روان بركات: ورثت نفس التغيير من والديّ والشغف لا يتوقَّف
تحدّت نظرة المجتمع و"مرضه" ولمع إسمها بوصفها أول شابّة كفيفة تشارك في سباق الانتخابات البرلمانية الأردنية.. إليكم قصة روان بركات.
ربما لم تكن تعلم الناشِطة المُجتمعية روان بركات، أن انتصارها لتحقيق مطلب زميلاتها في المدرسة عندما كانت تمثّلهن كعضو مجلس طلبة وهي في الـــ 12 من عُمرها، باستبدال زيّهن المدرسي من "التنوّرة" الطويلة إلى بنطال، إشارة إليها وإلى مُحيطها بأنها ستكون صوتاً أردنياً شاباً يساهم في صُنع التغيير.
روان بركات، التي لمع إسمها مؤخَّراً في الساحة العربية عندما عُرِفَت بأنها شابّة كفيفة شاركت في سباق الانتخابات البرلمانية الأردنية، ليست إسماً لامِعاً في الساحة الأردنية حديثاً، بل منذ العام 2012 عُرِفَت روان بأنها الصبية الأردنية "العنيدة" كما تصف نفسها، والتي تسعى إلى إحداث التغيير المُجتمعي في بلدها خصوصاً في قطاع التعليم وتحسينه.
وفي مُقابلة أجرتها معها الميادين الثقافية سنمرّ على مراحل مهمة في حياة روان حقَّقت فيها تحوّلاً جذرياً في حياتها وفي شخصيّتها، من طفلةٍ لا تمتلك حاسَّة البصر إلى شابَّةٍ ناشطةٍ وفاعلةٍ في توجيه أبصار مُجتمعها إلى أهميّة إحداث التغيير المُنْصِف.
تدرَّجت المُقابلة مع روان منذ فترة طفولتها إلى مُشاركتها في الانتخابات النيابية التي لم يحالفها الحظّ فيها، وفي محور الحديث عن طفولتها قالت: "بعد ولادتي بثلاثة شهور لمسَ والداي رحمهما الله أن هناك مشكلة في التواصُل البصري عندي، ومن وقتها باشرا في رحلة البحث عن علاجٍ لي سواء في الأردن أو في الخارج، وعندما استسلموا إلى حقيقة ألا أمل لحلٍ طبّي لي، لجأوا إلى رحلة تمكيني بطُرُقٍ مختلفة".
بدأت رحلة تمكين روان من قِبَل والديها عبر "البحث عن روضةِ أطفالٍ للمكفوفين من أجل أن أتعلَّم لغة البريل، وفي ذلك الوقت لم تكن هناك رِياض أطفال تستقبل المكفوفين في الأردن، فكنت أذهب مع شقيقتي إلى حين وصولي إلى العُمر الذي يخولني دخول المدرسة، وهناك سجَّلني والدي في مدرسةٍ للمكفوفين، تنتهي مرحلتها حتى الصف السادس إبتدائي".
"لم تختلف مرحلة طفولتي عن باقي الأطفال من عُمري"، تقول روان "كنت ألعب في الحارة وأُشارك في فعاليّات العائلة"، هنا سألتها "الميادين": في أيّ عُمرٍ شعرتي فيه أنك مختلفة؟" أجابت: "في عُمر الرابعة تقريباً، كنت أسمع عن أشياء تُرى بالعين وأنا لا أراها، ناهيك عن موقفٍ كان يتكرَّر كثيراً، عندما أكون برفقة والدتي في الشارع وأسمع أدعية الناس المارّين بشفائي".
وتعود روان إلى مرحلة مدرسة المكفوفين، وتقول: "ظروف مدارس المكفوفين في الماضي كانت تُعاني من تحدياتٍ لوجستيةٍ كثيرة، الأمر الذي جعل من والديّ رحمهما الله في التطوّع والقيام بتأهيل المدرسة التي كنت فيها لوجستياً"، وهنا تضحك وتقول: "ورثت نفس التغيير المجتمعي من والديَّ".
وكانت بداية نقطة تحوّلات حياة روان في عُمر الـــ 11، كما تقول، ففي العام 1997: "أُتيحت لي فرصة المُشاركة في مؤتمر برلمان أطفال الأردن، وكانت الفُرصة الأولى لي في تعلُّم ماذا تعني حقوق طفل، وفي العام 1998 أُتيحت لي فرصة السفر مع وفدٍ أردني ووفدٍ بريطاني من أطفالٍ من ذوي الإعاقة وأيتام، سافرنا فيها إلى أربع دول"، وهنا تقول: "تخيَّلي في عُمر ال 12 وأنا كفيفة ومُتعلِّقة جداً بعائلتي، والداي منحاني فرصة السفر في هذا العُمر.. كم أشكرهما على ذلك!".
أما نقطة التحوّل الثانية فكانت دخولها مدرسة لغير المكفوفين، باعتبار أن التي كانت مُلْتَحِقة فيها تنتهي مراحلها في الصف السادس الإبتدائي، وتقول عن هذه المرحلة: "في العام 1998 انتقلت إلى مدرسة الاتحاد، فكرة أنني الطالبة الوحيدة المختلفة في المدرسة كانت تُثير فضول زميلاتي، كنت أسمع تساؤلاتهن كيف أقرأ؟ ولماذا تختلف كُتبي عن كُتبهن باعتبارها كُتُب بريل، وأنا مَن بادرت بكَسْرِ حاجز فضولهن وكنت أقول لهن أنا مثلي مثلكن، آكل وأشرب وأستحمّ، حتى أن لديّ أصدقاء وصديقات".
وبعد شهرٍ من انخراطها في مدرسة "الاتحاد"، جرت انتخابات مجلس الطَلَبة، وقامت زميلات روان بانتخابها كمُمثّلةٍ لمطالبهن. لكن ماذا كانت مطالبهن؟ تضحك روان وتجيب: "طالبوا بتغيير الزيّ المدرسي من تنورةٍ إلى بنطال.. وانتصرت لمطلبهن وتحوَّل الزيّ من تنورةٍ إلى بنطالٍ في العام الدراسي الثاني"، قالتها بلهجة الانتصار.
أما بداية اكتشافها لحبّ الدراما والعمل المسرحي، فكانت في العام 1999، وتحكي روان عن هذه المرحلة: "في العام 1999 انضممت إلى مدرسة المسرح التابعة للمركز الوطني للثقافة والفنون، وكانت هذه النقطة أهمّ نقاط التحوُّل في حياتي، حيث اكتشفت أن لديّ شغف للمسرح، وأن المسرح مكان ممكن أن نوصِل من خلاله رسائلنا بصوتٍ عالٍ". ماذا تعلّمت من المسرح؟
"علَّمني الالتزام، والصبر، وبنى عندي مهارات التواصُل والخيال والقُدرة على الحديث أمام الكاميرا والجمهور بقوَّة، الأمر الذي عزَّز ثقتي بنفسي، وشجَّعني على أن أدرس الفنون المسرحية في الجامعة.. ودرستها".
أما المرحلة الجامعية فتتحدث عنها روان بركات بكثير من الحب. وتقول: "تجربتي في الجامعة كانت ثريةً ومُتنوِّعةً ومن نواحٍ أخرى كانت فيها تحديات، لها علاقة بقبول وتقبّل الفريق التدريسي لطالبةٍ كفيفةٍ تعشق المسرح، وكان القبول والتقبّل مُتنوِّعاً بين أناسٍ مُتقدِّمة وداعِمة جداً، وبين أناسٍ ترى أن وجودي ليس له داعٍ، كانوا يحاولون بطُرُقٍ مُختلفة تثبيط عزيمتي عن طريق الإحباط، التنميط، لكني كنت مُتمرِّدة ولم أرضخ أمام تلك المُعيقات".
وتعترف روان أن هناك لحظات ضعف كانت تكاد تقع في فخّها: "في مرةٍ ناداني أستاذي في الجامعة وقال لي: لا تصدِّقي أنك شخص موهوب، أنت عندما اشتغلت دراما وأنت صغيرة ذلك لأن المؤسَّسات التي أعطتك هذه الفرصة منحتك إياها لغايات حصولها على تمويلٍ لدعمها"، وتعلِّق: "في عُمر الــ 18 صعب جداً على صبيّةٍ مثلي أن تسمع هذا الكلام، واتّخذت قراراً بتحويل تخصّصي، لكن شقيقتي لينا منعتني من ذلك وقالت لي: إذا غيَّرتي تخصّصك سوف تثبتين لذلك الأستاذ أنه على حق.. إيَّاك أن تُغيِّري تخصّصك، والحمد لله أنني نفَّذتُ نصيحتها".
لم تكتفِ روان في مرحلتها الجامعية بتحقيق شَغَفِها في دراسة الفنون المسرحية فحسب، بل مارست موهبتها الثانية أيضاً وهي في المُشاركة في الأنشطة الطلابية. هكذا انضمّت إلى مجموعة من الشباب والشابات في الجامعة، وشاركت معهم/ن في أنشطةٍ هدفها إحداث التغيير المُجتمعي، وتقول: "في مرةٍ وجّه سؤال لي ولزملائي وزميلاتي في مجموعة الأنشطة المُجتمعية، كيف تقدر أن تُغيِّر مجتمعك؟ أجبت من دون تردّد: أريد أن أؤسِّس مكتبة صوتية للأطفال، لكل الأطفال ليس فقط للمكفوفين منهم".
ذلك الجواب تحوَّل إلى عملٍ على الأرض، حيث بدأت روان بتأسيس ذلك المشروع واستطاعت خلال الفترة بين 2005-2006 بإعداد 13 قصة صوتية تجريبية، بتطوّع مُمثّلين مسرحيين وكُتَّاب ومُثقَّفين، وتقول: "هنا بدأ حلمي يكبر وأن أجعل مشروعي مشروعاً مُستداماً، واستمرّ الحلم يرنّ في رأسي بأن أؤسِّس مؤسَّسة رنين لتكون مكتبة صوتية للأطفال".
عندما تخرَّجت من الجامعة، بدأت روان تواجُه صعوبات البحث عن تمويل حلمها لتؤسِّس مؤسَّسة "رنين"، إلى أن سمعت في العام 2009 عن إعلانٍ لجائزة الملك عبد الله الثاني للإنجاز والإبداع الشبابي، وهي جائزة كانت في نسختها الأولى ولا تقتصر فقط على الأردن، بل كافة دول العالم بشرط أن تخدم المنطقة العربية، وهنا تقول: "عندما سمعت عن الإعلان قلت من المُستحيل أن أحصل على الجائزة، سجّلت ووصلت إلى العشرة النهائيين الذين منحهم الملك الجائزة".
"الجائزة حوَّلت رنين من حلمٍ إلى حقيقة" تبتسم روان وتُضيف: "بعد حصولي على الجائزة، بدأت أفكَّر كيف أجعل مشروعي مُستداماً، بحيث لا أريد إنتاج محتوى صوتياً يوضَع على الرفّ، فبدأت ومَن معي بعقد وِرَش تعبيرية قائمة على استماع الأطفال للقصص الصوتية، يتبعها نقاش فعَّال من ثم جعلهم يُعبّرون عن الذي استمعوا إليه سواء بالتمثيل، ارتجال مشاهِد، الرسم، وحتى صُنْع دمى تُجسِّد شخصيات القصص، واستمرّت هذه الخطوة من العام 2009-2012".
من ثم تطوَّرت الفكرة كما تُضيف روان، لاستثمار قُدرات المُعلّمين ومُرشدي المدارس، باستخدام القصص الصوتية كأداةٍ تعليميةٍ توصِل مضامين مختلفة تخلق جواً أفضل وفعَّال داخل الغُرَف الصفيّة.
"قضيتُ آخر 11 عاماً من عُمري في جميع محافظات المملكة، من أقصى شمالها إلى أقصى جنوبها"، تقول روان وتُضيف: "زرتُ خلال عملي في مشروعي رنين قرى مُهمَّشة ونائية، وغطَّينا جميع مُخيّمات اللجوء الفلسطيني في الأردن، استطعنا حتى اليوم إنتاج 52 قصَّة مسموعة، وتدريب 2000 مُعلِّم ومُعلِّمة، وعقدنا أكثر من 10 آلاف جلسة استماع، ووصلنا إلى أكثر من أربعين ألف طالب وطالبة، ومثَّلت الأردن في كثيرٍ من المحافلِ الدوليةِ وحصدنا ست جوائز لرنين".
انتقلنا بعدها إلى تجربتها الأخيرة في الترشّح لانتخابات مجلس النواب الأردني ال 19، جاءت فكرة ترشّحها كما تقول: "دائماً نقول نريد أصواتاً شبابية تُمثّلنا تحت قبَّة البرلمان، وسألت نفسي ألستُ أطالبُ دوماً بتعديل تشريعات تخصّ قطاع التعليم؟ أليس دور النائب رقابياً؟ لِمَ لا أخوض تجربة الانتخابات وأدافع عن التعليم، خصوصاً بعد أن عرَّت أزمة فيروس كورونا مأساوية وضعه؟ ولِمَ لا أقف كنائبٍ أمام الإقصاء المقصود تجاه الأشخاص ذوي الإعاقة من التعليم؟ وهنا قرَّرت أن أخوض التجربة".
هل أحبطك عدم فوزك بالانتخابات؟ سألنا روان، وأجابت: "بالطبع لا، لأني كنت موقِنة أنني لن أفوز في ظلّ وجود قانون انتخاب غير مُنْصِف، ولا أخجل أن أقول أني حصدت 243 صوتاً وشكراً لهم جميعاً أنهم نزلوا إلى الشارع وانتخبوني رغم ظروف كورونا".
ومَن يتابع روان بركات على مواقع التواصُل الاجتماعي، يلحظ أنها في ذات يوم نتائج الانتخابات خرجت ببثٍّ مباشرٍّ من حسابها على "الفايسبوك" وأعلنت خلاله عن خسارتها و"طبطبت" على كل مَن استاء من عدم فوزها وقالت لهم/ن: "الحياة تستمر، والشَغَف لا يتوقَّف، وسنبقى نسير على درب إحداث التغيير".
في ختام المُقابلة، سألتها الميادين الثقافية: عودة إلى تجربتك في العمل المسرحي، ما هو أكثر دور قمت بتجسيده وأثَّر فيك؟
أجابت: "كنتُ في الــ 16 من عمري وجسَّدت دور امرأة في عُمر الــ 35، عشتُ مشاعر ثلاثينية وأنا في عُمر ال16، واليوم أنا ثلاثينية ومشاعري كفتاةٍ في عُمر الــ 16، وصدِّقيني اكتشفت أنها لا تختلف"، تضحك، وتختم بالإجابة عن سؤالٍ ما هي أكثر أغنية تشعر أنها تُشبهها، وتُجيب: "أغنية بتنفَّس حريّة لجوليا بطرس".