هل سنودّع دور السينما إلى الأبد في الأعوام المقبلة؟
"قاعة كبيرة ينحصر فيها الكون"، هكذا يختصر البعض تعريف وجود السينما، لكنّ هذا الوجود مهدّد أمام المنصات الجديدة التي تجهد في التعويض عن أي فن قديم، ماذا لو نجحت؟
"في السينما لا توجد قواعد، فقط خطايا يجب تجنّبها. والخطيئة الأولى هي الملل"... المخرج الإيطالي فرانك كابرا.
هناك تضارب حول أصل نشوء فكرة السينما وكيف ولدت. التاريخ يقول إن صناعة السينما تعود إلى عام 1895، وإن الأخَوان "أوجست ولويس لوميير" سجّلا اختراعهما لأول جهاز يُمكِّن من عرض الصور المتحركة على الشاشة في شباط/فبراير عام 1895 في فرنسا، بينما تقول رواية أخرى إن الفنان الإيطالي ليوناردو دافنشي لاحظ أن الإنسان إذا جلس في حجرة مظلمة تماماً، بينما تكون الشمس ساطعة خارجها، وكان في أحد جوانبها ثقب صغير جداً، فإن الجالس في الحجرة المظلمة، يمكنه أن يرى على الحائط الذي في مواجهة هذا الثقب الصغير ظلالاً أو خيالات لما هو خارج الحجرة، مثل الأشجار، أو العربات، أو الإنسان الذي يعبر الطريق، نتيجة شعاع من الضوء ينفذ من الثقب الصغير.
أياً يكن، راجت السينما (أو ما سمّي الفن السابع لاحقاً) لأكثر من قرن، وسبّبت ازدحاماً على شبابيك التذاكر في كل أنحاء العالم. لكنّ انتشار فيروس كورونا في السنتين الماضيتين، والسباق التكنولوجي الذي يزيد من سرعته كل دقيقة، يهدّدان فكرة الذهاب إلى دور السينما ووجودها.
هل يتسبّب "كورونا" في خسارة السينما إلى الأبد؟
في كانون الأول/ديسمبر عام 2019، بدأ فيروس كورونا بالانتشار حول العالم. فيروس كان وقعه وتكلفته على الحكومات والشعوب ثقيلين؛أُغلقت المدارس والجامعات والمحال والشركات العالمية، وتأجّل تصوير الأفلام، وأُغلقت دور السينما في أغلب البلدان. مع استمرار انتشار الفيروس، رغم كثرة اللقاحات والإجراءات، ما يزال وضع الكوكب مقلقاً، خصوصاً أن متحوّراً جديداً يدخل على الخط كل فترة، ويفرض تهديدات وإجراءات جديدة.
آخر الدراسات التي نُشرت قبل أيام أظهرت انخفاضاً لفعالية اللقاحات بشكل عام أمام متحوّر أوميكرون الجديد. حتى كتابة هذا المقال، فيروس كورونا يسجّل 273.04 مليون حالة إصابة في العالم. النسبة الحالية للملقّحين ضدّ الفيروس لا تتجاوز 50%، كما أن تلقيح 70% من سكان العالم ضد كورونا بحلول منتصف 2022 قد لا يتحقق، ما يعني أن العالم لا يزال في خطر، وهذا يفرض ربما إغلاقات جديدة ونمطاً أكثر تطرفاً من حيث اعتماد التقنية والأونلاين.
مطلع عام 2020، بدأ عدد صالات السينما في أميركا الشمالية بالانخفاض بشكل كبير بسبب أزمة كورونا. 23% تقريباً من جميع دور العرض في الولايات المتحدة ظلت مغلقة منذ آذار/مارس عام 2020، علماً بأن هذه العروض كانت تنتج سنوياً عائدات تفوق 1.8 مليار دولار.
عام 2021، بدأ بعض دور السينما يعود إلى العمل بشكل بطيء. 43% من دور السينما عادت إلى العمل اعتباراً من منتصف شباط/فبراير، لكن هذه العودة كانت مشروطة، نتيجة لإجراءات كورونا، مع ذلك لم يقم كثيرون بإعادة فتح أبوابهم للجماهير منذ أن أطفأوا الأضواء في قاعاتهم في آذار/ مارس 2020، فضلاً عن أن البعض اضطر إلى الإغلاق بشكل نهائي، مثل مسرح " شارلوت"، أقدم مسرح سينمائي في نورث كارولينا الأميركية، والذي كان يعمل منذ العام 1947.
في أستراليا مثلاً، حقق شباك التذاكر أكثر من 400 مليون دولار في عام 2020، وهو انخفاض كبير في الإيرادات بأكثر من 67%، بينما وصلت خسائر دور العرض الأميركية الأشهر "إيه إم سي إنترتينمنت" عام 2020 وحده إلى نحو 4.6 مليارات دولار، وبذلك تراجعت إيرادات الشركة بنسبة 77.3% لتصل إلى 1.2 مليار دولار، بعدما جنت 5.5 مليارات دولار عام 2019.
في فرنسا، التي يرفض عدد كبير من السكّان فيها تلقّي لقاحات كورونا، فقد الأشخاص الذين تزيد أعمارهم على 65 عاماً، ولم يأخذوا اللقاحات الخاصة، "البطاقة الصحية '' الخاصة بهم، والتي تسمح لهم بزيارة المقاهي أو دور السينما. وبحسب صحيفة "ديلي ميل" البريطانية، البطاقة هذه ستجبر الأشخاص المتردّدين في الحصول على التلقيح، على تلقّي اللقاح، أو فقدان حقوقهم في الذهاب إلى الأماكن العامة. وهذا أحد العوامل المستجدة التي تهدّد دور السينما. في المقابل، يقول أحد الخبراء إن المنصات الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي قد تساعد البعض على البقاء. فكيف يكون ذلك؟
المنصات الإلكترونية أم كورونا؟
في زمن كورونا وقبله، اتخذت وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات الإلكترونية دور الوسيط للوجود الاجتماعي. عندما التزم معظم سكان العالم منازلهم، وجدت المنصات فرصتها الذهبية لإشباع حاجات المشاهدين الذين لم يعودوا يملكون رفاهية الخروج، علماً بأن شركات إنتاج الأفلام العالمية كانت تجني إيراداتها من شباك التذاكر بعرض أفلامها في دور السينما، وكانت تفضّل البدء بجني الأرباح من شباك التذاكر، وبعد أشهر تبدأ بتحصيل باقي الأرباح من الشاشات، لكن لم تسِر الأمور على هذا النحو أثناء الوباء.
منصات عديدة مثل "نتفلكس" و"أمازون"، "غوغل" و "ديزني"، حققت أرباحاً خيالية على حساب السينما والعروض المباشرة. الشركات نفسها لم تتوقع ما سيحدث لها؛ فبعد أسابيع من تفشّي الجائحة مثلاً، وجدت شركة "يونيفيرسال بيكتشرز" الأميركية نفسها بين خيارين، إما تأجيل عرض الجزء الثاني من فيلمها "ترولز"، أو عرضه في دور السينما بالتزامن مع عرضه عبر الشاشات، أي العرض على الشاشة قبل السينما.
حقق الفيلم أرباحاً غير متوقعة، وجنى الجزء الثاني في أول 3 أسابيع أرباحاً جاوزت ما حققه الجزء الأول خلال 5 أشهر من عرضه في الصالات. كما أصبح الفيلم الأكثر طلباً عبر منصات عرضه مثل "أمازون" و"آبل"، وشهد أكبر يوم افتتاح لفيلم رقمي، محقّقاً ما يقرب من 10 أضعاف إنتاج الفيديو المنزلي التقليدي.
المدة التي يعرض فيها الفيلم في السينما فقط تسمى "النافذة المسرحية". فيلم "قصة لعبة" الأميركي أطلق إصداره الأول في الصالات الأميركية في الأسبوع الأخير من تشرين الثاني/نوفمبر عام 1995، ولم يصبح متاحاً للمشاهدة على الشاشات في المنازل حتى تشرين الأول/أكتوبر عام 1996، أي بعد 11 شهراً من عرضه في دور السينما.
"النافذة المسرحية" هذه تقلّصت مع انتشار كورونا، ووصلت في بعض البلدان إلى أقل من شهر، وهذا ما مثّل وجهاً آخر لخسائر السينما. في المقابل، شهدت منصة مثل "نتفلكس" ارتفاعاً هائلاً في أعداد المشتركين هذا العام وقبله، حيث أدت عمليات الإغلاق في جميع أنحاء العالم إلى إبقاء الناس في منازلهم، والسينما، بشكلها المعروف، لن تكون متاحة في المنزل!
نتفلكس... عصر جديد من السينما الافتراضية
تقول شركة "نتفلكس" إن نحو 16 مليون شخص أنشأوا حسابات في الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2021، أي ضعف عمليات الاشتراك الجديدة التي شهدتها في الأشهر الأخيرة من عام 2019 تقريباً. استحوذت أوروبا والشرق الأوسط وأفريقيا على أكبر عدد من الأعضاء الجدد بنحو 7 ملايين مشترك جديد، وقفز نمو "نتفلكس" في الولايات المتحدة وكندا أيضاً. الشركة لديها الآن أكثر من 182 مليون مشترك في جميع أنحاء العالم!
أصبح العديد من إصدارات "نتفلكس" لعام 2020 جزءاً من روح العصر الثقافي، ومثّل تسعة من بين عشرة عروض الأكثر بحثاً على مستوى العالم في عام 2020. ووفقاً للأبحاث، سيكون لدى الشركة 201 مليون مشترك بحلول عام 2023. وقد تبلغ قيمة أسهمها تريليون دولار بحلول عام 2030.
هل يرغب البشر بالعودة إلى السينما؟
عام 2020، نشرت صحيفة "الغارديان" البريطانية تحقيقاً حول آراء الناس في ما آلت إليه أحوال السينما بعد جائحة كورونا، وسُئلوا عن تجربتهم مع الشاشة الكبيرة، والرغبة في العودة إليها. جاءت آراء الناس مخالفة للتوقعات. المشاهدون يريدون العودة إلى هذا "المكان الدافئ"، فضلاً عن أن "السينما تجلب الأمل بطريقة لا تستطيع بها أجهزة الكمبيوتر المحمولة القيام بها"!
قد نستنتج أن السينما لم تمت. صحيح أن المنصات الاجتماعية تتقدم بشكل كبير، لكنّ السينما متأصلة في ثقافتنا، إضافة إلى أن المنصات الإلكترونية لن تتمكن من تقديم تجربة الشاشة الكبيرة. المخرج الأميركي الشهير، ستيفن سبيلبرغ، الذي يؤمن بأن "دور السينما يجب أن تكون موجودة إلى الأبد"، يقول إنه "لا يوجد شيء أكثر متعة من الذهاب إلى مسرح مظلم كبير مع أشخاص لم تقابلهم من قبل والاستمتاع بهذه التجربة".
صحيح أن الأيام التي كان علينا الذهاب فيها إلى السينما حصراً لمشاهدة فيلم قد ولّت، لكن يبدو أن السينما ستجهد في الحفاط على مكانتها. أياً يكن، قد لا تتمكن الشاشة الصغيرة في المنزل من أن تؤمن لك مكاناً كبيراً يتشوّق فيه المشاهدون، في غرفة مظلمة ودافئة، إلى رؤية فيلم لا يعرفون عنه غير اسمه، ولن تستطيع أن تشعرك بالنشوة الجماعية أمام مشهد عظيم قد يبكي الجميع أمامه أو يصفّقون فرحاً.