خليجيّون.. ولن نصالح!
مجموعة من المثقّفين والكتّاب من دول الخليج تأبى ركوب موجة السكوت عن التطبيع الإماراتي.. وهذا ما قالوه.
ليست المواقف بلا فائدة، وليست الكلمات بلا أثر. كوكبةٌ من المثقّفين والكتّاب من دول الخليج العربي أبت ركوب موجة السكوت أو التفرّج على محو وتشويه التاريخ والذاكرة الثقافيّة للمنطقة. لم تعد مواجهة خطابات التطبيع وعلاقاته ضرورة فقط، بل قيمة أساسية لا تنفصل عن الحريّة والكرامة والذات. فيما يلي آراء كتاب وشعراء من بعض دول الخليج حول التطبيع الإماراتي مع "إسرائيل".
علي الديري - كاتب وباحث بحريني
"يُقال إنَّ "إسرائيل" ديموقراطية. إنهم يقتلون الأطفال والنساء، ويهدمون بيوتهم، ويحرقون مزارعهم، وليس لديهم سلاح. الديموقراطية تعني العدالة وحنان الإنسان على الإنسان. قاتل الله الديموقراطية إذا كانت هكذا، أعوذ بالله منها". الشيخ زايد آل نهيان (1918 - 2004) أوّل رئيس لدولة الإمارات العربية المتحدة.
لا أظنّ أنَّ هناك أبسط وأعمق من هذا التعريف النقدي لـ"إسرائيل" وهرائها الديموقراطي. العنف الَّذي تحمله في أحشائها يمثل طبيعتها الدينية والتاريخية التي تأسَّست عليها، ومنه اتخذت اسمها وهويتها. "إسرائيل" تعني غالب الرب أو صارع الإله. هل يُراد لنا أن نكون طبيعيين مع طبيعتها، ونتقبَّلها ككيان قائم على العنف، ومؤسّس على الصراع مع الأغيار؟ إنها تعطي تعريفاً قاتلاً للديموقراطية. كيف تعطي لنفسك شرعية بالقتل والطرد والتهجير وتجريد الناس من حقوقهم، وتريد من المجتمع الدولي أن يقر لك بأن هذا هو سلام الشجعان!
التطبيع مع كيان العنف باعتباره ديموقراطية وسلاماً ينتهك مفهوم الشرعية التي قعد لها فلاسفة الدولة الحديثة. هذا التطبيع خطر على السلام، لأنه لا يقوم على العدالة ولا على الإنصاف. إنه يضخّم جرعة الألم، والشعور بالظلم، وفقدان الأمل بالانتصار بالأساليب السلمية والقانونية. يقول هذا التطبيع للشعوب المغلوبة على أمرها: ليس لكم إلا القوّة والعنف المدمّر، ذلك ما يجلب لكم الحق، لا كيان لكم من غير هيكل شيطاني تؤسّسون عليه لحمة العنف والغلبة.
عبد الله حبيب - شاعر وسينمائي عماني
تُنسبُ إلى "لورانس العرب" الَّذي أسهم في تمزيق الوطن العربي إلى أشلاء، وذلك عبر المشاركة في هندسة اتفاقية "سايكس بيكو"، مقولة: "قد يكون هناك شرف بين اللصوص، ولكن ليس من شرف بين رجال السياسة".
وبغضّ النظر عما تقوله هذه الشخصية الكولونيالية والإمبريالية، فإنّنا نعلم أن "السياسة هي فن الممكن"، وأن هناك ضرورات لتكتيكات مرحلية وتحالفات مؤقتة وغيرها مما يجود به علينا قاموس الرطانة السياسية (العربية على وجه الخصوص)، غير أننا لم نألف يوماً أن السياسة هي موهبة الانبطاح الكامل، وفريضة الاستسلام الرخيص، والمعركة بالكاد بدأت في روزنامة التاريخ.
ليس من حقّ أحد أن ينيب أحداً (وخصوصاً حين لا يكون هو الضحية المباشرة لتبعات الوغى) في التحدث باسم الحوامل اللاتي بُقِرَت بطونهنَّ، أو الصبايا اللواتي اغتصبن، أو الأطفال الذين أحرقوا أحياء. لم نسمع يوماً أنَّ دم الأشقاء يمكن أن يصير ماءً حتى قبل أن تجفّ دموع الثكالى والأرامل والأيتام.
لم يخطر في بالنا قَطُّ أن نظاماً عربياً لا يقع في محيط المواجهة المباشرة مع العدو، يمكن أن يتحدَّث بالنيابة عن شهدائنا وصلواتنا وأحيائنا ولاجئينا ومشردينا وكرامتنا.
لكن أيها التطبيع، أنت تجهل، ونحن ندرك إدراك اليقين أن الطبع يغلبُ التَّطبُّع، و"ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ويأتيك بالأخبار من لم تُزَوِّدِ".
محمد العتابي - شاعر وناشر عراقي
عملية الترويج للتطبيع ليست اعتباطية، ولا تُدار بطريقة عشوائية. هي عملية ممنهجة ودقيقة يتم التخطيط لها في دوائر صنع القرار في تل أبيب، والتنفيذ يتم في عواصم عربية عن طريق شبكة واسعة من وسائل الإعلام، سواء كانت فضائيات إخبارية، أو حسابات ناشطة في وسائل التواصل الاجتماعي، أو حتى من خلال "الذباب الإلكتروني".
هذه العملية تسير في اتجاهين، اتجاه يُشكّك في أهمية القضيّة ومحوريتها، عن طريق إطلاق شعارات "وطنية" كاذبة وخادعة تصوّر أن التطبيع مع الكيان الصهيوني في مصلحة الشعوب، ونحن نرى ذلك من خلال تصاعد الخطاب اليميني والانعزالي، تحت شعارات من قبيل "بلدي أولاً" وغيرها.
والاتجاه الثاني هو الهجوم الشرس على حركات المقاومة ضد الكيان الصهيوني، وشيطنتها تحت ذرائع واهية وبنفَس تأجيجي، مثل الانتماء إلى الإخوان المسلمين، أو التبعية للمحور الإيراني، أو حتى الإلحاد ومحاربة الدين في ما يتعلق بالتيارات اليسارية المقاومة، وهذا كله يأتي في ظل تضييق ميداني ومالي على هذه الحركات، وتلفيق تهم استخباراتية رخيصة بحقّها.
أعتقد أنَّ دور المثقّف العضويّ الحقيقيّ هو فضح هذا النمط المتّبع، وعدم الانجرار إلى صراعات فكرية أو سياسية ضيقة تخدم العدو الصهيوني وتضعف المقاومة والشعوب المناهضة للتطبيع وأذنابه.
عائشة العبد الله - شاعرة وناشرة كويتيّة
لطالما كانت فلسطين بذرة أولى لكلّ شجرة. وقد قاومت بها العواصف في حياتي. أول لباس أثرت به تعجب كل من حولي حين ارتديته كان الكوفية. أوّل اعتصام هربت من البيت لأجله كان أمام السفارة الفلسطينية. أول حملة إعلامية قمت بها كانت عن المقاطعة.
أوّل رقصة جماعيّة تعلَّمت أداءها كانت الدّبكة. أول عبارة أبكتني في رواية واقتنيت على إثرها كل روايات غسان كنفاني كانت: "لماذا لم يطرقوا جدار الخزان؟".
أوّل أيقونة غرست رسالة الفن في ذاكرتي كانت حنظلة. أول قصيدة خطَّها لي صبي وعلَّقتها على جدار غرفتي كانت لدرويش: "لا زلت حياً في مكان ما، وأعرف ما أريد".
ورغم اختلاف المراحل والتوجهات التي مررت بها والمعارك التي خضتها، كانت فلسطين ثورة أبدية مشتعلة دائماً في قلبي وممتدة ومتشعّبة في كل الاتجاهات.
إنّها الأولى الَّتي علَّمتني قيمة الرفض، ومعنى الهوية، وهاجس المسؤولية، وتأثير الكلمة حين نصرخ بها ونغني:
"منتصب القامة أمشي.. مرفوع الهامة أمشي.. في كفي قصفة زيتون.. وعلى كتفي نعشي "
فلسطين حقيقتنا وتاريخنا وقضيتنا الأولى، والتطبيع مع المحتلّ خيانة عظمى، والجهل خيانة أعظم. وإن كان ثمة فعل يجب علينا القيام به، فهو الوعي بقضيتنا، ورفع أصواتنا بالمقاومة، مهما حاولوا إقناعنا بالصمت.
فاطمة إحسان - اختصاصية في علم النفس وشاعرة عمانيّة
رغم المواقف المعلنة في ما يتعلَّق بتطبيع العلاقات مع "إسرائيل" على مدى كل السنوات الماضية، ولا سيما في السنوات الأخيرة، ظللت لاشعورياً أنكر احتمال أن تتسارع الأمور إلى هذا الحد في وقت قصير كهذا. أعني أن يصبح التطبيع وجهة نظر شرعية يُطلب منك أن تتفهَّمها، وأن تُسلّم بضرورتها في ظل التعقيدات السياسية في المنطقة.
ورغم ذلك، يظل الأمر الأكثر إيلاماً هو التنصل الفردي من موقف المقاومة؛ ذلك التسليم بأن "إسرائيل" دولة ذات نفوذ دولي لا يمكن تجاهله، وأن الأمر حدث وانتهى، ولا جدوى من مواصلة التنكّر له.
لم تعد "إسرائيل" في نظر هؤلاء كياناً دخيلاً غاصباً ولا إنسانياً. لم يعد وجودها محلاً للسؤال، كما كان في السابق. القوة وحدها هي ما يهمّ الآن، ولتذهب الإنسانية إلى الجحيم. لا شكَّ في أنّ المرحلة التي نخوضها اليوم حرجة للغاية، على أمل أن لا نفقد ما بقي من فلسطين فينا، وما بقي من وجودها على الأرض، وهو ما يجعل الثبات على موقف مقاومة التطبيع أشد أهمية وأكثر دلالة.