين الفلسفة والتاريخ". وألَّف بالمقابل أعمالاً روائية، كانت امتداداً لمشروعه الفكري: "الغربة"، "الفريق"، "أوراق"، "غيلة"، "اليتيم"، فضلاً عن يوميّاته التي تُضيء الكثير من التجربة الفكرية للرجل والتي حملت عنوان "خواطر الصباح".
قد يعرف الذين أشاعوا زوراً وبهتاناً خبر موت العروي ما لهذه الشائعة من أثر سيّىء على نفسية الرجل وعائلته وأصدقائه وقرّائه ومُحبيه، وقد يجهلون ذلك. لكن ما يفرض نفسه اليوم هو ضرورة العودة إلى تجربة عبد الله العروي وقراءتها والاحتفاء بها، ومُساءلتها أيضاً في زمن يبدو أنه ضدّ الفكر وضدّ العقل.