من بغداد ثم الأندلس.. محطات من تاريخ المطبخ الجزائري
قام التفاعل بين المغرب العربي والأندلس على مجالات كثيرة منها الطبخ. إليكم حكاية المطبخ الجزائري.
يُعدّ التواصُل بين عَدْوَتَي المغرب والأندلس من العناصر المُهِمّة والضرورية لدراسة تاريخ ما يُعرَف بــ "الغرب الإسلامي" منذ دخوله ضمن الامبراطورية الإسلامية وحضارتها في القرنين السابع والثامن الميلاديين.
وقد شمل مجالات العُمران والأدب والفلسفة والفقه والتصوّف، كما الموسيقى واللباس والعادات وغيرها من المظاهر التي تعكس التاريخ الاجتماعي والاقتصادي لشعوب منطقتنا.
الطبخ واحد من تلك المجالات التي تُجَسِّد حجم ذلك التفاعُل، رغم عدم مَنْحه الأهمية التي يستحق، من قِبَل الكثير من الباحثين في تاريخ المغرب الكبير.
فنون الطبخ والحواضر
لا شك أن تطوّر فن الطبخ، والعادات الغذائية لها علاقة بالخصوصيات السوسيولوجية للشعوب؛ في نَمَط معاشها، وفي علاقاتها الاجتماعية وتراتبيّتها، وفي مستواها الاقتصادي بل وفي عقائدها. فهو يختلف بالضرورة بين أهل الحَضَر والأرياف، وبين الفلاحين وأهل الصنائع والحِرَف، وبين أهل الساحل والمناطق الداخلية ...الخ.
كتب إبن خلدون في مُقدّمته القيِّمة عن مسألة الاختلاف بين فنون الطبخ عند أهل الحواضر والبوادي، في معرض حديثه عن انتشار الأمراض بين سكان الحواضر المُترَفين الذين تكثر عندهم أنواع المآكل: "ووقوع هذه الأمراض من أهل الحَضَر والأمصار أكثر، لخَصْب عيشهم وكثرة مآكلهم وقلّة اقتصارهم على نوعٍ واحدٍ من الأغذية.. وكثيراً ما يخلطون بالأغذية من التوابل والبقول والفواكه رطباً ويابساً في سبيل العلاج بالطبخ...فربّما عدَّدنا في اليوم الواحد من ألوان الطبخ أربعين نوعاً من النبات والحيوان، فيصير للغذاء مزاج غريب، وربّما يكون غريباً ملاءمة البَدَن وأجزائه".
أما عن البدو فكتب عالِم الاجتماع الفذّ "وأما أهل البادية فمأكولهم قليل في الغالب، والجوع عليهم أغلب لقلّة الحبوب، حتى صار لهم ذلك عادة، وربما يظنّ أنه جِبِلَّة لاستمرارها، ثم الأدم قليلة لديهم، أو مفقودة بالجملة، وعلاج الطبخ بالتوابل والفواكه إنما يدعو إليه ترفُ الحضارة الذين هم بمعزل عنه، فيتناولون أغذيتهم البسيطة بعيدة عما يخالطها، ويُقرّب مزاجها من ملاءمة البَدَن".
في بدايات تأسيس "الغرب الإسلامي" تشكّلت ثلاث حواضِر كُبرى؛ إثنتان منها في المغرب هما القيروان مركز السلطة السياسية والدينية في تونس الحالية، وفاس حاضِرة الأدارسة في المغرب الأقصى، وواحدة في الأندلس هي قرطبة التي تحوَّلت إلى قاعدةٍ للحُكم الأموي المركزي هناك، ثم تلتها حواضِر أندلسية أخرى كإشبيلية، أو مغربية، برز دورها في مراحل تاريخية معينة، كتونس وبجاية وتلمسان وقلعة بني حمّاد، أو تأسّست وتحوّلت إلى مركزٍ إمبراطوريٍ كمراكش.
وقرطبة التي مثّلت الخصوصية الأندلسية، في ذروة تنوُّعِها وازدهارها، عرفت تحوّلاتٍ اجتماعيةٍ وثقافية ٍكبيرة وتفاعُلات بين سكانها العرب والبربر والسلاف (الصقالبة) والقوط وحتى الفرس، أثّرت لاحقاً في باقي مدن الأندلس والمغرب، كان من أبرز روَّادها أبو الحسن علي بن نافع الموصلي المعروف بزرياب.
ثورة زرياب بين الأسطورة والواقع
سبق وأن نقلنا من خلال الميادين الثقافية البصمات العبقرية لزرياب التي نقلتها لنا المصادر التاريخية، في تأسيس الموسيقى الأندلسية التي انتقلت إلى بلاد المغرب ومنها الجزائر، في مقال "الموسيقى الأندلسية.. من بغداد إلى قرطبة"، وفي اللباس النَسَوي الجزائري المعروف بالحايك، وبعض العادات الإجتماعية في مقال "الحايك .. ثوب الثورة الجزائرية الذي حاربه الإستعمار"، وفن الطبخ، وما صاحبه من "قواعد" كان ضمن "ثورة" زرياب في الأندلس أيضاً، والتي لم تُؤثّر في المغرب فحسب وإنما انتقلت إلى أوروبا.
إذ عن طريقه أضحت الوجبة الكاملة في أوروبا تتضمَّن ثلاثة أطباق تبدأ بمدخلٍ من الشوربة أو الحساء، يليها طبق رئيس من أنواع اللحوم، لتنتهي بالتحلية بالفواكه أو بالمُكسّرات، وأدخل الكثير من الأطباق وطرُق الطبخ التي لم تكن معروفة في الأندلس.
قعّد زرياب أيضاً مجموعة من العوائد في الأكل لتتحوّل إلى نظام ذوقٍ مُتَّبع ومعيار للتَرَف والأناقة أصبحت في ما بعد، جزءاً أساسياً من "نُظُم الإيتيكيت" المُتَّبعة في أوروبا إلى يومنا هذا، كطريقة الجلوس عند مائدة الطعام، وضع المناديل على الطاولة وتقسيمها بين ما هي خاصة باليدين والعنق، بل وطريقة وضع موائد الطعام وترتيبها كوضع غطاء عليها...إلخ.
يميل البعض من الباحثين إلى اعتبار تأثير زرياب الكبير في الحياة الثقافية والإجتماعية الأندلسية ضَرباً من المُبالغة أو الخيال، بحُكم أن إمكانية فردٍ واحدٍ، أقل بكثير من إحداث كل تلك التحوّلات مهما بلغت عبقريته، وبطبيعة الحال، النظر إلى هذه المسألة من زاوية التأثير الفردي لزرياب يُفضي حتماً إلى نفس النتيجة.
لكن الحقيقة تتجاوز ذلك، فزرياب تقرَّب من البلاط الأموي وأصبح يُنظَر إليه كمرجعٍ في الآداب العامة والذوق والموسيقى وغيرها من "مُحدِّدات" التَرَف الحضاري، والأرجح أن تأثيره في النُخبة الحاكِمة في قرطبة عائدٌ بالدرجة الأولى إلى قُربه من الحاكِم، وأيضاً لسمعته كفنانٍ قريبٍ من البلاط العباسي الذي حكم بغداد أهم حاضِرة إسلامية وصلت إلى أوج العمران والتحضّر، وتقليد العامّة لأسلوب عيش النُخَب المُرتبطة بالبلاط، لم يكن بسبب صدور قرارات مُلزِمة من الحاكِم، وإنما كان الانتقال العمودي لتلك العادات الإجتماعية (ومنها الطبخ)، يحدث إما بسبب التأثير الطبيعي للمظاهر الملوكية كولائم القصور الكبرى والأعياد وغيرها على عامّة الناس، فالناس كما قيل على دين ملوكها، أو بسبب "المأسسة" كما حدث مع مدارس الموسيقى التي أنشأها زرياب في قرطبة ثم انتشرت في باقي مدن الأندلس.
كسكس..حريرة..طواجن حلوة ومرڨاز
يُعتبر الكسكس من الأطباق الرئيسة في المطبخ الجزائري، والمغربي عموماً من ليبيا إلى المغرب الأقصى، ويختلف تحضيره بين المدن الجزائرية نفسها، أو بينها وبين الأرياف والبوادي.
إقرأ أيضاً: كشري: أشهر الأكلات المصرية.. ما هو أصلها وكيف يتم تحضيرها؟
وجوده في المدن القديمة ذات التأثير الأندلسي كتلمسان وقسنطينة والجزائر أو التي أسّسها الأندلسيون كالقُلَيْعَة والبُلَيْدة، وفي الأندلس نفسها، كما في مناطق ريفية بربرية بعيدة عن ذلك التأثير، وورود ذِكره في مصادر قديمة يُرجّح من جهة، فرضية انتقاله من المغرب إلى الأندلس، وينفي من جهةٍ أخرى احتمال الأصل الفينيقي لهذا الطبق الذي يعوزه الدليل.
ذلك أن المعروف أنّ أراضي شمال إفريقيا وخصوصاً السهول الخصبة في ما يُعرَف بنوميديا (مملكة بربرية عاصمتها سيرتا أو مدينة قسنطينة الحالية، ضمّت الجزائر وأجزاء من تونس وليبيا) وموريطانيا السطيفية (نسبة إلى مدينة سْطِيف في شرق الجزائر) كانت تُمثِّل خزَّان القمح للإمبراطورية الرومانية، ومن الطبيعي أن تنتشر في المنطقة الأطباق المُشتقّة من القمح، لكن الحساء، والذي تختلف طُرُق إعداده في المناطق الجزائرية، بين الحريرة (وهي تختلف نسبياً عن نظيرتها في المغرب الأقصى) أو شربة الفريك وغيرها، انتقل إلى المغرب الأوسط (الجزائر) من الأندلس خلال مراحل تاريخية عديدة.
كثيرة هي الكُتب التي ألَّفها العرب في صنوف الطعام، لكننا بصَدَد الحديث عن مُصَنَّفين كُتِبا في نفس الفترة التاريخية وهي القرن 13م، الأول هو كتاب "الطبيخ في المغرب والأندلس" لمؤلّفٍ مجهول، حَقَّقَه المُستشرق الإسباني هويثي ميراندا، وتكمُن أهميّته في أنه تحدَّث عن صنوف الطبخ والطعام المُنتشرة في ظلّ الامبراطورية/الخلافة المُوحِّدية التي ضمَّت كل بلاد المغرب والأندلس تحت رايتها، من دون أن يغفل الأطباق التي انتشرت من قبل تلك الفترة بقرون، ونُسِبَت لزرياب المُقرَّب من البلاط الأموي في الأندلس.
أما الكتاب الثاني فهو "كتاب الطبيخ" لصاحبه محمّد بن الحسن بن محمّد البغدادي، الذي يُعتَبر مرجعاً شاهِداً على فن الطبخ في ظل الإمبراطورية/الخلافة العباسية، الذي جسَّد عُصارة التأثيرات العربية والفارسية والعراقية القديمة (البابلية، الآشورية) في بغداد، وانتقل إلى الأندلس ثم بلادنا.
قد يتفاجأ الكثير من الجزائريين بأن ما يُسمَّى عندهم بالمرڨاز (تنطق بجيمٍ مصرية)، كان الأندلسيون يتفنَّنون في إعداده، وقد استفاض المؤلّف المجهول في ذِكره تحت إسم "المركاس" فيقول:"يُؤخَذ من لحم الفخذ..ويُدّق..ويُعرَك في قصعة بشيء من الزيت...ويُحشى به المصران المغسول المجرى بالخيط بآلاته المصنوعة لحشيه...ثم يُقلى بمقلاة بزيت عذب، فإذا نضج واحمّر صنع له مرقة من خل وزيت..".
في هذا الكتاب أيضاً ورد ذِكر طواجن اللحم والدجاج والمحاشي وأنواع الشواء التي يعرفها الجزائريون وباقي المغاربة، لكن ما يلفت الانتباه حقاً هو أن فكرة طبخ الفواكه المُجَفَّفَة مع اللحوم، التي تُثير استغراب المشارقة اليوم، كانت شائعة في العصر العبّاسي، ثم انتقلت إلى منطقتنا مروراً بالأندلس، فما ورد في "كتاب الطبيخ" باستفاضة، باسم"الحلوية" مثلاً (لحم، بصل مقطع، زنجبيل، فلفل، عسل، زبيب، لوز مقشّر..الخ) ليس إلا طاجيناً حُلواً تُزَيَّن به الموائد الجزائرية.
ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك المقالات والتحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]