"في الغيمات ماء".. أو صوت المياه في قصائد الشعراء
تحضر المياه في النصوص منذ شرع الإنسان في الكتابة.. فأيّ مكان احتلته في قصائد الشعراء؟
عن "اليوم العالمي للمياه" تقول المدير العام لمنظمة "اليونسكو" أودري أزولاي: "نعرف من دراستنا للتاريخ أن مهد الحضارات الأولى كان على ضفاف الأنهار الكبيرة في الصين أو في الشرق الأوسط، مثل نهر يانغ تسي كيانغ والنيل والفرات".
إنها العلاقة الأولى والمُبكرة التي تربط الإنسان بالمياه، الذي تأثّر بالطبيعة، وبالمياه تحديداً، منذ بدأ بالتعبير عبر الكتابة، فحضرت الأمطار والبحار والأنهار في النصوص الفلسفية والأدبية.
يقول الفيلسوف اليوناني هيراقليطس "إنك لا تنزل إلى النهر الواحد مرتين لأن مياهاً جديدة تجري حولك. إن المعلومات الكثيرة لا تكفي للفَهْم. إن لم تتوقَّع ما ليس مُتوقَّعاً فلن تجد الحقيقة أبداً". هكذا يصبح الماء المُكوِّن الأساسي للتغيير والتجدّد. وكان سلفه طاليس أول مَن تحدَّث عن الماء "المبدأ الأول والطبيعة الأساسية لكل الأشياء". وبعد قرون عديدة سيفهم جان جاك روسو الضمير على أنه "صوت الطبيعة" الذي يعمل بداخلنا.
في "اليوم العالمي للمياه" نبحث عن المياه في نصوص عدد من الشعراء، عن تسرّبها داخل صورَهم الشعرية، عن رمزيَّاتها، وعن قدسيَّتها حيناً وجرعاتها الحزينة حيناً آخر.
***
منذ زمن "الجاهلية" وما بعده كان ارتحال العرب مُرتبطاً بعنصر الماء، وكانوا يترقَّبون هبوب الريح وظهور السحاب ونزول المطر، فاتّخذ المطر صورة المُنْقِذ من الهلاك حتى بعد الانتقال من حياة البَداوة إلى المدنية.
وكان للماء قدسيَّته وصوَره المُتعدِّدة في الشعر العربي من "العصر الجاهلي" إلى العصر الأموي ثم العباسي، فإمرؤ القيس يريد أن يسقي دار هند بالمياه "سقى دار هند حيث شطّت بها النوى"، والنابغة الذبياني يريد أن يسقي قبر الحبيبة "سقى الغيثُ قبراً بين بُصرى وجاسم/ بغيث من الوسمي، قطرٌ ووابل". أما أبو طالب فكان حين يريد أن يستسقي السماء قائلاً: "وأبيضُ يُستسقى الغمام بوجهه/ ربيع اليتامى عصمةٌ للأرامل".
ويدعو مجنون ليلى بسقوط المطر على دار محبوبته "سقى الله أرضاً أهل ليلى تحلّه/ وجاد عليها الغيث وهو سكوب/ ليحضر مرعاها ويخصب أهلها/ وينمّي بها ذلك المحل الخصيب".
وفي العصر العباسي سيصف إبن الرومي مجلساً له مع أصحابه بعد سقوط المطر فيلتقط أثر الماء على الأرض وفي نفسه، يقول: "وسط رياض دنا الربيع لها/ فحاك أبرادها ونشّرها/ وجادها من سحابة ديم/ وردّ أنوارها وعصفرها".
أما أبو تمّام فيصف شفافية الأمكنة بعد المطر "مطرٌ يذوب الصحو منه وبعده/ صحوٌ يكاد من الغضارة يُمطر/ غيثان فالأنواء غيثٌ ظاهرٌ/ لك وجهه، والصحو غيثٌ مضمر".
ويرى أدونيس في كتابه "الثابت والمُتحوّل" أن أبا تمّام لا يريد بهذه الأبيات أن يردّنا إلى سرير الطبيعة أو أن يُزيِّن لها جسدها وإنما يريد أن يدفعنا لكي نرى أشياء الطبيعة في اندفاعها وتفجّرها الأصلي أو في بكارتها، وهكذا يُقيم علاقة بين الإنسان وبينها، وبالتالي بين الإنسان والإنسان.
ويذهب البُحتري في وصف الأرض مع سقوط الطلّ، أي المطر الخفيف، وكيف يتغيّر مزاجها "وروضٌ كساه الطلّ وشياً مُجدّدَا/ فأضحى مُقيماً للنفوس ومقعدَا"، وفي مكان آخر يقول "ولا زال مخضرّ من الروض يانعٌ/ عليه بمحمرّ من النور ساجدِ/ يذكّرنا ريّا الأحبّة كلّما/ تنفَّس في جنحٍ من الليل بارد/ شقائق يحملن الندى فكأنها/ دموع التّصابي في خدود الخرائدِ".
ويشبّه إبن المُعتزّ الطلّ والأرض بكائنات تشعر بالفَقْدِ لبعضها البعض "وروضٌ بات طلّ الغيث ينسجها/ حتى إذا أنجمت أضحى يدبّجها/ يبكي عليها بكاء الصبّ فارقه/ إلفٌ فيضحكها طوراً ويبهجها". وفي مكان آخر يمنحنا الشاعر فرحه لرؤيته مياه دجلة تحت ضوء القمر ويشبّه الماء بالإنسان المُبْتَهِج "والبدر يضحك وسط دجلة وجهه/ والماء يرقص حولنا ويُصفِّق/ فكأنه فيها طرازٌ مذهّبٌ/ وكأنها فيه رداءٌ أزرقُ".
ستمرّ المياه في الشعر الحديث على خيبات الشعراء وهزائمهم. لن تكون في الباب المُخصَّص للقدسيّة الذي عبّر عنه الشعراء العرب الأوائل، بل في تلك الأمكنة الدفينة التي تخصّ شَجَن الذات.
في قصيدة "أنشودة المطر" لبدر شاكر السياب يعبر المطر بموازاة الموت والحياة، وسيبثّ الحزن العميق في نفس الشاعر، "مطر مطر مطر/ أتعلمين أيّ حزن يبعث المطر/ وكيف يشعر الوحيد فيه بالضياع/ كأن طفلاً بات يهذي قبل أن ينام/ بأن أمّه التي أفاق منذ عام.. فلم يجدها/ ثم حين لجّ في السؤال/ قالوا له: بعد غدٍ تعود.. لابدَّ أن تعود/ فتستفيق مِلءَ روحي نشوة البكاء../ كرعشة الطفل إذا خاف من القمر/ في كل قطرة مِن المطر/ هي إبتسام في إنتظار مبسم جديد/ أو حلمة تورَّدت على فم الوليد.../ في عالم الغد الفتيّ .. واهب الحياة/ ويهطل المطر".
ويقول الشاعر محمود درويش في قصيدته "مطر": "عزاؤنا الموروث: في الغيمات ماء/ والأرض تعطش. والسماء تروي. وخمس زنابق شمعية في المزهرية/ يا جدّي المرحوم! أهلاً بالمطر يروي ثراك../ لنقل مع الأجداد: خير! هذا مخاض الأرض: خير! تضع الوليد غداً/ ربيعاً أخضراً/ كعيون سائحة أطلّت ذات فجر/ لا الأمّ أمّي، لا الوليد أخي، ولا ذات العيون الخضر لي وأقول: خير!". ويحمل درويش خيباته مرة أخرى إلى المطر في قصيدة "مطر ناعم في خريف بعيد" يقول: "مطر ناعم في خريف بعيد/ والعصافير زرقاء/ والأرض عيد/ لا تقولي أنا غيمة في مطار/ فأنا لا أريد من بلادي التي سقطت من زجاج القطار/ غير منديل أمّي وأسباب موت جديد".
المياه في قصيدة فاضل العزّاوي "مياه كثيرة جرت في الأنهار" هي الحياة التي أخذته بعيداً عن موطنه العراق، لكنه سيظلّ فتىً في منفاه، والمنفى وحده سيهرم، "مياه كثيرة جرت في الأنهار/ فجلستُ على شواطئها أرصد الأمواج/ والنار سرت في الغابات مُخلِّفة لي الرماد/ فكنسته بالمغرفة ونثرته في الرياح/ أنت تعرف أن كل مركب صعدناه/ أغرقته العاصفة/ والأمواج جرفتنا إلى آخر العالم/ ماذا يهمّنا بعدُ إن بنينا ممالكنا في العراء".
وفي "أنشودة اللامطر" يعتذر العزّاوي من بدر شاكر السيّاب ويرثي بلاده التي لم تُصلحها الأمطار "مطر مطر مطر / في كل يوم يسقط المطر/ وتعتم السماء، والغيوم تطرد القمر/ تنطفئ النجوم/ وتذهب الشمس إلى سقر/ نهارنا ليلٌ بلا انتهاء/ وليلنا تسطوه الرياح/ جميعنا في زمن الغيوم يقتلنا الضجر/ غاباتنا مُعتمة من دونما ضياء/ حقولٌ أفسدها المطر/ فكل ما كنا زرعناه هنا/ زاداً لمَن يأكل من ترابنا المبلول بالدماء/ قد جرفت حصاده السيول".
أما محمّد الماغوط فيرى الشتاء أملاً في عالمٍ أكثر بهجة في قصيدة "الشتاء الضائع": "غداً يتساقط الشتاء في قلبي/ وتقفز المنتزهات من الأسمال والضفائر الذهبية/ وأجهش ببكاء حزين على وسادتي/ وأنا أرقب البهجة الحبيبة/ غداً يحنّ إليّ الأقحوان/ والمطر المُتراكِم بين الصخور".. ويقول في "قطرة ماء 17": "كلما أمطرت نبت غصن في حذائي/ ورفرف نورسٌ فوق رأسي".
أما الشاعر عباس بيضون فيبني في قصيدته "صور" لوحته من البحر ومياهه من دون أن يحرّرها من الألم وموت المدن: "كانت المياه تتناولنا من على صخورنا ونحن نتعلّم الكلمات والأفكار كل يوم.. هذا الماء عليل ينزف في الساقية، وسينزل عن الرحى مجلوداً، اقتلعت قوَّته السنديانة ليظهر بعد ذلك تحت أسرّتنا كالسمكة الميتة".
وفي قصيدة "خلاء هذا القدح" يقول بيضون "لم يعد ماءٌ بيننا وبين القصب.. الأحجار تتكوّم خلفنا على طريق الماء، ولن يؤسِّس أحدٌ مدينة على ينبوع، شيءٌ ما يتقصّف، ليس في الأغصان وحدها، ولكن في المزمار أيضاً: هكذا اندفق ألمٌ كثير".
ويُسمّي الشاعر شوقي بزيع محبوبته بمفردات المياه في قصيدة "كيف تصنع قطرتان من الندى امرأة؟": "حين أقول غادة/ أقصد الماء الذي لا بدّ منه/ لتصبح امرأة شتاءً/ أقصد العينين والكفّين/ سحر يمامة معصوبة بالقطن/ ما لا تستطيع بحيرة أن تدّعيه/ تتساقط الأمطار حيث تكوَّنت عيناك، والأنهار تُسرع"، وفي قصيدته المُهداة إلى فيروز "يتّخذ العالم شكل الماء" يقول: "أسرجتُ البحر وما حملتني سارية العالم نحو البر/ حين تغنّين يتّخذ العالم شكل الماء/ تصيرين حصاة/ وأظلّ أسير الدائرة الأولى/ إني أهديتك سرّ البدء وسحر الغوص/ فخذي ما لا يخطر بالبال".
ولا يكتفي محمّد علي شمس الدين في قصيدة "حوار النهر" بما تُحدِثه المياه في الطبيعة من جمال، فهو ينتظر منها أن تغيِّر شكل الحقيقة والليل الذي لا ينتهي، وبفعل عجزها يتبنّى الغضب في لغته عنها: "على بلاطة الشتاء/ أريد أن أكسر عنق هذا النهر/ وأجعل المياه كالخراف/ تنثني إلى الوراء/ أريد أن أعيد الماء للسماء/ وأبعث اللهيب في حشاشة الحقول"، وفي قصيدة "صورة السماء في المياه" "أرسم وجهي على المرآة/ أسأله في ريبة، من أنت؟/ أحار في أمري، أجيبه: من أنت؟/ كأنني النهر الذي أنكره مجراه/ أو صورة السماء في المياه/ بينهما يحلّ الليل".
ونختم عربياً مع شاعر فلسطين سميح القاسم الذي تنطوي قصيدته "أزوريس الجديد" على أمطار وآمال كثيرة ويعيد تمثيل الألم مُستبدلاً المأساة بالأنهار والحدائق والدنيا الجديدة: "أنا والسيول المُستميتة/ مذ كانت الأمطار والأحزان والشمس العنيدة/ نحيا على جرف النفايات المقيتة/ ونعدّ للدنيا الجديدة/ أنا والسيول المُستميتة/ في سفرة لا تنتهي حتى نعيد إلى الحدائق/ حسّونها المنفي، والجذر المترمّد في الحدائق/ حتى يشبّ اللوز والزيتون والتفاح في جرح الخنادق/ ويرمّم الإنسان أنقاض المدارس والمصانع/ وتفجّر الألغام أنهاراً، وتخضرّ المزارع".
على الطرف الآخر من العالم كان الشاعر السويدي توماس ترانسترومر يؤرِشف صمت المكان في الشتاء في قصيدته "طوفان على الأرض الداخلية" يقول فيها: "المطر يطرق سطوح السيارات/ الرعد يدوّي، السير بطيء/ تُضاء المصابيح في منتصف ليل صيفي/ جبل طويل يختفي في المطر/ طائر يتكلّم وحيداً كمثل مزمار/ في مطر صامت يخفّ شيئاً فشيئاً/ الرعد يضرب مباشرة من قلب الصمت/ قصف يصمّ، بعد ذلك فراغ/ تسقط فيه بهدوء قطرات المطر الأخيرة". وفي قصيدته "ليلة شتوية" ستكون العاصفة طريقاً للغة أخرى في فَهْم العالم "تضع العاصفة فمها على البيت/ وتنفخ لكي تلد النغم/ أنام قلقاً، أتقلّب، أقرأ/ مُغْمَض العينين، نص العاصفة/ لكن عينيّ الطفل واسعتان في العتمة/ والعاصفة تهدر للطفل/ كل منهما يحب المصابيح المُتأرجحة/ كل منهما في منتصف الطريق إلى اللغة".
صوت المطر سيذكّر يانيس ريتسوس أيضاً بصوت طائر وحيد في قصيدته "في الفراغ"، وكأنه رجع الصدى لأصوات أولئك الذين ماتوا منذ قرون: "الماء يسقط على الحجر/ صوت الماء في شمس الشتاء/ صيحة طائر وحيد في السماء الجوفاء/ يبحث عنا ثانية ملمّحاً/ إلام أجل يلمّح/ ساقطاً من الأعالي/ على الحافلات الواقفة/ مليئة بسيّاح ماتوا منذ قرون".
ويرى ت. س. إليوت المياه ترجيعاً للحياة في مجموعته "الأرض الخراب" وتحديداً في قصيدة "ما قاله الرعد". سيكون الماء مصدر الشفاء وفي غيابه شعورٌ مزمنٌ باللاشيء وبالجفاف والقسوة والخواء الروحي، ويشير إليوت إلى الغيوم المُحمّلة بالمطر كأمل باستعادة الحياة "هنا لا ماء بل صخر وحسب/ .. لو أن هناك ماء لوجب أن نقف ونشرب/ بين الصخور لا يستطيع المرء أن يقف أو يفكّر../ ليس صمت في الجبال/ وإنّما رعدٌ جاف عقيم دون مطر/.. لو كان هناك صوت الماء وحسب/ لا زيز الحصاد/ والعشب الجاف يغنّي../ الكانكا غارَ وأوراق الشجر الرخوة كانت تنتظر المطر/ بينما الغيوم السود تجمَّعت في البعيد البعيد.. وعندها تكلَّم الرعد".
ويصف آرثر رامبو شلال المياه بالعروض الأوبرالية ونساء روما القديمة، ويضع أمامنا لوحة كاملة يستحضر فيها الشاعر اللاتيني هوراس والرسّام الصيني بوشيه، يقول في قصيدة "عيد شتاء": "الشلال يدوِّي خلف أكواخ الأوبرا الهزلية، في البساتين والمماشي المُتاخِمة للمندريس. تُمدّد الشّعالات ألوان المغيب الخضر والحمر، حوريات لهوراس يعتمرن قلنسوات من عهد الامبراطورية، ودبكات سيبيرية وصينيات لبوشيه".
تستخدم سيلفيا بلاث المطر في قصيدتها "المشي في الشتاء" لتنقل لنا إحساسها العميق بالموت "يمكنني تذوّق قصدير السماء/ الشيء الحقيقي الوحيد/ فجر الشتاء هو لون المعدن/ تصلّب الأشجار في مكانها مثل الأعصاب المُحترقة/ حلمت طوال الليل بالدمار والإبادة../ شواهد القبور الصغيرة ذات اللوح الخشبي/ بلا ضوضاء../ كيف أضاءت الشمس الجماجم/ العظام المُفكّكة في مواجهة هذا المنظر!/ فضاء! فضاء!".
ويفرد لوركا قصيدة مطوّلة عن المطر الذي يثير الحزن والهدوء في نفسه في قصيدة "مطر" نذكر منها: "للمطر سرّ من اللطف، غامض/ إنه قبلة زرقاء تستقبلها الأرض/ إنه الاتصال البارد بين الأرض والسماء العريقين../ هو ذلك الذي يحمل الزهور/ الذي ينثر في النفس حزناً على الأشياء التي لا نعرفها/ إنه الحنين الرهيب لحياة ضائعة/ والإحساس الحتمي بالولادة المُتأخّرة/ أو الوَهم القلق حول غد مستحيل../ لكن تفاؤلنا يتحوّل إلى حزن/ عند تأمّل القطرات الميتة فوق الزجاج/ إنها القطرات/ عيون اللانهائي/ ترمق الأبيض اللانهائي الذي أنجبها/ كل قطرة من المطر ترتجف فوق الزجاج المُلوّث/ تترك جروحاً قاسية لأحد لها/ إنها شعراء الماء الذين شاهدوا/ وتأمّلوا ما جهلته جماهير الأنوار/ أيها المطر الحقيقي/ ما أحبّك إلى النفس/ وما أكثر إثارتك للحزن/ حين تتساقط على الأشياء".
أما و.ه. أودن فيرى أن في الماء إجابة على كل أسئلتنا عن الوجود، يقول في قصيدة "المياه": "الشاعر والعرّاف والألمعي/ يجلسون كصيّادي سمك خائبين/ عند بركة الاستبطان/ يستعملون المطلب الخاطئ طعماً لينالوا مآربهم ويروون/ عند مهبط الليل، كذبة الصياد/ الظواهر الطبيعية في هياجها/ تنقض بأمواج كاسحة لتُغرق كل من المعذَّب والعذاب/ يحلو للماء أن يسمع سؤالنا المطروح/ فهو سيطلق الجواب الذي مكثنا بانتظاره، ولكن".
وفي "سيرة المطر الجنوبي" يرى كينيث بياتشين في المطر دموع العالم وكائنات متألّمة: "المطر كالذاكرة يمكن أن يجيء أيضاً بثياب مُتّسخة/ لقد انهارت طبقات الفضاء العليا في تلك الليلة/ كأن عملاقاً سكران تعثّر ساقطاً في السماء/ وتدفّقت منه كل دموع العالم/ كأن كل مَن يتألّم صاح دفعة واحدة/ وانحنت الأشجار باسطة أذرعها كمشنقة باتجاههم/ من أجل من مات مُتألّماً، أو جاع../ ثم، من داخل المطر، صوت فتاة، يدها على ذراعي/ أيها الصديق ساعدني لآخذ هذا القطار/ كان صوتها ناعماً، سيجارة بعد القهوة/ رأيت مصباح القطار يكتب شيئاً على المطر/ ثم رأيت وجهها - قروحها الدامية.. / هل ترى ما أعنيه عندما أتكلّم عن المطر؟".
في الحديث عن المياه في الشعر، يبدو الهايكو الياباني الأكثر اقتراباً من الطبيعة بكل أشكالها، وتتسلّل المياه بين الكلمات كطفلةٍ تفتّش عن مكانها الأول.. لا يكتب شاعر الهايكو الياباني الشعر، بل يرسم لوحة منظر طبيعي كنوع من الاحتفاء بالمياه والأشجار والأزهار بروح نقيّة يرصد فيها أجزاء العالم الصغيرة والكبيرة، يراها بروح مُتحرِّرة وكأنه في عزلة تامة. يقول ماتسو أو- باشوو "يا للبركة العتيقة!/ يقفز ضفدع/ ويتردّد صوت الماء"، "يا للبدر/ طوال الليل/ أدور حول بحرة المياه"، "استند على هذا السمّاك/ مرة بعد أخرى/ أيام الاعتزال في الشتاء". ويقول تاكاراي-كيكاكو: "يا لتلك المرأة/ وحدها تشاهد ما في الخارج/ عندما تهطل الأمطار بشدّة في المساء"، "يا لهذا الباب الخشبي/ إذ يُغلق بالمزلاج/ أيام الشتاء في ضوء القمر"، "بالرائحة الأقحوان/ حتى الماء يفوح بها/ عندما يفيض من الأصيص". أما إيسا، شاعر الهايكو الأول، فيكتب: "عبر الندى الأبيض/ يمكن أن نرى/ طريق الجنة"، "يرحل الندى/ ليس لديه ما يفعله/ مع هذا العالم الخفيض"، "أُغمي عليه، الندى/ الذي لا علاقة له/ بهذا العالم النجس"، ويمكن أن نقرأ الآن على قبر إيسا: "هذا هو إذاً/ مسكني طوال الحياة؟/ خمس أقدام من الثلج".
"إذا كان هناك شعر في كتابي عن البحر، فهذا ليس لأنني وضعته هناك عن عَمْد، ولكن لأنه لا يمكن لأحد أن يكتب بصدق عن البحر ويتجاهل الشعر" تقول عالمة الأحياء البحرية راشيل كارسون التي كتبت بحساسية شعرية تامة عدداً من الكتب العلمية عن البحر وكائناته؛ إنها الطبيعة بمفرداتها المائية، مفردات مُتلازِمة للشعر، لأنه لا يمكن أن يُكتَب شعرمن دون تحسّس صوت المياه في المطر، في الندى والثلج، في البحر والنهر والينبوع، ثمة أصوات موغِلة في القِدَم ستأتيك حتماً بالكلمات من داخل الماء.