محمّد مهدي الجواهري.. نهر أشعار هادر
بعد 24 عاماً على رحيله، ما زال هدير نهر أشعاره مسموعاً. عايش التحولات في العراق وغادره حتى وفاته في دمشق.. من هو محمد مهدي الجواهري؟
بين ميلاد محمد مهدي الجواهري في 26 تموز/يوليو عام 1899 ووفاته في 27 من الشهر نفسه عام 1997 مسافة يوم من شهر الخَصْب والنماء وقرابة قرن من عُمر الزمان.
حياة مديدة عاشها هذا الشاعر العملاق تارِكاً وراءه نهراً هادِراً يتدفّق من عيون القصائد التي جاءت مُنتظمِة على عمود الشعر التقليدي الأصيل، زاخِرة بالمعاني والصوَر والمواضيع المُعاصِرة في تزاوجٍ بديعٍ بين الماضي والحاضر.
واليوم، بعد أقلّ من رُبعِ قرنٍ على رحيل الجواهري، ما زال هدير نهر أشعاره مسموعاً في العراق وأرجاء العالم العربي حتى لكأنه ثالث النهرين دَجلة والفُرات. وبذلك يكون ما تطلّع إليه الشاعر في حياته وخشيَ ألا يُحقِّقه قبل وفاته قد تحقَّق لتقرّ به عينه وهو القائل في العام 1936:
أُحاولُ خرقاً في الحياة فما أجرا
وآسفُ أن أمضي ولم أُبقِ لي ذِكرا
ويؤلمني فرطُ افتكاري بِأنّني
سأذهبُ لا نفعاً جَلبتُ ولا ضُرّا
شاعراً لا فقيهاً
ولِدَ محمد مهدي الجواهري في مدينة النجف لأسرةٍ عريقةٍ عُرِفَت بما أنجبت من رجال الدين والفُقهاء البارزين، حتى أنها أخذت لقبَها من كتاب ألّفه أحد أجدادها المرجع محمّد حسن بعنوان "جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام"، فصار مؤلّفه يُعرَف بالجواهري وأصبح لقب الأسرة آل الجواهري.
أراد الوالد عبد الحسين أن يكون إبنه الأصغر محمّد مهدي فقيهاً مثله فعمل على إعداده لهذه الغاية منذ نعومة أظفاره، وعهد بتعليمه إلى عددٍ من علماء الدين والفُقه واللغة والأدب. ولما بلغ العاشرة من عُمره ألبسه أبوه زيَّ طالب العلوم الدينية المؤلَّف من العباءة والعمامة.
وتابع الدراسة وفقاً للمناهج المُقرَّرة للدخول في سلك التعليم أو الوظيفة العامة. وفي غضون ذلك كان الفتى ينهل من المصادر الأدبية العديدة التي تزخر بها مكتبات الأهل والأصدقاء ومعظم البيوت في مدينة النجف.
في العام 1917 توفّى الوالد مُتأثّراً بداء التيفوئيد الذي أُصيب به أثناء المواجهات التي جرت مع الاحتلال البريطاني. وأمكن الشاب أن يخلع الزيّ الديني مؤكّداً خياره النهائي أن يكون شاعراً لا فقيهاً. وبدأ ينظم أبياتاً معدودة فمقطوعات لا يُطلِع عليها أحداً. حتى إذا وثق بما عنده صار ينظم القصائد ويتلوها على الصَحْب قبل أن يبدأ بنشر إنتاجه في الجرائد والمجلاّت المعروفة آنذاك أمثال "النجف" و"العراق" و"الحرية" السورية و"العرفان" اللبنانية و"الهلال" المصرية. هكذا أصبح الجواهري في عداد الشعراء المُميّزين قبل أن يُطلَق عليه بعد سنوات لقب "شاعر العراق".
"عَلِّموها".. الجواهري يدعم حق المرأة في التعليم
بدأ الجواهري حياته العملية مُدرِّساً ثم موظَّفاً في قسم التشريفات في القصر المَلَكي قبل أن يعود إلى التعليم، ويتفرَّغ بعد ذلك للعمل الصحافي. في عام 1927 انتُدِب للتدريس في مدرسة ثانوية فإذا به يجد نفسه مُلْحَقاً بمدرسةٍ إبتدائية، ليبدأ نَكَد حظه في الوظيفة والسبب قصائده.
إذ لم يمض على تعيينه في المدرسة الإبتدائية شهر حتى استدعته مديرية المعارف للتحقيق بتهمة التنصُّل من عراقيّته ومدح إيران في قصيدةٍ كان قد نظمها عن ذكرياته في إيران التي زارها عدّة مرات مُستجمّاً، وفيها وصفٌ لجمال الطبيعة في ذلك البلد الجار الذي تربطه بالعراقيين وأهل النجف خاصة علاقات تاريخية دينية وثقافية وحتى أُسَريّة.
وكانت هذه التهمة افتراء مَحْضاً من بعض المُتعصِّبين أنكره الشاعر وتراجعت المديرية عنه إلا أنه قدَّم استقالته من التعليم.
بعد ذلك جرى تعيينه في قسم التشريفات في القصر المَلكي حيث أمضى ثلاث سنوات، وكان مُقرَّباً من الملك فيصل الأول بعد تنصيبه ملِكاً على العراق (1921-1933). وقد اضطرّ الجواهري هنا أيضاً إلى تقديم استقالته بعد الضجّة التي أثارتها المواجهة بينه وبين عددٍ من رجال الدين المُتزَمِّتين، الذين عارضوا بشدَّة فتح مدرسة للبنات في مدينة النجف، بينما احتفل الشاعر بهذا الحدث المهم وكتب قصيدة بعنوان "علّموها" جاء فيها :
عَلّموها لقد كفاكم شنارا
وكفاها أن تَحسَبَ العِلمَ عارا
وكفانا من التخلّف أنّا
لم نُعالجْ حتى الأمورَ الصغارا
إلى أن قال:
أسلموا أمرَهم إلى الشيخِ عُمياناً
وساروا يقفونه حيثُ سارا
وامتطاهم حتى إذا نالَ بُغيا
خلعَ الُلجمَ عنهمُ والعِذارا
فهاجوا وهاجموه في الصحف والمحافل، فردَّ عليهم بقصيدةٍ تحت عنوان "الرجعيون" يقول فيها:
تَحكّمَ باسمِ الدين كلُّ مُذَمَّمٍ
ومُرتكبٍ حفّت به الشُبهاتُ
وما الدينُ إلا آلةٌ يَشهَرونها
إلى غرضٍ يقضونهُ وأداةِ
فشكوه إلى الملك فاستدعاه وطلب منه أن يكفَّ ويعتذر وانتهى الأمر بأن قدَّم استقالته من وظيفته في التشريفات.
هذا الشاعر المُتمرِّد على التقاليد الاجتماعية البالية والمُنافِح عن حقوق المرأة في التعلّم والقيام بدورها الطبيعي في المجتمع، لم يجد من وسيلة للقيام بِأوده من العودة إلى سلك التعليم، حيث
أمضى فترة مُتنقِّلاً بين المدارس الثانوية في عددٍ من المدن العراقية.
وما لبث أن ترك التعليم وانصرف إلى العمل الصحافي فأسَّس ثلاث صحف هي"الفرات" و"الانقلاب" و"الرأي العام" التي تعرَّضت للإقفال تِباعاً من قِبَل الحكومات العراقية المُتعاقِبة.
عراق التحولات والانقلابات.. الجواهري شاهداً
عايَش الجواهري مُنفعلاً ومُتفاعِلاً مختلف العهود التي مرَّت على العراق وما شهده من تحوّلاتٍ وثوراتٍ وانقلاباتٍ سالت فيها الدماء، من بداية الحُكم الملكي مع الملك فيصل الأول حتى نهايته إثر ثورة 14 تموز/يوليو 1958. وقد رحَّب الشاعر بالحُكم الجمهوري وكانت علاقته قوية مع رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم منذ أن كان ضابطاً بسيطاً، وأصبح في عهده نقيباً للصحافة ورئيساً لاتحاد كُتّاب العراق وواكب مُنجزات العهد الجديد، إلا أن العلاقة ما لبثت أنْ ساءت وساور الشكّ كلا الرجلين أحدهما من الآخر. وبذلك اغتنم الجواهري مناسبة تلقّيه دعوة إلى مؤتمرٍ في ألمانيا الشرقية لطلب اللجوء السياسي إلى تشيكوسلوفاكيا وأقام في براغ مع عائلته لسنواتٍ طويلة.
ولم يبدِ الشاعر كبيرَ أسفه لإعدام عبد الكريم قاسم بعد نجاح الانقلاب الذي قاده عبد السلام عارف عام 1963. وقد سحبت الحكومة الجديدة الجنسية العراقية من الشاعر لأنه لم يؤيِّد الانقلاب.
ولم يعد الجواهري إلى العراق إلا بعد الانقلاب الذي قاده حزب البعث عام 1968، إلا أنه لم يبد حماساً للحُكم الجديد رغم أن الرئيس أحمد حسن البكر رحَّب به وزاره في منزله. وبعد تسلّم صدّام حسين السلطة غادر الجواهري العراق عام 1980 إلى براغ، وفي عام 1983 انتقل إلى دمشق حيث لقيَ ترحيباَ رسمياً وأقام مُعزَّزاً مُكرَّماً حتى وفاته في عام1997.
ويعكس شعر الجواهري كل هذه الحقبة الطويلة والمُضطربة من تاريخ العراق وأبرز الأحداث التي شهدها العالم العربي.
ولعلَّ الأصحَّ في هذا السياق القول مع الشاعر أدونيس إننا "لا نفهم شعره (الجواهري) في ضوء هذا التاريخ، على العكس، نفهم هذا التاريخ في ضوء شعره".
وشعر الجواهري نسيج وحده في قوَّة السَبْك وجَزالة العبارة والسلاسة وعذوبة اللفظ والإيقاع الموسيقي المُتناغِم. وهو حتى في مُطوِّلاته يلتزم وحدة الموضوع ولا ينتقل مثل القُدماء من موضوعٍ إلى موضوعٍ دونما رابط. وهذا ما يُسلِّط الضوء عليه الشاعر العراقي الحداثي عبد الوهاب البيّاتي (1926-1999) في قوله إنّ قصائد الجواهري "تُقرأ من ألفها إلى يائها لتماسكها ووحدة موضوعها المسكونة بالتمرّد والثورة والإبداع، بعكس قصائد الآخرين التي تموت أو تهبط من عليائها بعد البيت الرابع أو العاشر".
لم يترك الجواهري باباً من أبواب الشعر المعروفة إلا وطرقه بما في ذلك المَدْح والهجاء، إلا أنه لم يهجُ عن موقفٍ شخصي انفعالي ولم يمدح إلا لمزايا في الممدوح هو مُقتنعٌ بها. وكان من الإباء على قَدْرٍ رفيعٍ ينأى به عن توسّل مكسب أو منصب أو مكانة، وهو هنا على نقيض المُتنبي الذي كان يُبالغ في مديح مَن لا يستحقّ بُغية الحصول على منفعةٍ شخصيةٍ من مالٍ أو منصبٍ، لكنه في غير ذلك كثيراً ما كان يقيس شعره بشعر أبي الطيّب ويُقارن بين مواقف كل منهما في الرفض والتمرّد والثورة على الأوضاع السيِّئة المُحيطة. وهذه المُقارَنة مقبولة حتى لدى شاعر حداثي كالبيّاتي الذي يقول: "هناك قمَّتان شامِختان في الشعر العربي أعلى سناماً من القمم الأخرى هما المُتنبي والجواهري، ولأني من مُعاصري الجواهري فأنا أكثر ميلاً إليه".
وقبل أن نختم هذه المقالة التي لا تقدِّم إلا نَزْراً يسيراً مما يمكن أن يُقال عن هذا الشاعر العملاق، نتوقَّف عند بعض اللحظات الشعرية المؤثِّرة.
في عام 1948 استُشهد أخوه جعفر في معركة ضدّ الاحتلال الريطاني، فقال من قصيدةٍ في تأبينه:
أتعلمُ أم أنتَ لا تعلمُ
بأنّ جِراحَ الضحايا فمُ
أتعلمُ أنّ رِقابَ الطُغاةِ
أثقلها الظلمُ والمأتمُ
أتعلمُ أن جِراحَ الشهيد
تظلُّ عن الثأر تستفهمُ
ومن أشهر ما قيل في موضوع الجوع والفقر والحرمان قصيدته "تنويمة الجياع" ومنها قوله:
نامي جِياعَ الشعبِ نامي
حرستكِ آلهةُ الطعامِ
نامي فإن لم تشبعي
من يقظةٍ فمنَ المنامِ
نامي تزُركِ عرائسُ
الأحلامِ في جُنحِ الظلامِ
نامي جِياعَ الشعبِ نامي
النومُ من نِعَمِ السلامِ
يرقد بعيداً عن دجلة الخير
في عام 1950 ألقى الجواهري في حفل تكريم الزعيم اللبناني عبد الحميد كرامي في بيروت قصيدة كانت سبباً في اتخاذ السلطات اللبنانية قراراً يقضي بطرده من لبنان، مُعتبرة أن بعض أبيات القصيدة تتضمَّن تحريضاً عليها، ومنها قوله:
باقٍ وأعناقُ الطُغاةِ قِصارُ
مِن سِفرِ مَجدِكَ عاطِرٌ نَوّارُ
عبدُ الحميدِ وما تزالُ كعهدِها
شعبٌ يُذلُّ وأُمّةٌ تَنهارُ
ومُسلّطون على الشعوبِ بِرغمها
السوطُ يدفعُ عنهمُ والنارُ
وصِحافةٌ صفراءُ الضميرِ كأنّها
سِلَعٌ تُباعُ وتُشترَى وتُعارْ
تُوفّى شاعر العراق وثالث النهرين في دمشق التي أحبّها وأحبّته وحِيل من دون وصول جثمانه إلى العراق ليُدفَن في ثرى الفُرات ليروى بمائه ودُفِن في مقبرة الغرباء في منطقة السيّدة زينب.
ولعلَّ ذلك ما أوحى بأن تُرسَم على بلاطة ضريحه خارطة العراق ويُكتَب عليها: "يرقد هنا بعيداً عن دجلة الخير"، وفي ذلك إشارة إلى قصيدته "يا دجلة الخير" ومنها قوله:
يا دجلةَ الخيرِ: مِن كلّ الأُلى خَبَروا
بَلوايَ لم ألفِ حتى مَن يُواسيني
يا دجلةَ الخيرِ: خلّي المَوجَ مُرتَفِقاً
طَيفاً يَمُرُّ وإنْ بعضَ الأحايينِ
وحمّليهِ بحيثُ الثلجُ يغمُرُني
دِفء "الكوانينِ" أو عِطرَ "التَشارينِ"