بين الحقيقة والرَمْز.. كيف يحضر الوباء في الأدب؟
كما تتسبب الأوبئة بتحولات كبرى في حياة الفرد، فإن لها حضورها الخاص في الأدب.. فكيف يكون هذا الحضور؟
يُعرَّف الأدب غالباً بأنّه ضرب من ضروب الفنّ الإبداعيّ، ابتكره الإنسان ليُعبِّر عمّا يدور في نفسه من خلجات إزاء الجمال والعاطفة والخيال. ويُعرَّف الوباء بأنّه حزنٌ وسُقمٌ ومرضٌ يتعلّق بقلب الإنسان وكينونته. فأين تكمُن علاقة الأدب بالوباء؟
تنطلق العلاقة بين الأعمال الأدبية بالمُجمَل وبين الأوبئة التي شهدتها البشرية، من كون أنّ الأدب في حقيقته تعبير عن حركة الحياة في مختلف الأوقات سواء في الماضي والحاضر والمستقبل.
وهذا ما يجعل القارئ للأدب العالميّ يُلاحظ ظاهرة سُمّيت بــ "أدب الرّعب"، الذي توحي به روايات ستيفن كينغ مثلاً، وصولاً إلى روايات تنصر القوى الإنسانية وتعمل على إنشاء عالمٍ مليء بالعدالة والسلام والمحبّة كرواية "العمى" لجوزيه ساراماغو.
وإذا قرأنا أدب القرن التاسع عشر والعشرين والواحد والعشرين، نلاحظ ظاهرة سُمّيت "أدب الوباء"، ويرجع هذا عمليّاً إلى تفشّي عددٍ من الأوبئة على مرّ العصور وأثرها في السّرد الغربي، وكان من الطبيعي أن ينعكس هذا على الأدب، كما على شتّى مجالات الحياة الإنسانية. فالأدب فنّ يعكس صورة حياة الناس في المجتمع، فلهذا نجد الأمراض تستفزّ إبداع الكاتب ليوظّفها في أدبه.
وكما أنّ الأوبئة تسبَّبت بتحوّلاتٍ اجتماعيةٍ واقتصاديةٍ وثقافيةٍ على حياة الفرد بشكلٍ خاص والمجتمع بشكلٍ عام، وأكبر مثال على الواقع الحيّ لتأثير الوباء على المنطقة العربية عندما تفشّى الطاعون في بلاد الشام خلال العصر الأمويّ ممتدّاً إلى العراق ومصر وشمال أفريقيا، وهكذا لعب الطاعون دوراً أساسياً آنذاك في سقوط الدولة الأمويّة وُفق ما ذُكِر في كتاب (الطاعون في العصر الأموي) لأحمد العدوي.
وهنا نُميِّز بين علاقة الأدب بالأوبئة من جهةٍ وبين علاقة القراءة بأزمنة الوباء من جهة، فنرى أنّ القراءة تزيد بأزمنة الوباء حيث أنّ البشر بطبيعتهم يتّجهون إلى القراءة محاولة منهم لكَسْرِ العزلة التي يعيشونها أثناء فترات الحَجْر الصحّي، وغالباً ما ترى الناس أثناء هذه الفترات يقرأون الأعمال التي تكلّمت عن الأوبئة، وأكبر دليل على هذا التقارير الصحفية التي أكّدت أنًّ (رواية الطاعون) لألبير كامو كانت الأكثر قراءة أثناء فترة انتشار فيروس "كورونا"، فيما ارتفعت نسبة مبيعات رواية "العمى".
وانتقلت الأعمال الأدبية التي تناولت الوباء في مستويات توظيفية مختلفة، فغلب الطابع الأسطوري في مسرحية "أوديب ملكاً لسوفوكليس" وكان رمزيّاً في "الطاعون" لكامو، وواقعيّاً في قصيدة "الكوليرا" لنازك الملائكة.
وهنا نجد أنّه ليس من وظيفة الأدب تأريخ الأوبئة، بل مُلامسة آلام ومُعاناة الإنسان، وهنا أبرز الأعمال الأدبية التي كان الوباء موضوعاً لها:
دفتر أحوال الطّاعون: رواية للكاتب الإنكليزي دانييل ديفو أصدرها عام 1722، وثّق فيها لطاعون لندن 1665 بشكلٍ تأريخيّ مُفصّل يقشعّر البدن عند تخيّل أحداثها. ويصف فيها الكاتب تزايد الإصابات مع حلول الربيع، قبل أن تبدأ السلطات بتطبيق الحَجْر الصحّي الذي عبَّر عنه ديفو بقوله "توقُّف إقامة كلّ الولائم العامّة، خاصّة تلك التي تقيمها الشركات في هذه المدينة، وكذلك وقّفَ تقديم وجبات العشاء في الحانات، وغير ذلك من الأماكن التي تشهد أنشطة ترفيهية يشارك فيها العامّة، لحين تطبيقها نظام مختلف يُجيزها من جديد". وأكّد ديفو في عمله أيضاً أنّه "لم يكن هناك ما هو أكثر فتكاً بسكّان هذه المدينة، أكثر من إهمالهم المُفعَم بالكسل في التعامُل مع هذه المجنة".
وفي العام نفسه أصبح الوباء مُروِّعاً ووصل إلى ذروته في أيلول/سبتمبر ليقتل عائلات بأكملها. وفي كانون/الثاني ديسمبر حلّ الشتاء القارِس بعد أن أصيب جميع سكّان المدينة بالمرض وتعافى أغلبهم وبدأت المدينة تتنفَّس من جديد.
حصان شاحب فارس شاحب (1939)، عمل للأميركية كاثرين آن بورتر، تروي قصّة وباء الانفلونزا الذي قتل الأميركيين أكثر مما فعلت الحرب العالمية الأولى.
الطاعون (1947) للفرنسي ألبير كامو، وتتحدَّث عن الطّاعون الذي تفشّى في وهران الجزائريّة ويرمز الكاتب في روايته إلى العقاب الإلهي، حيث أن "الطاعون" عنده لم يكن حقيقيّاً.
قصيدة الكوليرا (1947) للشاعرة العراقيّة نازك الملائكة، كتبتها عندما سمعت في المذياع خبر إصابة الشعب المصري بوباء الكوليرا وتتبّعت أخبارهم.
رواية اليوم السّادس (1960) للمصرية أندريه شديد، وتتحدَّث فيها عن الحب واستطاعت شديد أن تطرح سؤال الحبّ وهو السؤال الفلسفي الوجودي الذي لا نعثر عليه.
الحب في زمن الكوليرا (1985) يروي فيها غابرييل ماركيز قصة حبّ مُعقَّدة بين رجل وامرأة منذ المُراهقة وتستمر بعد السبعين، رواية تسكنها الحيرة، فهي خيال يتجسَّد أمامنا كحقيقة ولا فارِق واضح بين داء الكوليرا وداء الحبّ.
العمى (1995) ويُصوّر فيها البرتغالي خوسيه ساراماغو الرّعب الغريزي عند تفشّي (الوباء الأبيض)، حيث يدفع الخوف من الوباء إلى تخبّط الناس في فوضى غاب فيها حسّ المسؤولية اللازم لمواجهة الأزمة فيخرج الوباء عن السيطرة. ويغمز ساراماغو في الرواية إلى انعدام البصيرة الفكرية مع غياب البصر من العيون.
عام الطوفان (2009)، وتتحدَّث فيه الكاتبة الكندية مارغريت أتوود عن مجتمع عشّش فيه الوباء ما أدّى إلى أن تصل البشريّة إلى حافة الانقراض. وتدور أحداث العمل بعد 25 عاماً من فناء غالبية سكان الأرض بسبب طوفان من دون ماء تمثّل بوباء خبيث انتقل عبر الهواء، كأنه يطير بجناحين ليجتاح المدن كما يجتاحها الحريق.
إيبولا للسوداني أمير تاج السر وتتحدّث عن رجل كان يذهب إلى الكونغو لأغراضٍ ذميمة، ويلتقط هناك الفيروس ويتّخذ من المرض جسراً يعبر به نحو جنوب السودان.