أم المجازر في ملف كامل: مجزرة الدوايمة المغمورة تضاهي دير ياسين وكفر قاسم (الجزء الثاني)
لماذا لا تتوفّر المعلومات المطلوبة حتى بعد سبعين عاماً على المجزرة حول العدد الرسمي للشهداء في "الدوايمة"؟ كم استشهد بكل محور من المحاور الأربعة المذكورة أعلاه؟ وهل كل الشهداء هم من "الدوايمة"، أم أن قسماً منهم من قرى، ومدن أخرى ممن كانوا في سوق القرية يوم الجمعة، والذي كان يجذب العديد من أهالي القرى والمدن المجاورة؟
ملاحظات هامّة حول المصادر الصهيونية _ الإسرائيلية:
يذكر الباحث "يائير اورون" أنه قد رأى الرسالة المذكورة أعلاه بعد أن أرسلها له المؤرخ "بيني موريس"، وبعد أن اختفت هذه الرسالة أيضاً، وكما يبدو من أرشيف "تسيزلنغ"، كما ذكرنا سابقاً، بيد أن "بيني موريس" قد تطرق لهذه الرسالة بتوسع في كتابه "طرد اللاجئين الفلسطينيين وولادة مشكلة اللاجئين"، إصدار دار الجليل للنشر، ص 205_206، مؤكداً أن "نشر هذه الرسالة كان كافياً ليثير غضب جهات عديدة، وأنها كانت سبباً ليقوم "يغئال الون" بإصدار أمر للتحقيق حول ماجرى، وكنا قد تطرقنا إلى ذلك سابقاً حيث تعين "ايسار باري" كمحقق عسكري، ولكن توقف في أعقاب العفو العام الذي صدر في شباط 1949. "بيني موريس" لم يذكر أي تفاصيل ميدانية عسكرية، وكذلك "ايلان بابه" في كتابه "التطهير العرقي في فلسطين"، وكذلك لم يتطرق لشهادة "ش. كابلن" التي اقتبسناها، ولكنه تطرق لأمر آخر لم يذكره "بيني موريس"، بقوله: "وصف الجنود اليهود الذين شاركوا في المجزرة مشاهد تقشعرّ لها الأبدان: أطفال رضّع حطّمت جماجمهم، ونساء اُغتصبن او اُحرقن أحياء داخل بيوتهن، ورجال طُعنوا حتى الموت. ولم تكن هذه الروايات قد قيلت قبل أعوام، وإنما روايات شهود عيان في تقارير رفعت إلى القيادة العليا خلال أيام قليلة بعد وقوع الحدث". ويشير "إيلان بابه" إلى أن المصدر هو كتاب "بيني موريس" في الصفحات 222_223، ولكننا لم نجد في فصل مجزرة "الدوايمه" في كتاب "بيني موريس" أي إشارة إلى تقارير لجنود، شهود عيان، رفعت إلى القيادة العليا، بل أن "بيني موريس" يكتفي بالتركيز على رسالة "ش. كابلن" فقط. كما ذكرنا سابقاً، فإن بروتوكول جلسة الحكومة ذات الصلة، تم إخفاؤه، وكذلك المستندات ذات الصلة من أرشيف "تسيزلنغ"، وقد تم إخفاؤها، ويشمل ذلك رسالة "كابلن". كما أن التحقيق العسكري قد توقف بسبب العفو العام. كذلك الأمر التحقيق الذي أحيل إلى المستشار القضائي وانتهى بعضوية شخص واحد، قد تم تعطيله، وواجه عدم استعداد للقيادات العسكرية على التجاوب مع لجنة التحقيق، من خلال المماطلة، إلى أن أوقف العمل بها، واُسدل عليها ستار من السريّة المطلقة، ولا توجد أي معلومات رسمية عن مضمون الشهادات التي أدلى بها الجنود والضباط العسكريون للجنة التحقيق. هذا الموضوع يكتسب أهمية قصوى لأن "كابلن" نفسه يقول في رسالته إن الجندي الذي أدلى بتفاصيل المجزرة أمامه، قد حضر غداة يوم المجزرة ومع الفوج الثاني للكتيبة 89 في اللواء الثامن، وعليه فإن كل التفاصيل المروّعة هي جزئية بطبيعة الحال، لأنه لم ير بأم عينه ما حدث في اليوم الأول، كما وأنه من غير المعقول أن يكون قد رأى كل تفاصيل المذابح التي تمت على مراحل: في شوارع البلدة، داخل البيوت، في سوق البلدة، في المسجد، وفي إحدى الكهوف خارج البلدة. لا يوجد أدنى شك بأن تفاصيل المجزرة المروعة تعدت كثيراً التفاصيل التي أوردها "ش . كابلن" في رسالته. تجدر الملاحظة أيضاً أنه إلى جانب سياسة التعتيم المنهجيه من قبل المؤسسة الإسرائيلية بشأن مجزرة الدوايمة، كما أوضحنا سابقاً، فإن الموضوع يستمد أهمية قصوى أيضاً على ضوء الحقيقة الدامغة أن الحكومة الإسرائيلية لم تصدر أي بيان رسمي بشأن العمليات العسكرية التي جرت في الدوايمة، والمنطقة بشكل عام، ولا عن المجزرة المروّعة، وعلى الأقل لم نرَ أي تطرّق لذلك في المراجع الرسمية ولا الأكاديمية. كذلك الأمر بالنسبة للقيادة العسكرية التي لم يصدر عنها أي تقرير رسمي يوضح حقيقة ما جرى، ولو من وجهة نظرها. ونعتقد أن تعيين لجنة تحقيق عسكرية، وأخرى عامة، كانت تهدف إلى التضليل، والإيحاء بعدم رضى القيادة العسكرية حيال تصرفات وسلوكيات تبدو وكأنها منافية لقواعد "طهارة السلاح"، بهدف تضليل الرأي العام العالمي، ولكن ما أن تمر فترة ما، يتم إغلاق الملفات، والحجر عليها بساتر السرية، وبدواع أمنية، وبالمقابل اصدار عفو عام لكل المتورطين في المجزرة، كما حدث فعلاً بالنسبة للمتورطين بمجزرة "الدوايمة". صحيفة "حداشوت" الإسرائيلية، كشفت ولأول مرة من خلال الصحفية "يوئيلا هارشيفي"، بتاريخ 1984\8\24، التفاصيل المروعة عن هذه المجزرة، ولكن بالأساس من خلال مقابلة مع مختار القرية آنذاك، وقائد الفصيل في الوحدة المهاجمة، و"يعقوب اهروني" مسؤول المتفجرات في الكتيبة وآخرين، وتطرقت إلى العمليات العسكرية، وقسمتها إلى مراحل وفق جزئيات المجزرة التي نفذت على مراحل، وسوف نستعرضها ضمن محور المصادر العربيه كونها ارتكزت بشكل أساسي على شهادات الناجين من المجزرة. يقول "ايلان بابه": "التطهير العرقي ليس إبادة عرقية، لكنه ينطوي على أعمال وحشية، وقتل جماعي، ومجازر. آلاف الفلسطينيين قتلوا بوحشية، ومن دون رحمة، بأيدي جنود إسرائيليين من خلفيات وإعمار متعددة، وأي منهم لم يُحاكم على ارتكابه جرائم حرب على الرغم من الأدلّة المتوفرة" (ص ، 225 في المصدر المذكور أعلاه). "بيني موريس" يقول في تعليقه على المذبحة، في كتابه "تصحيح خطأ": "لقد تمت المجزرة بأوامر من الحكومة الإسرائيلية، وأن فقرات كاملة حذفت من محضر اجتماع لجنة حزب المبام عن فظائع ارتكبت في قرية "الدوايمة"، وأن الجنود قاموا بذبح المئات من سكان القرية لاجبار البقية على المغادرة". الحاخام "يوئيل بن نون"، قال ذات يوم: "إن الظلم التاريخي الذي الحقناه بالفلسطينيين اكثر مما الحقه العالم بنا". ويقول "ايلان بابه": لقد كانت مجزرة الدوايمة آخر مجزرة كبيرة ارتكبها الجيش الإسرائيلي حتى سنة 1956، عندما قتلت 49 قروياً من أهالي كفر قاسم في نفس تاريخ مجزرة "الدوايمة" 29 من شهر تشرين الأول/أوكتوبر، وبين مجزرة "الدوايمة"، وحتى التوصل لاتفاق نهائي لوقف اطلاق النار مع سوريا ولبنان في صيف 1949، قامت إسرائيل باحتلال 87 قرية أخرى، منها 36 اُخليت بالقوة، والبقية كانت بمثابة هروب من خطر المجازر الجماعية.
مجزرة الدوايمة في المصادر العربية والدولية:
بعد أيام من تنفيذ المجزرة في قرية "الدوايمة"، ورغم العقبات التي وضعتها القيادة الإسرائيلية أمام زيارة مراقبي الأمم المتحدة للبلدة، وبعد توجّهات عديدة، تم السماح، بتاريخ 8 من شهر تشرين الثاني/نوفمبر _1948، لفريق الأمم المتحدة برئاسة ضابط الصف البلجيكي "فان فاسن هوفي"، بزيارة "الدوايمة"، برفقة مجموعة من العسكريين الإسرائيليين. وقد شاهد رئيس الوفد الدخان المتصاعد من المنازل رغم مرور 8 أيام على المجزرة، وذلك بهدف إخفاء الجثث المتعفنة في القرية، وأكد على ذلك حين قال: "أشتمّ رائحة غريبة، وكأن بداخلها عظماً يحترق". وعندما سأل عن سبب تفجير المنازل، أجابه الضابط الإسرائيلي أن "بها حشرات سامة، ولذلك قام بنسفها". وعندما سأل عن مسجد البلدة، وطلب الدخول إليه، تم منعه بحجة أن للمسجد قدسية عند المسلمين، ولا يجوز دخوله لغير المسلم، ولكن أحد مرافقي الضابط البلجيكي اقترب وأطل من النافذة، وأشتم رائحة جثث بشرية تحترق، وعندما سأل الضابط الإسرائيلي عن الدخان وعن الرائحة الكريهة، تمّ منعه من اكمال التحقيق. كما لم يسمح لفريق الأمم المتحدة بزيارة جنوبي القرية بحجة وجود ألغام، وادّعوا أمامهم أن سكان القرية قد هربوا قبل أن يصل الجيش الإسرائيلي إليها.
لقد قام المراقبون الدوليون بإرسال تقرير سري الى رؤسائهم، ذكروا فيه:
"ليس لدينا شك بأن هناك مجزرة، وأن الرائحة المنبثقة من المسجد كانت رائحة جثث بشرية".
(المصدر : الويكيبيديا ، الموسوعة الحرّة _ الدوايمة).
كما أنه قد صدر في تقرير الأمم المتحدة المؤرّخ 14 من شهر حزيران لعام 1949، ما يلي:
"السبب في ضآلة ما هو معروف عن هذه المجزرة التي تفوق _ من نواح كثيرة _ في وحشيتها مجزرة دير ياسين، يرجع إلى أن الفيلق العربي (الجيش الذي كانت المنطقة تحت سيطرته. و . و )، خشي، فيما لو سُمح لأخبارها بالانتشار، أن تُحدث التأثير نفسه الذي أحدثته مجزرة دير ياسين في معنويات الفلاحين، وأن تتسبب بموجة لجوء أخرى".
هذا الكلام أقلّ ما يقال عنه بإنه هراء، لأن المصادر شبه الرسمية في "شرق الأردن"، وهي الأقرب جغرافيا للمنطقة، وهي المسؤولة عسكرياً عن الفيلق العربي، هي من شيعت أن بين 500 _1000 عربي قد تم توقيفهم في صف واحد، وقتلوا بنيران الرشاشات بعد احتلال "الدوايمة”.(المصدر ، "بيني موريس" ، ص 206). وعلى هذا فإن الإدعاء بأن التستر عن تفاصيل المجزرة هو لعدم إشاعه أجواء من الرعب والخوف، مردود للجهات الرسمية في "شرق الأردن ". وهكذا يكون المؤرّخ "ايلان بابه" قد صدق عندما قال إن السبب الحقيقي كان "على الأرجح، أن الأردنيين خشوا أن يوجّه إليهم، بحق، اللوم على عجزهم، وتقاعسهم عن العمل". (المصدر ذاته لايلان بابه، ص 224).
إن وصف الموقف العربي الرسمي بالتقاعس قد يكون فيه الكثير من التجني على من يجهل حتى حدوث المجزرة، ومكان اقترافها. الجهل يرحم أصحابه. فبعد بضعة أيام من ارتكاب المجزرة، نشر مكتب الجامعة العربية في باريس أن الجنود الإسرائيليين ارتكبوا مذبحة قتلوا خلالها النساء، والأولاد، والشيوخ خلال هجومهم على "دويمة في الجليل الأعلى" ..("بيني مورس"، المصدر ذاته، ص 206).
يقول الباحث كمال هديب في مقالة له بعنوان "العودة إلى الدوايمة" اعتماداً على أرشيف الصليب الأحمر، إنه أثناء المجزرة ب"الدوايمة"، أرسل الجيش المصري ثلاثة خطابات إلى ممثلية في الأمم المتحدة، ذكر فيها أن كارثة تحدث في قرية "الدوايمة"، فحضر وفد من الصليب الأحمر بتاريخ الحادي عشر من تشرين الثاني 1948 إلى القرية، أي بعد أحد عشر يوماً من البدء في ارتكاب المجزرة، وذكروا في تقريرهم أنهم لحظة وصولهم إلى القرية، كانت لا تزال أعمدة الدخان تتصاعد في سماء القرية، واشتموا رائحة عظام تحترق، وقدّروا عدد مجزرة الدوايمة من 700 إلى إلف شهيد. أي أن الرقم الأول ثابت وهو 700 جثة، أما المتحرك وهو الرقم الإضافي 300، فهو يتعلق بالأشلاء التي عثر عليها هنا، وهناك من أرجل، وأيدٍ، ورؤوس، وما لا يمكن لمخيلة إجرامية أن تتخيّله"، والكلام للباحث كمال هديب.
مجزرة الدوايمة في المصادر الفلسطينية:
التفاصيل المُربكة :
البحث الذي أجريته حول مجزرة الدوايمة، والمصادر الفلسطينية بشكل خاص، ترك لدي أثراً كبيراً وخاصة عندما يجري الحديث عن أبشع المجازر التي ارتكبتها المؤسسة الصهيونية _الإسرائيلية. لا يمكن أن نقف لا مبالين حيال هذا الاهمال، والتقاعس بفتح ملف المجازر، وتحديداً مجزرة "الدوايمة"، بشكل صحيح، ومهني، ودقيق بحيث يعطي الإجابات الوافية لكل ما يتعلق بتفاصيل ما حدث.
بعد سبعين عاماً نشعر بفداحة هذا الاهمال المؤسساتي، والذي يجب أن ترعاه مؤسسة تعنى بالتوثيق وفق المعايير العلمية، والمهنية المعتمدة في مثل هذه الحالات. ولا يمكن أن يُترك الأمر للمزاجيات، وللرغبات، والانفعالات الفردية، لأنها ستكون محدودة بعطائها، ولأن هذا الموضوع يحتاج إلى طواقم عمل مختصة تضع نصب أعينها ضرورة وضع الرواية الفلسطينية في هذا الصدد بشكل يعكس حقيقة ما جرى، ولا يكون الموضوع رهن جهد شخصي هنا وهناك، رغم وجود النوايا الحسنة، والاستعداد للتضحية عند البعض من أجل البحث، والتحقق من تفاصيل إحدى أهم عناصر نكبتنا الفلسطينية، وأعني المجازر التي تعرض لها شعبنا، وما زالت فصول أخرى مفتوحة على أبوابها، وتنتظر الوقت المناسب لتطبيقها، فروح الانتقام، ونهج الطرد، والإبادة متجذرين عميقاً جداً بالفكر الصهيوني. أكثر ما آلمني هو أنه رغم وجود بعض المقالات والأبحاث، ولكن كلما اطّلع المرء على مواد أكثر، تزداد حيرته من هول التناقضات، أو في أحسن الأحوال، عدم الدقة في سرد المعلومات.
تتضارب المصادر بشأن عدد سكان قرية "الدوايمة" عشية المجزرة، ومنهم من كتب أن عدد سكانها بلغ الألفي نسمة، وتضاعفت مرتين لتصل إلى ستة آلاف بعد مجزرة اللد، وطرد عشرات آلاف من المناطق القريبة منها ليستقر حوالي 4000 نسمة في "الدوايمة"، ومنهم من كتب أن عدد سكانها بلغ عشية المجزرة حوالي الـ 4000 نسمة.
كما تتضارب المصادر حول تسلسل الأحداث ليلة بدء المجزرة، وعدد الأيام التي قام الجيش الإسرائيلي بالبقاء فيها، وتنفيذ المجازر فيها على مراحل. كما ستجد من الصعوبة بمكان أن تجد قاسماً مشتركاً بين كل الروايات بشأن المفاصل، والمحطات الأساسية التي تم تنفيذ المجازر فيها. الجميع يجمع أن المحاور الأساسية كانت مع بدء الهجوم الأول في شوارع البلدة، وبيوتها حيث تم إطلاق النار بشكل عشوائي، وبعدها اختلط الحابل بالنابل بشأن المجازر التي نفذت في سوق القرية، او في مسجد الزاوية، او في كهف "طور الزاغ”. يصعب وفق المصادر والروايات المتوفرة معرفة التسلسل الزمني لتنفيذ المجازر في المحاور المختلفة، وسنحاول أن نبذل قصارى جهدنا في جمع ولملمة كل التفاصيل الصغيرة لتقديم رواية شاملة تعكس حقيقة كل ما حدث.
وإن نسيت فلن أنسى عبثية إعداد الشهداء التي تتراوح ما بين 70 شهيداً في بعض الروايات وحتى 700 شهيداً في روايات أخرى. المعضلة معروفة لنا جميعاً، حيث أننا نهوى رفع أعداد الشهداء إلى أعلى المستويات بهدف استعطاف الرأي العام الدولي، وإظهار المجرم بأسوأ حال. ولكن نسينا أن الحركة الصهيونية، وأذرعتها العسكرية، تحقق بذلك مآربها حيث أنها هي المعنية بأن تصل أخبار التهويل، والترهيب بشكل مضاعف إلى الفلسطينيين ذاتهم، فيتركون بيوتهم خوفاً من خطر الإبادة، بينما تقوم إسرائيل بتقديم روايتها التي تسعى إلى التخفيف من حجم عدد الشهداء، أو تقديم الذرائع، ويضيع العالم بين روايتين، ويكون أثناء ذلك قد حسم عشرات الآلاف من الفلسطينيين أمرهم بالرحيل وتركوا بيوتهم.
لماذا لا تتوفّر المعلومات المطلوبة حتى بعد سبعين عاماً على المجزرة حول العدد الرسمي للشهداء في "الدوايمة"؟ كم استشهد بكل محور من المحاور الأربعة المذكورة أعلاه؟ وهل كل الشهداء هم من "الدوايمة"، أم أن قسماً منهم من قرى، ومدن أخرى ممن كانوا في سوق القرية يوم الجمعة، والذي كان يجذب العديد من أهالي القرى والمدن المجاورة؟
والسؤال الأخير، هل حقاً سلم أهل "الدوايمة" بمصيرهم دون أي مقاومة تذكر، كما يلمح كثيرون، أيضاً بهدف استعطاف الرأي العام العالمي، وإظهار الفلسطينيين على أنهم مدنيين لا حول ولا قوة لهم، أم أن الاحتلال لـ"الدوايمة" جوبه بمقاومة عنيفة من قبل المدافعين عن البلدة؟ تكاد لا تجد أيّة معلومات بهذا الصدد حول هذه الجزئيات.
التفاصيل وفق المصادر الفلسطينية:
الباحث "كمال هديب" يبدأ بجمع الشهادات المصورة:
عام 2005، وأثناء انعقاد مؤتمر حق العودة في الناصرة، قدم المؤرخ "ايلان بابه" وجهة نظرة بشأن المجازر بحق الفلسطينيين، ويعرّج صوب مجزرة "الدوايمة"، ويقول إن حقيقة ما جرى هناك ما زال "حبيس صدور الفلسطينيين". ونقلت الإعلامية آمال شحادة وقائع هذا المؤتمر لتقع كالصاعقة على آذان الناشط الاجتماعي ابن الدوايمه "كمال هديب" الذي فهم الرسالة فوراً، وانطلق يلبّي نداء الواجب والضمير، وجمع قرابة 50 شهادة عيان مصورة، وليصبح بعدها المتخصّص الأول في جمع الرواية الشفوية للدوايمة ومجزرتها.
وفي مقابلة معه ، قام بسرد وقائع المجزره بتسلسل زمني وفق ما سمع من شهود العيان كالتالي :
أولاً: إلقاء 101 شخصاً أحياء، رجالاً ونساء وأطفال، في بئر تدعى "بئر المشبك"، وهي تحوي قضبان حديدية على فوهتها على شكل شبك. وعندما كانوا يقومون بقذفهم بها، كان البعض منهم يتشبث بالقضبان الحديدية من حلاوة الروح، فيقوم الجنود بتقطيع أصابعهم بالبلطات، بناء على رواية شاهد العيان الحاج "اسماعيل نشوان" من أبناء "الدوايمة"، ويقطن الآن في حي نزال في عمان بالأردن.
ثانيا: حادثة "مسجد الزاوية" الذي احتمى بداخله كبار السن، والعاجزون من الرجال الذين قُتلوا عن بكرة أبيهم على مرأى ومسمع طفل في السادسة من عمره، هو "خليل هديب" ويقطن الآن في وادي السير في عمان بالأردن، ويذكر الشاهد أنه وقت المجزرة كان مختبئاً في بيتهم اللصيق بالمسجد برفقة والديه، حيث رأى الجنود الصهاينة يقتلون الشيوخ في المسجد، وكان يرى من "طاقة" في جدار البيت، ما يحدث، وكان كلما قال رجل أمام الموت: "الله اكبر"، كان الجندي يقول له: "انت بروخ عند الله"، بلهجة عربية مكسرة، وذات نكهة ساخرة، أي اذهب إلى الله الذي يخصك والذي تستجير به كي يحميك. ثم جمعوا الجثث في سيارة عسكرية، وألقوا بها في حفرة واسعة كانت تستخرج منها المادة التي تطلى بها جدران المنازل وتسمى بالعامية: "الشيد".
ثالثاً: حادثة "طور الزاغ"، وهو عبارة عن كهف لجأت إليه عائلات بأكملها من "الدوايمة"، ومن القرى الأخرى المجاورة التي كانت قد اُحتلت من قبل، حيث يشهد الحاج "محمد القيسيه"، وهو أحد الناجين بمعجزة من المجزرة، وهو مقيم الآن بجبل عمان، إنه بعد أن كان في مغارة "طور الزاغ" بصحبة أمه وأبيه وشقيقه موسى، شاهد سيارات عسكرية وجنوداً مسلحين، جاؤوا إلى باب الطور بعدما رأوا رجلاً يخرج منه رافعاً الراية البيضاء، فأمر الجنود من الجميع أن يصطفوا طابوراً واحداً، ثم قام الجنود بقتلهم. في هذا الوقت ارتمت الأم فوق طفليها لتحميهما من الرصاص، وبالفعل بقي موسى الذي كان عمرة 3 سنوات حياً بلا جروح، وهو لا يذكر شيئاً من ذلك، بينما محمد البالغ 6 أعوام قد خدشت جبينه رصاصة، وقام شخص، لا يتذكر اسمه، بأخذه إلى خيمة مستشفى الجيش المصري الذي كان مرابطاً آنذاك قريباً من القرية، حيث تم إسعافه هناك وليجد شقيقه موسى إلى جانبه في الخيمة ذاتها.
رابعاً: أثناء عملية اجتياح الدوايمة من ثلاثة محاور، كما يذكر الحاج "أبو جميل السباتين"، القاطن الآن في جبل الزهور في عمان، فقد كان الجنود والقادة الصهاينة يقتلون كل ما يتحرك أمامهم من أطفال ونساء وشيوخ وعابري طريق، كما أنهم قاموا باحراق قطيع من الغنم.
وفي مقالته، يقر الباحث "كمال هديب" بإشكالية عدم وجود أرقام ثابتة، ودقيقة للشهداء، فقد نسب للصليب الأحمر أعداداً ما بين الـ 700 والـ 1000، بينما يقر في سياق حديثه بأن أبناء الدوايمة قد أحصوا عدد الشهداء بـ 332 شهيداً (وهو ما اعتمدته أيضاً الصحفية من صحيفة حداشوت، "يوئيلا هارشيفي"، بينما يتكلم "بيني موريس" عن "عشرات وربما مئات القتلى من أبناء القرية")، ويقول إن الدكتور "سلمان أبو ستة" ذكر أن العدد يقارب 400 شهيد. في مصادر اخرى تمّ حصر العدد ب 170 شهيداً. مختار البلدة تكلم لصحيفة حداشوت عن 455 شخصاً كانوا مفقودين بينهم نحو 170 طفلاً وإمرأة. فماذا يعني ب مفقودين؟ وهل هذه الأعداد تشمل أبناء القرى والمدن المجاورة ممن تواجدوا في سوق القرية ساعة تنفيذ المجزرة؟
كما لاحظنا، فالباحث "كمال هديب" لا يسرد تفاصيل المجزره بتسلسل زمني كما حدثت على أرض الواقع، ويبدو مشدوداً للتفاصيل المؤلمة إلى أبعد حد. هو نفسه يقول ويقرّ بغياب الرواية الفلسطينية فيما يتعلق بالمجازر تحديداً، وهي عنصر هام، وعصب أساسي في هذه الرواية. وكما يبدو نتيجة ذلك، فإن الرأي العام لم يتحرك لأننا غرقنا في حالات الاستعطاف إلى درجة الصمت المطبق.
يقرّ الباحث هديب، ويقول إن "المتواجدين في الدوايمة ليسوا من أبنائها وحسب، بل أيضاً من المدن والقرى المجاورة، فضلاً عن تلك القرى التي تهجر أهلها، ولجأ قسم منهم إلى الدوايمة قبل اجتياحها، وأقاموا فيها، وأيضاً فضلاً عمّن جاؤوا إليها لسوق الجمعة في "الدوايمة"، وعليه فثمّة شهداء سقطوا في "الدوايمة"، وهم ليسوا من أهلها، ولم يجر أي إحصاء بشأنهم، ولا بشأن أهل "الدوايمة".