"الهنود الحمر" ليسوا هنوداً ولا حمراً!
كريستوفر كولومبس و"الهنود الحمر" اسمان اجتاحا التاريخ والسينما. كيف فندت الدراسات الحديثة الأساطير حولهما؟
عند الحديث عن اكتشاف القارّة الأميركية، لا يمكن تجاوز اسمين لهما حضور كبير في ذاكِرة التاريخ والسينما الكلاسيكية. إنهما كريستوفر كولومبس و"الهنود الحمر".
وعلى الرغم من أن الدراسات الحديثة فنَّدت الكثير من الأساطير حول كولومبس والسكان الأصليين، فإن صورة الأخير بوصفه المُكتَشِف المُغامِر وصاحِب الفضل في اكتشاف القارّة الأميركية، ظلّت على حالها في الثقافة الشعبية، بالتوازي مع رسوخ صورة الهنود الحمر كمجموعةٍ بشريةٍ "متوحّشة" و"مُتخلِّفة". هذه الصورة النمطية بقيت حاضِرة في ذاكِرة التاريخين المَحكي والسينمائي على حدٍ سواء.
لكن الدراسات والدلائل التاريخية تشير إلى أنّ أول الواصلين الأوروبيين إلى القارّة الأميركية الشمالية كان شعب الفايكينغ، وليس كولومبوس. وتؤكِّد الآثار الأنثروبولوجية المُكتَشفة في كندا أنّ العلاقة بين الفايكينغ والسكان الأصليين كانت متينة، بعيداً من التصادُمات القائمة أساساً على التجارة، لكن الصِدامات والمعارك بدأت بالظهور مع المستعمرين الأوروبيين في القرن الخامس عشر، إلا أنَّ العلاقات التجارية بين الفرنسيين والبريطانيين والسكان الأصليين أسَّست لتحالفاتٍ وعلاقاتٍ تمتدّ آثارها حتى اليوم.
وفي هذا السياق، هناك نظريّتان تحملان دلائل عدَّة حول وصول السكان الأصليين إلى القارّة الأميركية، تتماشيان جنباً إلى جنب في شرح الآثار التي تمّ اكتشافها وتبيانها.
تقول النظرية الأولى إنّ السكان الأصليين نزحوا من الشمال الآسيوي، من سيبيريا، عابرين الجسر الجليدي، في فترة العصر الجليدي، وصولاً إلى أراضي الشمال الأميركي، المُسمَّاة اليوم كندا. وقد ثبت ذلك من خلال فحص "DNA" وتطابُق الروابِط التي تجمع سكان الشمال الآسيوي والسكان الأصليين في الشمال الأميركي.
أما النظريّة الثانية التي يعتقد بها بعض الباحثين، فهي أنّ بعض السكان الأصليين وصلوا إلى أميركا عن طريق البحر، قبل وصول أولئك القادمين من صحراء سيبيريا.
وبغضّ النظر عن الاختلاف حول فترات وصول تلك الجماعات البشرية وعُمر الآثار المُكتَشفة، يتَّفق الجميع على أن ثقافة السكان الأصليين قديمة ومتينة ومُتعدِّدة، وأنها تطورت عبر التاريخ وما زالت تتطوَّر بما تحمله من خصوصيّة، لكن الفكرة السائِدة عن "الهنود الحمر" بُنِيَت كإيديولوجيا تعمل بشكلٍ ديناميكي على تصوير الفكرة القديمة عن السكان الأصليين في أميركا الشمالية وتصديرها.
هذا ما أسَّسته مُراسلات الاستعمار وأفلام "الكاوبوي"، إضافةً إلى أفلام المعارك الأميركية بين "المُتحضّرين" و"المُتوحَّشين"، حتى إن الصحافة لم تكن أفضل من الفكر الهوليوودي الأبيض، فما فعلته هو نشر الفكرة السائِدة وترسيخها في ذاكِرة الأجيال الجديدة، بل وأحياناً جعلها أسوأ مما كانت.
يُشير الصحافي الكندي الشهير دنكن مكو، مؤسِّس Reporting in Indigenous Communities، والذي يعمل في "CBC"، إلى الكيفيّة التي صوَّرت من خلالها الصحافتان الأميركية والكندية السكان الأصليين، بعيداً من مُصطلح الهنود الحمر، لكن بمواصفات "الهنود الحمر" التي عملت هوليوود على تصويرها.
يذكر دانكن في مقالة أنّ الإعلام تناول السكان الأصليين من مناطق أُطلِق عليها اسم "WD4"*، وتحدث عن أنّ السكان الأصليين عبارة عن مُحاربين، راقصين، طبّالين، ثمالى، أو أموات/ ضحايا، فكما افتقرت السينما سابقاً إلى البُعد الثقافي في تصوير السكان الأصليين، افتقرت الصحافة إلى حِرفتها الاستقصائية، وكشفت ضَحالة ثقافة صحافييها في هذا الجانب.
ففي المؤتمرات والندوات الثقافية والحضارية، يُركّز المُصوّرون الصحافيون على التقاط الصوَر التي تتماهى مع الأفكار السائِدة عن السكان الأصليين، كقبعات الريش وملابس الجلد وأصباغ الوجه وأعلام القبائل.
أما في الاحتفالات والمناسبات الدولية أو المحلية، أو حتى تلك الخاصة بالسكّان الأصليين، وذِكرى الأحداث التي مرّت عليهم أو أرَّخت لوجودهم، فيتمّ تصوير رقصهم وطبلهم وغنائهم بعيداً عن إيضاح المحتوى والدلالات والمعاني الثقافية وأبعادها، وكأنّ الطبل والرقص ممارسات خاوية من المحتوى، ونداءات وصرخات تعود إلى وحشيّة هؤلاء وتخلّف أجدادهم، بينما الحقيقية مُخالِفة تماماً للواقع المعروض.
إنَّ الفن والموسيقى جزءان أساسيان من الدين والثقافة. وكما كان لموسيقى الكثير من المشاهير، أمثال موزارت، الأبعاد والدلالات الدينية، وكما كان لفِرَق الكورال وحلقات الذِكر الخاصة بالمُتصوّفين المسلمين حسّ طقوسي شاعري وروحي، كذلك هي موسيقى السكان الأصليين ورقصاتهم وأناشيدهم، وهذا ينطبق على اللباس والهرم الاجتماعي والعلاقات الداخلية ما بين العوائل والقبائل، بل وحتى منظومات العلاقات التجارية والسياسية والتحالفات وشروطها.
ربما حان الوقت المناسب الذي تقوم فيه الصحافة بتصحيح الصورة السائِدة عن السكان الأصليين، وإشعال ضوء المعرفة خارج نطاق الدراسات والأبحاث الأكاديمية، فالتعاطُف مع القضايا ليس كافياً من دون دمجه مع المعرفة والتبيان الثقافي.
كما أن نشر الأخبار والتقارير وإذاعتها من دون بحث واستقصاء في الأبعاد التي تحملها قضايا وأحداث ترتبط بإثنيات ومجموعات تحمل تاريخها الخاص، كالسكّان الأصليين في القارّة الأميركية، ينتج صورة مشوَّهة بعيدة من الحقيقة والعمل الصحافي الاحترافي.
المصادر: Blake, R., Keshen, J., Knowles, N., & Messamore B. (2017) Conflict and Compromise Pre- Confederation Canada, university of Toronto Press