(Transhumanisme) وهزيمة الموت.. هل من معنى لحياة مديدة؟
في ظل انتشار كورونا، تزداد مخاوفنا من الموت. فهل من مصلحة المجتمع تأخير الموت؟ وهل لحياتنا معنى إذ طالت؟
بين الحديث عن إطالة العمر وهزيمة الموت وخطاب انقراض الحياة على كوكب الأرض، يتدخل فيروس كوفيد-19 ليستعرض عضلاته أمام قوة البشر المزعومة، ويهدد بالقضاء على الكائن البشري، فهل يجب الثقة في ادعاءات "الترانس هومانيسم" (Transhumanisme) والتخلص نهائياً من الخوف من الموت، أو على العكس تماماً، يجب تصديق فكرة أن الحياة هشة وسريعة الزوال؟
الموت نقيض الحياة
في "الموعظة حول الموت وقصر الحياة"، يقول الفرنسي بوسويي (Bossuet): "إنه لضعف غريب للفكر البشري ألا يكون الموت ماثلاً أمامه، رغم أنه يظهر في كل جانب، وبآلاف الأشكال المختلفة. لا نسمع خلال مراسم الجنازة سوى عبارات الاندهاش من سبب وفاة الميت. يستحضر كل واحد ذكرى آخر مرة كلّمه، وعن أي موضوع حدثه المتوفى، وفجأة مات. هذا - تبعاً لما يقال - هو الإنسان! ومن يقول ذلك هو إنسان، وهذا الإنسان لا يهتم بأي شيء، ناسياً مصيره! وإذا ما خطرت بباله رغبة عابرة ما في الاستعداد للموت، فإنه يمحو سريعاً هذه الخواطر السوداء، ويمكنني القول أيها السادة، إن المائتين يعتنون بإقبار أفكار الموت أكثر مما يعتنون بدفن الأموات".
يخاطب رجل الدين المسيحي والأكاديمي بوسويي (1627-1704) العامة - كما يفعل الكثير من رجال الدين المسلمين خلال المآتم، مع التركيز على ما يسمونه "عذاب القبر" - مذكراً إياها بالموت السابق على اليوم الآخر، وبيوم الحساب الذي، على ما يبدو، يتناساه الناس ويحاولون تجاهله، لكن الخاصة تعرف جيداً أن الموت هو الموضوع الذي خاض فيه المفكرون، على اختلافهم، وألّفوا حوله ما لا يحصى من الكتب.
في مواجهة التصور المسيحي للموت، يؤكد الفيلسوف سبينوزا (1632 – 1677) تأمل الحياة لا الموت، وهي الفكرة نفسها التي يدافع عنها موريس ميرلو بونتي (1908 – 1961) بالقول: "يندرج تأمل الموت في النفاق، لأنه طريقة كئيبة في العيش". أما فولتير، فيوصي بتجاهل الموت: "أظن.. أنه لا ينبغي أبداً التفكير في الموت. لا يصلح هذا التفكير إلا لتسميم الحياة".
كما يسخر روجي بول دروا (Roger-Pol Droit) من فكرة أفلاطون، التي تعرف التفلسف بكونه تعلم الموت، قائلاً: "يضحكني الفلاسفة بمشروعهم العبثي والقديم، كما لو كان بالإمكان تعلم ما لا يتكرر، وما لا يمكن أن تكون عنه سوى تجربة فريدة وغير قابلة للنقل. أعرف أنني سأموت، لكني أجهل ما ينتظرني. معرفة مزعومة لا تتيح الإمساك بأي شيء. يموت كل واحد منا للمرة الأولى والأخيرة".
فيلسوف آخر، هو رووين أوجيان (Ruwen Ogien)، ينتقد "الكليشيه الفلسفي القائل بضرورة تعلم الموت". ويقول: "أتساءل ما الذي يمكن أن تتضمنه هذه العبارة الكاذبة أكثر من استدعاء الموثق وشركة شؤون الجنائز والدفن".
لغوياً، الموت ضد الحياة، وهو زوال الحياة عن الكائن الحي، والموتان خلاف الحيوان، ويعتبر النوم موتاً صغيراً، في مقابل الوفاة كموت كبير. و"مات حتف أنفه" (مات على فراشه بصورة طبيعية). ولقد تفنن العرب في التعبير عن الموت وأشكاله: موت أحمر، موت أسود، موت زؤام، موت زؤاف... كما يرد لفظ الموت في جمل كثيرة من مثل: "مت ضحكاً"، "أموت من الجوع"، "أموت فيه (حباً)".
ولا تقتصر فكرة الموت على ما يناقض الحياة، بل إنها تشمل ما لا يعود، والزمن الضائع، والفقدان بأنواعه كافة... والموت حق بالنسبة إلى المسلم، و"كل نفس ذائقة الموت"، وهو في التعريف الفقهي: "انسحاب الروح من البدن عندما يصبح البدن غير أهل لبقاء الروح فيه". ومهما اختلفت صور الموت وأسبابه، إلا أنه يبقى الحد الفاصل بين الحركة والجمود، وبين الحرارة والبرودة، وبين الحضور والغياب، وبين الوجود والعدم.
في المقابل، تعني الحياة استمرار بقاء الإنسان والحيوان والنبات في النمو والحركة. ولغةً، حيي الرجل يحيا حياة ضد مات. ولدى العلماء، الحياة مجموع الوظائف المقاومة للموت، فهل تنتهي الحياة بالموت أو أن الوفاة هي بداية حياة أخرى؟
يتقاسم مفكرون كثيرون مع بعض الملل والنحل فكرة ثنائية البدن/النفس، والتحاق الروح بالجسم (تقول عينية ابن سينا: "هبطت إليك من المحل الأرفع/ ورقاء ذات تعزز وتمنع") وخلودها، بل إن هناك من يقول بفناء الأجسام، وببعث الأرواح التي لا يعتريها الفساد فقط، وبأن الأرواح هي التي ستنال العقاب بالجحيم (النفوس الشريرة) أو ستكافأ بالنعيم (النفوس الخيرة).
وليس خافياً على الباحثين في هذا الشأن، أن أناساً، ليسوا بالقليلين، يؤمنون بتناسخ الأرواح، وباعتبار حلول روح ما في جسم حيوان ما عذاباً لها. وعلى النقيض من ذلك، يرى الملحد أن حياة الكائن البيولوجية تتوقف بمجرد موته. ورغم الاختلاف البيّن، فإن ثمة اتفاقاً على دلالة الموت كنهاية للحياة الواقعية بين الناس وداخل المجتمع، وكزوال للفرد وإقبار لجثمانه.
الخوف من الموت
ولكن لماذا يخاف الناس من الموت؟ ولماذا يشكل مصدر قلق دائم لهم؟ ولماذا يكرهونه؟ وهل سيزول ذلك الخوف إذا ما طال العمر وتجاوز الحد المعتاد؟ وهل موضوع الخوف هو الموت ذاته أو أشياء أخرى تتعلق به؟
تتعدد مخاوف الإنسان وفوبياته (رهابه) التي خصص لها عالم النفس سيغموند فرويد أجزاء من مؤلفاته وحاول تفسيرها بالتحليل النفسي، إلا أن الخوف من الموت يبقى الخوف الميتافيزيقي الأكثر ضغطاً على وعي الكائن البشري وتفكيره.
يقول مونتين: "أنا لا أخاف الموت، بل أخاف أن أموت"، ويقول شتوبريان: "يعاني الإنسان من ألم واقعي واحد: الخوف من الموت. حرروه من هذا الخوف، وستجعلون منه إنساناً حراً". هكذا إذاً يحضر الموت كإكراه حتمي، وحدّ مطلق، وتناه لا مفر منه. يخاف المرء أن يموت قبل أن ينجز عملاً ما، وقبل أن يتم مهمة ما، وقبل أن يطمئن على فلان... ولكن، لا أحد - عدا استثناءات قليلة جداً - يصرح بأنه أنهى ما كان يريد القيام به، وأنه مرتاح تماماً، وليس بحاجة إلى مزيد من الوقت، وأنه مستعد للموت.
وإضافة إلى ما سبق، يخاف الشخص من آلام الاحتضار، ومن لحظة الندم والحساب، ومن الموت وحيداً، ومن نسيان الناس له مباشرة بعد وفاته.
قد لا نعرف في عمر معين ما يمثله الموت بالنسبة إلينا، ولكن الجميع يختبر الفقدان والحداد خلال حياته، ويصادف الموت بأشكال متعددة. وإذا كان الأبطال يتحدون الموت بشجاعة وتفانٍ، فإن أغلب الناس يخضعون لجبروت مفرّق الأحباب، ويحذرون من خطره القريب والسريع: التحذير من حوادث السير، الهروب من مواقع القتال وساحات الحروب، مغادرة المنازل خلال الزلازل، على سبيل المثال لا الحصر. يقول جان زيغلير (Jean Ziegler): "يفرض الموت عليّ وعي تناهي وجودي. قرأت كثيراً... لكن تلك الكتب لا تبدد قلق الموت لديّ، لأنني كأي إنسان حي، أبقى مسكوناً برعب الموت وبدواره المتكرر".
هزيمة الشيخوخة وإطالة العمر
في ظل المخاوف سابقة الذكر، واستناداً إلى آمال في الخلود وأحلام قديمة في البقاء على قيد الحياة لأطول مدة ممكنة، تتسارع الأبحاث منذ عدة سنوات في إطار ما يسمى "الترانس هومانيسم" (حركة تخطي البشرية).
يقول لوك فيري: "على الرغم من أن ذلك سيبدو غريباً، لكن علماء جديين تماماً يعتقدون بأن المشكلة التي تشغل البشرية منذ الأصول، أي مشكلة الموت، لم تعد ينتمي إلى الميثولوجيا أو الدين أو إلى الفلسفة، بل صارت حكراً على الطب والبيولوجيا، وبالضبط على ما يدعى "NBIC": تكنولوجيا النانو، والبيوتكنولوجيا، وعلوم الدماغ والذكاء الاصطناعي".
وأضاف: "بفضل تقارب سلسلة من الثورات العلمية يجهلها الجمهور العريض إلى الآن، سيهزم الموت، إن لم يكن بحلول نهاية القرن الحالي، فبالتأكيد خلال القرن المقبل. ليكن مفهوماً أن الموت سيبقى دائماً ممكناً، في حادثة ما، أو انتحار، أو اعتداء مثلاً، لكنه لن يجيء أبداً من الداخل، بل من الخارج فقط".
لقد أمكن التغلب، بفضل التقدم العلمي وتطور العلوم الطبية، على بعض الأمراض، كما أمكن تحسين معدل العمر المتوقع (أو أمل الحياة)، على الرغم من الحروب والمجازر والكوارث الطبيعية التي أودت بحياة الملايين من البشر خلال القرن العشرين بصفة خاصة. وها هي مؤسسات الغافام (غوغل، وآبل، وفيسبوك، وأمازون، وميكرسوفت) تستثمر مليارات الدولارات في البحث العلمي لتحسين قدرات الجسم الإنساني وجعله يتخطى ما كان يعرف في السابق بـ"الطبيعة البشرية" التي يُعرّفها العجز والألم والموت.
وبذلك، سيصير بمقدور الفرد أن يعيش 150 عاماً، بل قد يصل عمره إلى 250 عاماً. يقول كريستوف جيجي: "تقنياً، لقد بات بمستطاعنا اليوم التدخل في سيرورات الشيخوخة. لم نعد في إطار البيولوجيا الخيالية، بل في الواقع البيولوجي الحقيقي". إن مكافحة الشيخوخة، بما يعني ذلك من العيش بصحة بدنية ونفسية جيدة وإبعاد شبح الموت، هو ما يطمح إليه الترانس هومانست (أي معتنق مذهب الترانس هومانسم).
وتكمن فلسفة الترانس هومانسم، تبعاً لنيك بوستروم، "في فكرة بسيطة مفادها أننا نستطيع أن نعيش حيوات أفضل باستعمال معقول للتكنولوجيات من أجل تعزيز قدراتنا البيولوجية وإطالة مدة حياتنا". وبتعبير آخر، إن الكائن الذي تتوق إليه نزعة الترانس هومانسم، والمقاوم للأمراض والشيخوخة، هو "هومو- تكنو" (إنسان تكنولوجي) متمتع بقدرات مزيدة، إن لم تكن خارقة، وذلك بفضل زرع أجسام وآلات في البدن، وإمداده بمواد جديدة، وتعزيزه بقدرات معلوماتية، وتغيير تركيبته الوراثية، أي أن هذا "السيبورغ" سيستفيد من آخر الاكتشافات العلمية والاختراعات التكنولوجية التي سيوظفها علم الشيخوخة للتأثير في مكونات الجسم، وخصوصاً ما يسمى التيلوميرات (Télomères)[1].
وإذا علمنا أن كلفة التقدم في السن، وما يواكبه من أمراض مزمنة (القلب والشرايين، السرطانات، السكري، الاختلالات العصبية والنفسية...) مرتفعة جداً، إضافةً إلى تضاعف عدد سكان العالم البالغين أكثر من ستين سنة، والذي سيصل إلى 22% من الآن وإلى حدود العام 2050، بحسب "منظمة الصحة العالمية"، فإننا سنفهم لماذا يجب الإسراع في البحث والابتكار.
حلم القضاء على الموت ومعنى الحياة
من بين الانتقادات الكثيرة التي توجه إلى تيار "الترانس هومانيسم"، نخبوية الاستفادة من ترميم واستزادة الجسم والذهن، ذلك أن الغني فقط هو من يستطيع دفع المصاريف الباهظة لإطالة العمر وتخليص البدن من العوامل المسببة للشيخوخة، بينما يكافح المقهور والمجتمعات الفقيرة من أجل ضمان لقمة العيش، لكن ألن تساهم "دمقرطة" الطب المُرمِّم في الحد من هذه الفوارق وجعل الحلم "بحياة مزيدة ومنقحة" في متناول الجميع؟
من البديهي أن تغيير العمر البيولوجي ومكافحة الشيخوخة لدى الفرد يبعدان شبح الموت، لكن هل يُسعد المرء فعلاً العيش لمدة طويلة؟ وهل فعلاً من مصلحة المجتمع تأخير الموت؟ وهل سيبقى للحياة معنى إذا ما امتدت وطالت؟
على الصعيد الاجتماعي، يترتب على إطالة عمر المسنين تزايد ديمغرافي - مع ما يرتبط به من متطلبات استهلاكية - يضر بالجماعة أكثر مما ينفعها.
ويرفض الكثير من الناس العيش لمدة طويلة، منطلقين من مبدأ أن لكل شيء نهاية حتمية متناسبة مع العمر الكرونولوجي ينبغي التسليم بها.
وهنا يتم التشديد على محدودية الوجود وضرورة الموت، لكي تكون الحياة ذات معنى. إن الحياة الجديرة بأن يحياها الإنسان، الميال إلى الكسل والجمود، والمهدد بالملل والضجر، أي الحياة - الكفاح، هي تلك التي تستمد دلالتها من التناهي والموت.
[1] التيلومي أو القسيم الطرفي أو القطعة النهائية هو تسلسل متكرر يقع في نهاية الكروموزومات (الصبغيات)، ويحمي البيانات المورثية، ويمكن الخلايا من الانقسام. ويؤدي تآكله إلى توقف الخلية عن الانقسام وإلى شيخوختها. الكائن الحي مبرمج على تآكل أو فقدان التيلوميرات تدريجاً، فكلما انقسمت الخلية قصر التيلومير، ولم يعد بالإمكان ضمان أمن الــ "دي أن اي" (DNA).