الجنديل للميادين الثقافية: كتّاب السلاطين ساهموا في إشاعة ثقافة الخنوع
كاتب وروائي عراقي حاز على جائزة أفضل كاتب عمود صحفي في العراق عام 2016. تنوعت أعماله بين الرواية والقصص والمسرح والنقد الأدبي. إنه أحمد الجنديل، وهنا نص الحوار الذي أجراه معه أوس أبو عطا للميادين الثقافية.
بداية، هلاّ حدّثتنا بشكل مُقتضب عن روايتك (إمبراطورية الثعابين) ولماذا طبعت أكثر من مرة؟
الروائي الناجح مَن يلتقط الحدث المؤثر ويعتني به ويكتب عنه بصدق، مستعيناً بما لديه من ذاكرة وتجربة وثقافة ومعرفة واسعة في كتابة الرواية. منذ أن مارست فكّ طلاسم الحرف وأنا أمقت الكتابة بالقلم المذّهب الوردي، ومنذ أن وضعت قدمي على طريق الوجع والألم وأنا أطلق النار من قلم الرصاص الذي أحمله طيلة رحلتي مع الحرف، سواء في عالم الصحافة أو في عالم الأدب، ورواية (امبراطورية الثعابين) خرجت من رحم قلم الرصاص، شأنها شأن الروايات والقصص التي كتبتها طيلة نصف قرن.
هذه الرواية توفّرت لها عناصر الشهرة كونها تتحدّث عن ثيمة تلتصق بأحاسيس ومشاعر المُتلقّي، وتجسّد حالات الظلم والاستغلال والاضطهاد التي يعاني منها عالمنا اليوم.
يعود الفضل في شهرتها إلى جهود الناشر الذي لاحظ الإقبال عليها في معارض الكتاب في دمشق وبيروت والقاهرة ودبي ومسقط وبغداد وغيرها. الأمر الذي جعله يعيد طباعتها، ولأنها نالت الشهرة الواسعة، فقد بدأ بعض النقّاد يكتبون عنها وفق اجتهاداتهم. فالناقد العربي ينتظر الرواية الناجحة أن تدقّ بابه وتتوسّل اليه بالدخول للكتابة عنها، وكانت فرصة ثمينة لي للتعرّف على بعض أقلام النقاد الذين لم أقرأ لهم من قبل. لم تكن (امبراطورية الثعابين) أفضل رواياتي ولكنها أكثرها شهرة، وهي تذكّرني برواية (شرق المتوسّط) للروائي عبد الرحمن منيف.
اقتحمت تجربة فريدة قلّما يقتحمها كتاب الرواية الذكور، ألا وهي رواية السيرة الذاتية لأنثى، بتقمّصك شخصية "ساجدة" ووصف أحاسيسها وإمكانيات البوح والاعتراف بتداعيات ما حفره الماضي في الذاكرة السردية للخطاب المسرود، ألا يعطينا الحق كل هذا الزخم وهذا الحجاب السردي في القول إن "ساجدة" هي شخصية حقيقية وأنت فقط تكتّمت عليها خوفاً من المتابعة القانونية، رغم أنك نبّهت القارئ على أن الرواية هي خيال، لكن بدءاً من الصفحة العاشرة تبدأ بالبوح والاعتراف على لسان بطلتك؟
(ساجدة البركان) شخصية حقيقية كلّفتني الكثير من الجهد والمال وأنا أتابعها، اقتفيت أثرها وجعلتها الشخصية المحورية للرواية، واتفق معك على أنها رواية سيرة ذاتية اعتمدت في كتابتها على تعادل زمن الحكاية مع زمن الكشف، مُستعيناً بتقنية الفلاش باك واستخدام الأسلوب السردي القائم على الشعرية والحاضِن لأطراف الصراع العنيف، معتمداً في الأساس على عناصر الرواية الناجحة وكيفية التعامل معها.
لقد تقمّصت شخصية (ساجدة البركان) وكتبت عنها ولا أعتقد أنها حال فريدة في عالم الرواية، لكنها تحتاج إلى جهد كبير ومهارة عالية وتجربة واسعة، ولأن الرواية لا تخلو من الخدعة فقد جاء الإهداء: "إلى ساجدة البركان.. زارتني في الحلم، نفضت ثيابها بين يديّ وهاجرت عارية نحو الشمس".
ألا تشعر بالإحباط مما تكتب خاصة عندما ترى كتباً لكبار الشعراء والروائيين تُباع على الأرصفة بل وتكاد تطأها أحذية المشاة؟
قبل شعوري بالمرارة أعرف أنّ حرباً شرسة قائمة بين الحاكم والمثقف الذي يسعى إلى التغيير الحقيقي وصولاً للحياة الحرة الكريمة، ولأن الحاكم يملك كل أساليب الترغيب والترهيب وبيده مفاتيح الأمر والنهي، فلا بد للثقافة من التراجُع وأن تنحسر الرغبة في القراءة ويصبح الكتاب سلعة بائرة ويبقى الصراع قائماً بين من يتطلّع إلى الشمس، وبين مَن يسحب الشعب إلى مستنقعات الخرافة والانحطاط.
بعيداً من رواياتك، كيف تقيّم الرواية العربية بمجملها بعد ما يسمّى بـــ "الربيع العربي"؟ وهل هناك قراء للرواية في ظل تطوّر وسائل الاتصال وعزوف الناس عن القراءة؟
ما تمخّض عن "الربيع العربي" ظاهرة الكتابة على طريقة "سلق البيض" أو "حاضر يا فندم"، وفتحت المطابع فكّيها وخرجت منها عشرات الروايات التي تفتقر الى أبسط عناصر وخصائص الرواية الناجحة، وانتهى عصر كنّا نرى فيه الرواية على أنها لعبة فنية كبيرة تحتاج الى جهد كبير وصبر طويل ومهارة واسعة وثقافة وتجربة وذاكرة الخ. وخرج لنا عصر تداخل فيه الروائي وكاتب الرواية والناقد وكاتب النقد وقد انسحب هذا على الشعر وغيره من الفنون والآداب.
هذه الظاهرة الخطيرة أفرزت حالة من الإرباك بين الروائي الحقيقي وبين كاتب الرواية الذي لا يعرف كيف يكتب، نتيجة وسائل الاتصال واتباع العلاقات الرخيصة في صناعة الشهرة والأسلوب غير الاخلاقي في تسليط الأضواء على اعمال تافهة، ما جعل الكثير من المبدعين يلوذون بالصمت والمتلقّين يعزفون عن القراءة. وبهذا تحقّق لأولي الأمر رفع الصداع عن رؤوسهم نتيجة تهميش أقلام المبدعين التي لا تعرف النفاق أو المديح لهذا الحاكم أو ذاك.
بحُكم إقامتك الطويلة في سوريا، هل يمكنك أن تعطي لنا رأياً محايداً عن الكتابة بشكل عام قبل الحرب وبعدها، وما هي نصيحتك للكتّاب السوريين وخاصة أن أغلبهم الآن خارج البلاد؟
في سوريا الكثير من الأقلام المبدعة وقد ازدهرت الثقافة بشكلٍ ملفت وخرجت أسماء يُشار إليها في المشهد الثقافي العربي مثل حنا مينا، حيدر حيدر، حسن حميد، محمد الماغوط، سليمان العيسى وغيرهم. إلا أنّ الأحداث الدامية التي مرت على سوريا أثّرت بشكل كبير على مسار الإبداع السوري وأصبح منهج التطهّر بالصمت مع كثرة المنشدين، الحالة التي تمسّك بها البعض بعدما غادر البعض الآخر إلى الخارج.
ما هو الطريق الأقرب للجائزة؟ التعاقُد مع دار نشر مشهورة؟ أم الدعوة للتطبيع مع "إسرائيل"، أم مُناهضة المجتمع العربي المُتدّين والمحافظ؟
دعني أقولها بوضوح: الكاتب المبدع عليه البحث عن الإنسان الذي بداخله وليس عن الجائزة، والكاتب الحقيقي عليه أن يقول كلمته بصدق ويرحل من دون الالتفات إلى تكريم أو جائزة.
كبار الكتّاب في العالم ما كتبوا من أجل جائزة، وبعضهم رفض جائزة نوبل عندما أتت زاحفة إليهم، والكثير ممّن يستحق الجائزة لم يحصل عليها، والكثير من الأعمال الهابطة نالت الكثير من الجوائز لاعتبارات سياسية.
ما يحدث اليوم، للأسف، أن بعض الكتّاب المُحترفين يبحثون في جيب الحاكم أو الجهة المانحة للجائزة وقد أهملوا الإنسان المتوهّج بالعطاء والنقاء داخل نفوسهم فسقطوا في وحل الهزيمة. ما يحدث اليوم ازدهار دور النشر التي أصبحت تتحكّم في أقلام المبدعين وفي المزاج والأهواء، ودخلت السياسة والأيديولوجيات إلى عالم الإبداع وبدأت ترسم خارطته وتعبث في بوصلته. هناك روايات لا تستحق ثمن الحبر الذي كتبت فيه إلا أنها سلّطت عليها الأضواء ونالت الكثير من الجوائز لأنها تناولت ثيمة داعِرة أو انتهجت أسلوب الشتائم وتسديد السهام إلى الدين أو التقاليد وبطريقة مقرفة ساذجة. لست ضد مَنْح الجوائز لكني أقف مُعترِضاً على مَنْح الجائزة لعملٍ لا يستحق.
هل يتحرّر الكاتب العربي من إرهاصات السياسة أم سيظل تابعاً لها؟
الشعوب تنهض بفعل الأقلام المُشرقة بعوامل النهوض والصدق، والكاتب المُبدع يعني موقفاً وكلمة قادرة على التأثير. ولأنّ الكاتب جزء من المجتمع العربي الذي يعاني من الخيبة والإحباط والانكسار، فقد ارتضى بعض الكتّاب العيش في الحدائق الخلفية لقصر الحاكم مع الغلمان والجواري، واحتل هذا البعض المناصب المهمة وساهم في شيوع ثقافة الخنوع والاستجداء.