المثقّف ودرس السياسة

هل على المثقّف الإنخراط في السياسة وأخذ مواقف؟ وهل يبعده ذلك عن مجاله؟

المُثقّف ودرس السياسة

أثار الحرَاك الشّعبي الذي تعيشه الجزائر منذ 22 شباط/فبراير 2019، الكثير من الأسئلة حول مكانة ودور المُثقّف في الحياة السياسيّة. أسئلة تتكرّر بمناسبة وبغير مناسبة، وفي كلّ المجتمعات والجغرافيات، عن ماهية المُثقّف ومُستحق هذه الصفة وعن طبيعة الدور الذي يمكن أن يضطلع به اِجتماعياً وسياسياً. لكنّها أسئلة تُثار الآن أكثر وبقوّة في سياق جزائري مُختلف، وفي هذا الظرف المفصليّ.

فهل المثقّف إبن الراهن والمستقبل مُلزَمٌ بأخذ مواقف سياسية؟ وهل له الأدوات السياسية/والمعرفية التي تُمكِّنه من إبداء الرأي أو بناء مواقف موضوعية في قضايا راهنة ومحورية ومستقبلية ومصيرية؟ وهل عليه أن يكون معنياً بالسياسة أو منتمياً لها ومنخرطاً فيها؟ وهل الخوض فيها يُبعد المثقّف عن مجاله/دوره الحيويّ/ المحوريّ: (الكتابة والإبداع، والاستشراف المجتمعي/الحياتي. الفكري/ التنويري. الثقافيّ/النقديّ)؟

وهل من الضروري دائماً أن يخوض في كلّ أمور وشؤون الحياة السياسيّة وألاّ يبقى على هامشها؟ أم أنّ المثقّف الجزائريّ كما زميله المثقّف العربيّ، يتدرّج في الحياة والكتابة وفي شؤون أخرى بعيداً من درس السياسة؟

ناقشت الميادين الثقافية هذه الأسئلة مع مجموعة من المثقفين الجزائريين وهذه كانت إجاباتهم.

يرى الكاتب عبد القادر رابحي أنّه ليس بالضرورة أن يُعنى كلّ مثقف بالسياسة بوصفها تخصصاً له أهله وربّما بداً بعيداً من اهتمامات ما تُحيل إليه الثقافة من مفاهيم. على الرغم من أنّ السياسة هي عامل أساس في جوهر ما يسعى المثقف إلى تحقيقه من أهداف على المستوى القريب والبعيد. مضيفاً: "أتحدّث هنا عن المثقف الفاعِل الذي من المفروض أن يضع في حسبانه القضايا الأساسية التي تؤرِق المجتمع الذي يعيش فيه. إذ لا يمكن لمثقف أن يعيش بمُعزَل عن مجتمعه، كما لا يمكن أن نتصوّر، ونحن في عصر الثورة الرقمية التي أطاحت بالمفاهيم التقليدية للمُثقف ودوره، أن ينعزل المُثقف عن التفاعُل مع واقعه اليوميّ من خلال طرح الأسئلة وإثارة الإجابات وتقزيم المسارات إن أمكن".

غير أنّ علاقة المُثقف بالسياسة كانت وستبقى علاقة إشكالية في المجتمعات المتخلّفة بالنظر إلى ما تطرحه الأنظمة من أساليب احتواء للزُخم الفكريّ والمعرفيّ، الذي يحمله المثقف أداةً دائمة لنقد التصوّرات السلطوية ومحاولة تصويبها أو معارضتها أو الدعوة إلى تغييرها.

وحول هذه النقطة يقول رابحي "لعلّه لهذا السبب، نجد أنّ السلطة في المجتمعات المُتخلّفة تسارع إلى احتواء الرؤى النقدية للمُثقف من أجل تطويق الأفق النقدي للمُثقف أولاً، من خلال تسخيره لخدمة أغراضها البعيدة والظهور، من ثمّة، بمظهر السلطة التي تحترم المُثقفين، ومن أجل استغلاله ثانيًا من خلال تزيين موضعه ضمن التصوّرات الأوليغارشية التي تخدم في الأصل بُنية الأنظمة السياسية للمجتمعات المُتخلّفة خاصّة".

ولعلّه لذلك، بحسب ما ذهب إليه رابحي، يبدو المُثقف في حيرة من أمره، في كثير من الأحيان، بالنظر إلى ما تطرحه الخيارات التاريخية التي تخضع للحِراك الاجتماعي. ولعلّ محاولته التوفيق بين وضعيّته الناقِدة ووضعيّته المُتأمّلة تُسبّب له متاعب جمّة نظراً لسوء فَهْم وضعيته الحساسة.

صاحب "أرى شجراً يسير"، يقول إنّه نادراً ما نجد مُثقفين يبنون طرحاً سياسياً كاملاً بسبب تحوّلهم في هذه الحال إلى ممارسة السياسة التي هي مجال آخر غير المجالات التي يختصّ بها المثقف الفاعِل.

وخلص إلى أنّ التاريخ مليء بالمُثقفين الذين تحوّلوا من ثوريين إلى سلطويين. في إشارة إلى اندماج أو إنغماس المُثقف في دوائر سلطوية تخدمه وتحقّق طموحاته. وهذا ما قاله بصريح العبارة: "لقد أثبت التاريخ الحَرَكي للمُثقفين الجزائريين تحوّلهم الكبير من مُثقفين ثوريين طلائعيين يشاركون في تحرير الأمّة ويسعون إلى توضيح تصوّرات مستقبلها السياسيّ والاجتماعيّ، إلى مُثقفين سلطويين مُتمسّكين بالكراسي السياسية وفاعلين سياسيين عادة ما أثبت التاريخ أنّهم ضدّ مسار مجتمعاتهم. وهنا تكمُن حساسية وخطورة المواقف التي يتبنّاها المُثقفون عبر المسارات التاريخية التي ترصد التحوّلات الجذرية لمواقفهم".

أما الناقد والباحث الدكتور عابد لزرق، فيقول من جهته في هذا الشأن الإشكالي: "أن يُعنَى المُثقفُ بالشأن السياسيّ فهو تصوّرٌ مفروغٌ منه، فالمُثقّف المُنشَغِل بأعماله ونشاطاته فقط بعيداً عن الشأن العام، وبالأخصّ عندما يكون هذا الشأن مُتأزّماً، فهو، في نظري، يعيش خارج اللحظة التاريخية مهما كانت المُبرّرات، فصفة الثقافيّ ليست ميزة اجتماعية ولا مرتبة شرف، بل هي نشاط اجتماعيّ عضويّ".

مواصلاً في ذات المُعطى: "هذا الاهتمام بالشأن السياسيّ لا يفرض على المُثقّفين التخندق مع جهة ما، بل المعقول، في رأيي، أن ينأَوْا بأنفسهم كليّاً عن التحزّب والاصطفاف لما لهذا الأمر من إمكانية تضييق الرؤية والتأثير على مشروعيّة أفكارهم وطروحاتهم، فالمُثقّفُ النقديّ، الحرّ، صوتُ المجتمع وضميره الحيّ، وهو ليس ناطقاً رسميّاً باسم الوعي الجَمْعي يمارس هيمنة بطريريكية وأبوية عليه، ولكنه مُشاركٌ فعّال في صناعته وإنتاجه. وظيفة المُثقّف النقديّ هي أنسَنة السياسة وتثقيف الوعي إذا أمكن لي اختصار كلّ ذلك في عبارة موجزة".

مؤكّداً من جهة موازية، أنّ هذا الدور جعل الأنظمة السياسية في حال توجّس مستمرّة من الرمزية التي يمتلكها المُثقف والوعي النقدي الذي يتمثّله. وقد عملت هذه الأنظمة –حسب قوله دائماً- باستمرار على تعطيل الدور الحقيقي الذي يضطلع به المُثقّفون، إنْ بشراء ذِمَم بعضهم بمزايا ومناصبَ وامتيازات، أو بإقصاء ومحاربة مَن استعصى عليها تدجينهم خدمة لمصالحها، فيعيشون بذلك عزلةً قسريةً أُريدَ لهم من خلالها أن يكونوا نماذج اجتماعية سلبية غير عضويّة ولا فاعِلة. - موضحاً-، أنّ حتى القِوى الاستعمارية لطالما عملت على تحييد فعالية المُثقّف تحييداً تامّاً خيفةً منه، والأمثلة مُتعدّدة على ذلك.

ومن زاوية فيها بعض السوداوية/الواقعية، التي أفرزتها ربّما سياقات جزائرية خالصة، والتي وشّحت خلاصة قوله الذي كان مؤدّاه: "في سياقنا المحلّي سنجد الثقافةَ التي من المفترض أن تكون وسيلة لتجميل العالم من حولنا قد صارت خيبتَنا وبعضَ أسباب مآسينا، وخيبتُنا الكبرى في مُثقّف ينتمي إلى صنف لطالما مارسوا علينا عمليات [توريات ثقافية] ببُعدين خِطابيين؛ ظاهرٍ ومُضمَرٍ. غرضهم من ذلك أن يُتّخذوا نماذج [فاوستية]، وهم في واقع الأمر نماذج عن [مفستوفيليس] ثقافي، أو المُثقف الّذي خُيِّل إليه أنّه قد حمل مطرقة الوعي لمّا خاض كثيراً في نقاشات هامشية فرعية بعيدة عن الشأن العام وعمّا راهنت عليه الجماهير من أن يمسك بيدها نحو عالم أفضل تتصدّره قِيَم الإنسانية والحرية والعدل والمساواة".

أما الناشط الثقافي وخبير السياسات الثقافية، الدكتور عمار كساب، فيرى من جانبه أنّ: "المُثقف يلعب الدور المحوريّ داخل المجتمع، فيقوم بحُكم إبداعه ومعرفته على رسم خارطة الطريق الّذي يؤدّي إلى النمو والرقيّ والتحرّر من التبعيات. وبحُكم ذلك فهو يقوم بلعب أهم دور سياسيّ محوريّ، في حقيقة الأمر". الدكتور كساب، يرى في ذات الاتجاه، أنّ كلّ عمل يهدف إلى التأثير على المجتمع هو عملٌ سياسيّ، بما في ذلك العمل الثقافيّ، فعندما يكتب الكاتب، ويرسم الفنان التشكيلي ويُخرِج السينمائي، فهو يُمارس السياسة.

مستشهداً في هذا السياق بمقولة المسرحي الكبير آرتولت براشت التي مؤدّاها "القول إنّ المسرح ليس سياسة هو بحد ذاته عملٌ سياسيّ". وهذا ما يذهب إليه كساب. إذ يؤمن بأنّ حتى الفنون والآداب فهي سياسة. مُستدركاً فحوى فكرته: "على كلّ حال، (إن لم تمارس السياسة فالسياسة ستمارسك) كما يُقال". يبقى أنّ المشكل في الجزائر -حسب المتحدّث ذاته- يكمن في أنّ العمل السياسيّ اقترن بعمل الأحزاب السياسية، التي هي في الحقيقة جزء صغير من المنظومة السياسية، على الأقل في الدول الديمقراطية.

صاحب مشروع السياسات الثقافية في الجزائر. يضرب مثالاً ذا صلة بالموضوع، مؤكّداً هنا: "مع خروج ملايين الجزائريين إلى الشارع للمُطالبة بالتغيير، خرج المُثقف الجزائريّ ليُبدي مساندته لهذه المطالب، وذلك طبعاً أمرٌ سياسيّ. والأمر غير طبيعي. لأنّه لأوّل مرّة منذ استقلال الجزائر، أخذ المُثقف الجزائري موقفاً صريحاً ضدّ النظام السياسيّ ذا الطابع المافياوي الّذي جثم على صدر الكتابة والفن والإبداع منذ 1962".

وبذلك يكون المُثقّف -حسب الدكتور كساب- قد رفض أن تُعيد المؤسّسة الرسميّة اجتراره كما قال الفيلسوف الراحل بختي بن عودة. وبذلك ستدخل الكتابة والإبداع في الجزائر في عصر جديد بِمَا أنّ قبضة السياسيّ الانتهازيّ السلطويّ قد رفضها الشعب، ثمّ تبعه المُثقف". مؤكّداً في الأخير، أنّ التأخّر الطفيف من طرف المُثقف في إبداء رأيه ضدّ النظام يعود إلى خوفه من اليُتم لأنّه تربّى في كَنَف النظام وتغذّى من ثديه، ولكن لا بأس إن تراجَع وفضّل الحرية على العبودية كما هي الحال اليوم.

 

ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك المقالات والتحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]