"شعراء الفيسبوك".. هل تصنع مواقع التواصل أدباء؟
مساحة النشر المفتوحة تفتح التساؤلات حول جدوى وقيمة المنشور على المستوى الأدبي، خاصة الشعر.
أفسحت مواقع التواصُل الاجتماعي إمكانية الكتابة والنشر للجميع. لم يعد هناك مراقِب أو مُحرِّر أو مُقرِّر لما يمكن قبول أو رفض نشره. مساحة النشر مفتوحة، كما هي نفسها مساحة للتلقّي والاستقبال. فتَحَ هذا تساؤلات عدّة حول جدوى أو قيمة المنشور، خصوصاً على مستوى النصوص الأدبية، والتي يتصدَّرها الشعر.
رغم أن بعض المُغرَمين بالقصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة ما زالوا يتهكّمون على قصيدة النثر، ويُعيدون نقاش سيتينيات وسبعينيات القرن الماضي – الذي أصبح بلا أثر يُذكَر، إلّا أن الكثير من مُحبّي الأدب العربي، خصوصاً الشباب، شكَّلوا علاقة حميمة مع قصيدة النثر.
يتَّضح هذا في كمية الكتابات والاقتباسات اليومية، وإعادة قراءة نِتاج شعراء القرن الماضي التي شكَّلت تجاربهم وكتاباتهم حجر الأساس للوعي بتراكيب وخواص النصّ الشعري الحديث ومدى إمكانية التجريب في خلق نصٍّ إبداعي.
لكن هذا لا ينفي وجود جَدَل كبير هو التجارب المطروحة سواء تلك المطبوعة أو المنشورة على مواقع التواصل الاجتماعي. فلم تعد الطباعة والنشر تشكِّل هاجِساً أو عقبة كما في السابق. كما أن جَذْب جمهور وقرّاء لا يحتاج سوى فتح حسابات مُتفرّقة على الفيسبوك أو تويتر وبدء عملية طلب الصداقات والمُتابعات والنشر المباشر. إضافة إلى ذلك، لم يعد للمُحرِّر الأدبي سلطة في نقد وتحرير النصوص قبل نشرها.
كل هذا أوجدَ بيئات مُتعدِّدة ومُتناقِضة، وفي كثيرٍ من الأحيان مُتصارِعة في ما بينها. لقد سهَّلت مواقع التواصُل الوصول إلى "الشُهرة" وجَذْب الجمهور الذي يشبع الكاتب بمديحه والإعجاب بكل ما يكتبه من ناحية، وفي إعادة نشر كتاباته والترويج لها من ناحيةٍ أخرى. كذلك، خلقت هذه المواقع استسهالاً في طريقة كتابة النصّ أو حتى طريقة تناوله وقراءته والتعامُل معه بعين الرائي لا بعين المُعجَب. فخواص الإعجاب والمشاركة أصبحت ذات أثر كبير ليس فقط على الكاتِب، بل أيضاً على القرّاء. فكأنّ كثرة عدد "المُعجبين" أو "المُشاركين" للمنشور دليل أهميته وقيمته.
من جهةٍ أخرى، اتّخذ بعض الكتَّاب موقف المُحافظ، وبعضهم موقع المُعادي لما يُنشَر ويروّج له. فالكتابة والنشر بشكلٍ يومي لدى البعض عبارة عن استسهالٍ بالكتابة الإبداعية، وابتعاد عن مختبر التجربة والعمل على تطويرها.
أما البعض الآخر فلا يرى إلا وصول الكتابة إلى مُندَرج الانحطاط والتسويق. فضلاً عن فئةٍ ثالثةٍ من الكتَّاب ترى في ذلك حالة صحيّة لنشر الأدب والسماح للقرَّاء بالحُكم والتحليل وتناول النصوص المنشورة.
هذه الأسئلة طرحتها الميادين الثقافية على كتَّاب ونقَّاد في محاولة لكشف ومقاربة علاقة المثقَّف بالكتابة اليومية، ومدى أثر مواقع التواصل الاجتماعي في طبيعة نشر الشعر اليومي والإبداع.
محمد الضامن - شاعر وكاتب سعودي
يساهم المُثقَّفون حين يعملون على نشر أفكارهم اليومية على مواقع التواصُل في تنميط نظرة الحياة، وطُرُق العيش، وعلى الخصوص الكتابة، ونوعيّات الكُتب، وحتى الدعوة الحبيبة على قلوبهم إلى حرية المُخيِّلة. لقد باتت السطور مُهترِئة من كثرة لهاثها وراء كل جديد، حيث يتمّ نسيان كيف على التجربة أن تنضج من واقع علاقتها بفكرة التخزين الجيّد للنبيذ الذي ينتج نبيذاً عالي المزاج والسمعة.
لقد أتاحت مواقع التواصُل الفرصة لكل شخصٍ أن يكون معروفاً. فعبر الشهرة تروِّج هذه المواقع إلى طُرُق تقديم الذات، أو حتى الإيهام بتحقيق الذات الذي تربطه بحجم المُتابعات، والإعجابات. لذلك فإنها تُساهم في تعميم ظاهرة: تسوّل الاعتراف بالذات كحقٍ للفرد كي يكون!
زهير الكريم - شاعر وقاصّ عراقي مقيم في بلجيكا
فلنتَّفق أولاً على أن الفيسبوك ليس وسيلةً للتواصُل الاجتماعي وحسب، بل هو تمثيلٌ لمرحلة تغييرٍ شاملةٍ في الرؤية للعالم، وتأسيس جديد للمفاهيم، يقابله للتقاليد الثقافية التي كانت تضبط المشهد العام المُتعلِّق بقضية النشر.
والأفكار التي تتعلَّق بالنصوص الإبداعية على منصَّات التواصُل الاجتماعي، تتضمَّن في الأهمية أولاً، توفير فُرَص سهلة لكل نصٍّ، مهما كان مستواه، في أن يجد طريقه إلى هذا المُختبر الواسِع، الجودة والرداءة سوف تظهر بالطبع، وهي خاضِعة في النهاية لمستوياتٍ مُتعدِّدة من التلقّي، مُستويات جديدة أفرزها مفهوم الثورة الإعلامية.
الفيسبوك نفسه كمنصَّةٍ لا يصنع موهبة بالطبع، لكنه بابٌ للدخول والاختبار، وأيضاً هو فضاء لاكتساب المهارات. ومن فترةٍ ليست بعيدة جداً، كان النصّ الإبداعي لا يجد له مُتّسعاً في فضاءات النشر الورَقية بسهولة، والصفحات الثقافية كانت تخضع بصرامةٍ لسلطة المُحرِّر الذي يستمدّ رأيه النقدي في مُحاكمة النصوص، مخلوطاً بمُحرِّضات أيديولوجية أو علاقات أخوية أو جماعات، أو تحت هيمنة الأسماء المُكرسّة. أما النصّ الذي يكتبه شاعر يبدأ للتوّ مشواره فلن يجد فرصته في الظهور إلا بصعوبة.
من جهةٍ أخرى تظهر مواقع التواصُل الاجتماعي باعتبارها كاشِفة للقدرة على التفاعُل المُباشر مع النصوص الإبداعية، الشعر والقصة والرواية، وأهميتها تتجلَّى بوضوحٍ من خلال الاشتباك السريع بين فعل الكتابة إذ يمثّله الكاتِب، وما يقابله من فعل التلقّي الفاعِل الذي يمثّله القارئ. بالطبع أمام هذه الأهمية تراجع دور الصفحات الثقافية في الجرائد، والمجلات، وهي فضاءات للتفاعُل البطيء والمحدود.
وصحيح جداً، القول بأن التسطيح يظهر جليّاً في النشر على الفيسبوك، لكننا في الوقت نفسه أمام ضرورة لا يمكن الوقوف بوجهها، هي ضرورة التقنية التي ساهمت في بروز أنماط إعلامية ونجومية جديدة قدَّمت نوعاً من التواصُل واسِع التأثير، حيث يسير النصّ الجيّد إلى جانب النصّ الرديء، ويظهر الكاتِب المعروف بجانب شخص يبدأ كلماته الأولى.
أعتقد أن القضية مطروحة بهذا الشكل كناتجٍ للثورة المعلوماتية، وهناك أنماط من القرّاء، وطبقات من الذائِقة. الجميع يكتب والجميع يقرأ وكل فئة تحتفظ لنفسها بنوعٍ مُعيّنٍ من النصوص. العالم مفتوح وهذا فضاء يسع الجميع، والحديث عن العُمق والتسطيح، لم يعد مهماً، والمعايير النقدية خاضعة هي الأخرى لتحوّلات الهيمنة الرقمية، والسلطة على النصّ تفكَّكت، ولم تبق سوى سلطة الانفتاح على كل شيء.
عبد الله السفر - شاعر وناقد سعودي
أذكر أن أولى مُتابعاتي للنصوص الإبداعية اليومية (أو شبه اليومية في الفيسبوك) في العام 2012 وأغلب ما كنت أطالعه لأسماء أصافحها لأول مرة. تابعتُ بانذهالٍ كبيرٍ وبشغفٍ لا حدود له. ليل نهار. نعم ليلَ نهار على سبيل الحقيقة لا المجاز. تجارب جديدة وحساسيات مختلفة وطرائق وأساليب مُبتَكرة. سَيْل كتابي يُحرٍّض على المُتابعة وانغماس العين والذائِقة في مجراه. استمرّ معي هذا الأمر وقتاً طويلاً يمدّ فيه ما أكتشفه من أسماء لم أكن أعرفها يُرشدني إليها الأصدقاء أو تضعها الصُّدَف الرائِعة في مرمى القراءة.
ومنذ فترةٍ شعرتُ بـ "التشبّع" من قراءة الأسماء ذاتها. باتت النصوص تنزلق أمام العين انزلاقاً. الدهشة لا وجود لها. من بين عشرات النصوص، قد يستوقفك مقطع (وتهْمس لنفسك لو أن صاحبنا اكتفى بهذا المقطع فقط) أو جملة كأنها الشرارة تبرق وحدها. خفَّ الإبداع كثيراً مع هذا "الحضور الإدماني" بتوقيعٍ يومي يريد أن يقول إن البئر ما تزال في أوج عطائها وغزارتها، فيما أن الحال غير ذلك. البئر غدَتْ شحيحة، وما يخرج يفقد صفةَ الماء لفرط العكارة التي تُخالطه. مطحنة تكرار هائلة تُجبر القارئ على الانصراف عنها. ليس ثمة ما يُغري في تجارب أخذت تستنفد ذاتها؛ فتُعيد الاستنساخ مرة بعدة مرة.. بعد مرة.. ومع هذه النظرة، لا بدّ من الإشارة إلى أن هناك من التجارب ما لا يزال في جدّته، ونطالع فيها نوافذ وشرفاتٍ من الاختمار الحيّ الخلاّق، والمساحة البِكر الخاصّة التي لا تُبارى (مثلاً: زكريا محمّد، زياد السالم، حمد الفقيه.(
عبد الوهاب أبو زيد - شاعر ومترجم سعودي
كان الشعر (ولا يزال كما أزعم) في مُخيّلتي وفي أعماق لا وعيي مُرادِفاً للندرة والقلَّة والتمنّع والانتظار الطويل للحظة التماع بروقه والوعد المؤجّل لهطوله متى وكيف يشاء، وكنت في بادئ الأمر أعجب من إقبال بعض الشعراء (وبعضهم أصدقاء حميمون) واندفاعهم نحو الكتابة اليومية أو شبه اليومية على جدران الفيسبوك.
وكنت أنكر ذلك في نفسي وأرى فيه استسهالاً وإسرافاً وإنهاكاً للطاقة الشعرية والمَلَكة الإبداعية. ولكنني وجدت نفسي شيئاً فشيئاً أنجرف مع التيار، فزاد مُعدَّل كتابتي للنصوص الشعرية بأشكالٍ وأنماطٍ مختلفة على تبايُنٍ واضحٍ ومستوياتٍ مُتفاوِتةٍ بالطبع، وحدث ذلك بصورةٍ فاجأتني شخصياً أكثر من أيّ شخصٍ آخر، ولم أكن أحسب أن بمقدوري وإمكاني فعل ذلك. أنا الذي طالما شكوت من شحّ كتابتي وقلّة ذات شعري. ما الذي غيَّرني؟
لعلَّ في الأمر شيئاً من العدوى، فقراءتك لنصٍّ بعينه قد تُحرّضك على الكتابة وتُحفِّز شهيّتك المُتكلّسة، لتجد الشعر يتدفَّق من بين يديك دونما استئذان. سيتفاوت مستوى النصوص التي تكتبها حتماً، وستجد نفسك تعلو حيناً وتسف أحياناً أخرى، ولكن العين الناقِدة والفرز وملاحظات الأصدقاء ممَّن لم يُصابوا بمُتلازِمة تبادُل المديح ستسعفك في استخلاص ما هو جدير بالبقاء واستبعاد الزبد الذي يذهب جفاء ولا يمكث في القلب.
هكذا يجد القارئ مُفارقات الكتابة، ومدى أثر مواقع التواصُل الاجتماعي على علاقات النشر اليومي بالقراءة والعمل الإبداعي. ربمّا، ما زالت الظواهر الناتِجة من مواقع التواصل في بدايتها فقط، فإلى أين تأخذنا يا ترى؟
ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك المقالات والتحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]