العراق - حصاد الثقافة 2021: عام التحديات والطموحات.. والخسارات أيضاً
على الرغم من تفشي "كورونا" وغياب وجوه ثقافية بارزة، فإن طموح العراقيين لم يتوقف. كيف كان العام 2021 ثقافياً في العراق؟
لا يمكنُ عزل الوضع الثقافي عن المتغيرات الاقتصادية والسياسية في بلدٍ ما. فالثقافة ليست بنية تحتية أو فوقية، بقدر ما هي فعالية تشارك في صنع حاضر المجتمعات البشرية.
واجهت الثقافة العراقية عقبات شاقّة ومشاكل بنيوية منذ نشوء الدولة العراقية الحديثة حتى الآن. وفي مقدورنا أن نسمّي عام 2021 عام التحدي بالنسبة إلى القطاع الثقافي. لقد سيطر وباء "كورونا"، الذي عطّل كثيراً من الفعّاليات، وقَطَعَ طريق التواصل بين المثقف وقاعدته. الوضع السياسي غير المستقر كان هو الآخر عقبة أمام التظاهرات الثقافية لتستعيد عافيتها، لكنّ الطموح العراقي لم يتوقف. والجهود، سواء كانت فردية أو مؤسساتية، حاولت أن تومض بإشراقات يجب تشجيعها.
"أنا عراقي أنا أقرأ"
في إطار المبادرات الفردية الشبابية المدعومة من بعض دُور النشر، شهد المجال الثقافي تأسيس مبادرة ديكارتية، حملت عنوان "أنا عراقي أنا أقرأ". مبادرة بدأت أولاً في مواقع التواصل الاجتماعي، ثمّ أبصرت النور في أرض الواقع، مِن خلال وضْع صندوقٍ صغير في "شارع المتنبّي" في بغداد، تُجمَع فيه كُتبٌ يُهديها المتبرعون إلى محبّي القراءة.
لم تلبث هذه المبادرة أنْ اجتذبت كثيراً مِن القرّاء ودُور النشر والمؤسّسات الحكومية والمنظّمات المدنية، وتوسّعت لتصل إلى خارج العاصمة العراقية، ثم تتحوّل المبادرة إلى منظّمة تعرّف نفسها بأنّها "غير حكومية، وغير ربحية، وتُعنى بالثقافة والتربية والتعليم".
في سياق هذه المبادرة، تقام منذ سنوات فعاليات لتوزيع الكتب، وآخرها في "حدائق أبي نواس" في موازاة نهر دجلة في بغداد، حيث جرى توزيع آلاف الكتب التي تنوّعت عناوينُها.
وعلى الرَّغم من أن هذه الفعالية توقّفت العام الماضي بسبب "كورونا "، وأُقيمت يوماً واحداً فقط، فإنها شهدت توزيع 30 ألف كتاب بصورة مجّانية، معتمِدةً على تبرعات القراء، بالإضافة إلى دُور النشر والمؤسّسات الرسمية، وفي مقدّمتها وزارة الثقافة التي باتت المساهم الرئيس في الفعالية.
وتضمّنت الفعالية عزف مقاطع موسيقية وأداءَ أغانٍ من التراث العراقي، إلى جانب ورشات مفتوحة في الرسم وأنشطة ترفيهية مخصَّصة للأطفال، وجلسات إهداء كتب بالتوقيع، ووقفة استذكارية للشاعر الراحل إبراهيم الخياط (1960 - 2019)، الذي فقده الوسط الأدبي العراقي، وهو في أوج نشاطه.
عودة ميمونة لــ "دار المأمون"!
تُعتبر "دار المأمون" رِئَةَ الترجمة في العراق. وهي دار عريقة تأسّست عام 1980 لتصبح إحدى الدوائر الرسمية التابعة لوزارة الثقافة والسياحة والآثار، والمعنية بترجمة نماذج متعددة من التراث العالمي، فكرياً وثقافياً، من مختلف اللغات إلى اللغة العربية، بالإضافة إلى ترجمة نماذج من النصوص الإبداعية العراقية إلى اللغات الأجنبية.
وعادت الدار هذه السنة بقوة واضحة. وتخبرنا مديرتها المترجمة إشراق عبد العادل العبادي، التي تسلَّمت منصبها نهاية شهر أيار/مايو الماضي، بالتحديات التي واجهتها قائلة: "أول التحديات التي واجهت الدار، كان العمل في ظل جائحة "كورونا"،في ظلّ صعوبة ممارسة النشاط اليومي الفعلي المعتاد. وكان ذلك منذ بداية الجائحة عام 2020، والانتقال في ظل الجائحة في ممارسة عملنا إلى الحيز الافتراضي، الذي كان صعباً في بداية الأمر".
وأضافت، في حديث إلى الميادين الثقافية، أن "التحدي الآخر كان توقف مَعارض الكتب التي تدخل في صلب عمل الدار، وإجمالاً توقف الحياة الثقافية في بغداد، الأمر الذي ترتّب عليه توقُّف كثير من أنشطتنا الثقافية الفعلية، ومنها الندوات. لكن انتقالنا إلى العمل الافتراضي سهَّلَ علينا بعض المصاعب التي واجهناها منذ بداية الجائحة. وأصبح التعامل، عبر موقع الدار وصفحاتها الإلكترونية، هو الوسيلة الأسهل والأهم للاستمرار في عملنا وتسويق مطبوعتنا ونشرها إلكترونياً".
تُصدرُ "دار المأمون" 3 مجلات، هي "مجلة المأمون" باللغة العربية، و"مجلة كلكامش" باللغة الإنكليزية، و"مجلة بغداد" باللغة الفرنسية، بالإضافة إلى جريدة "المترجم العراقي".
نجحت الدار، خلال عام 2021، في إصدار 21 كتاباً، وفق مواصفات عالية جداً من حيث الطباعة والإخراج الفني، بالإضافة إلى المحتوى الفكري الرصين، بحيث بذلت جهوداً كبيرة، خلال فترة قياسية، من أجل استقطاب أسماء كبيرة من أعلام الترجمة في العراق لرفد الدار بترجماتها وخبراتها.
وتمكّنت الدار، في هذه الفترة الحرجة من ناحية التمويل، في النجاح في تنفيذ مبادرة "ترجمة مئة كتاب" الخاصة بالدار، والتي أطلقتها وزارة الثقافة، وأعلنها وزير الثقافة حسن ناظم في "اليوم العالمي للترجمة" العام الماضي.
وقطفت "دار المأمون" ثمار نجاحها من خلال إصدارها مجموعة كبيرة من العناوين التي شاركت فيها الدار في "معرض الرياض الدولي للكتاب 2021"، ومعرض الكتاب الذي أُقيم في البصرة، و"معرض دهوك" في "مهرجان دهوك الثقافي"، و"معرض العتبة العباسية" في كربلاء، وغيرها.
العراق يخسر ثلاثة من أعلامه
لا تشكل خسارة مبدع، سواء كان شاعراً أو قاصّاً أو مفكراً، خسارة قيمة إبداعية فحسب، وإنما خسارة قيمة ثقافية ومعرفية تنويرية أيضاً.
ومن الخسارات الشعرية التجديدية الكبرى هذه السنة كان رحيل الشاعر الرائد والمترجم سعدي يوسف. غنيٌّ عن القول إن يوسف كان أحد أكثر الشعراء تأثيراً، سواء من خلال قصائده، مثل "الأخضر بن يوسف" و"تحت جدارية فائق حسن"، أو من خلال ترجماته لويتمان وكافافي وريتسوس ولوركا.
وبصرف النظر عمّا أثاره بعضُ قصائده من جدل، مثل قصيدته عن زوجة النبي محمد، أو بعض آرائه السياسية، فإن الشعر العربي فَقَدَ، في رحيل سعدي يوسف، واحداً من أشد الشعراء خصوصية وحيوية، وأعذبهم لغة وانفتاحاً على العالم.
سعدي يوسف، المولود عام 1934، والمعروف بصداقته لبدر شاكر السيّاب، غادر العراق في سبعينيات القرن العشرين وأقام بلندن. ونال خلال مسيرته عدة جوائز في الشعر، منها: جائزة سلطان بن علي العويس، التي سُحبت منه لاحقاً، والجائزة الإيطالية العالمية، وجائزة كافافي من الجمعية الهلّينية. وجائزة فيرونيا الإيطالية لأفضل مؤلِّفٍ أجنبيّ. كما حصل على جائزة المتروبولس في مونتريال في كندا.
في نيسان/أبريل من هذا العام دخل سعدي يوسف المستشفى لتلقي العلاج بعد معاناته جرّاء سرطان الرئة، ليلفظ أنفاسه في الـ 13 من حزيران/يونيو، ويُدفَن في مقبرة "هاي جيت" في لندن من دون حضور معزّين، تنفيذاً لوصيته.
أما الاسم الآخر الذي فقده العراق، فهو خير الدين حسيب، المفكر القومي الذي ينساب شيءٌ من العاطفة في كلامه، وهو يعرض التجارب النيّرة للمقاومة في لبنان وفلسطين والعراق.؛الرجل الذي التقى عبد الناصر عدة مرات، وخاف أن يقرأ الجيل الجديد العذابات والمصاعب التي عاناها جيله دفاعاً عن القومية العربية فينصرف عنها.
وُلد خير الدين حسيب في الموصل عام 1929، لكن الرجل، الذي ينتمي إلى جيل تَشَكَّلَ وعيه بعد نكبة عام 1948، عاش حياته خارج العراق منذ عام 1974، غريباً عن أرض أحلامه، إلاّ أنه قام، في تلك الفترة، بتخصيص جهده في إنشاء "مركز دراسات الوحدة العربية" في بيروت عام 1975.
وتكفّل المركز بتقديم الدراسات في الموضوعات المتعلقة بمختلف القضايا العربية والسياسية. وباعتباره مديراً عاماً للمركز، أشرف حسيب على نشر أكثر من 500 دراسة، ظهرت في شكل كتب، بيع منها أكثر من مليون نسخة.
كما أدار المجلة الشهرية المهمة، "المستقبل العربي"، منذ عام 1978 من دون انقطاع. وصدر منها حتى شهر آب/أغسطس 2007، 342 عدداً.
رفض حسيب التخلي عن جنسيته العراقية على الرغم من منفاه الطويل، حتى وافته المنية في بيروت في 12 آذار/مارس من هذا العام.
أمّا الخسارة الثالثة والأشد ألماً، فكانت رحيل الأيقونة الشعرية لميعة عباس عمارة، المولودة عام 1929، والتي تُعتبر من رواد الشعر العربي الحديث، ومن أعمدة الشعر المعاصر في العراق.
عاشت عمارة أغلبية حياتها في الولايات المتحدة بعد هجرتها من العراق في زمن صدام حسين، لتبقى المحبة وقفاً لأهل بغداد، ولتبقى بغداد أحلى من باريس، كما تعلن ذلك في إحدى قصائدها الشعبية الشهيرة.
بدأت لميعة عباس عمارة كتابة الشعر في وقت مبكّر من حياتها، منذ أن كانت في الثانية عشرة من العمر، وكانت ترسل قصائدها إلى الشاعر اللبناني إيليا أبو ماضي الذي كان صديقاً لوالدها. ونشرت لها مجلة "السمير" أول قصيدة وهي في الرابعة عشرة من عمرها، وعزّزها إيليا أبو ماضي بنقد وتعليق مع احتلالها الصفحة الأولى من المجلة، إذ قال "إن كان في العراق مثل هؤلاء الأطفال، فعلى أية نهضة شعرية هو مقبل".
كتبت عمارة الشعر الفصيح فأجادته، كما كتبت الشعر الشعبي العراقي وأجادته أيضاً. عاشت حياة صاخبة من الحب والشعر والسفر، لتُنهي رحلتها بإغماضة عين بعيدة عن ليل بغداد، في الولايات المتحدة، عن عمر ناهز 92 عاماً.