أم المجازر في ملف كامل من 3 أجزاء: مجزرة الدوايمة المغمورة تضاهي دير ياسين وكفر قاسم
(الجزء الأول)
الخلفية التاريخية
مضت فترة حوالي الأربعة أشهر على مجزرة اللد. عشرات آلاف الفلسطينيين يهربون بعد المجزرة صوب الشرق. للتو سقط مئات الشهداء بحركة بسيطة من أصبعه الأوسط وفهم القادة الميدانيون أن رابين يعني البدء بالترحيل الجماعي صوب الشرق. قرى بإكملها أخليت من أهلها، وأصبح المشهد مُلك الصهيوني المنتصر على الحيّز المكاني، وكان واضحاً أن أهم الجولات العسكرية قد حُسمت لصالح المنظمات العسكرية الصهيونية. الفارون من المجازر يدخلون إلى القرى الفلسطينية من منطقة الخليل جنوباً وحتى جنين شمالاً.
احدى تلك القرى التي نزح إليها الفارّون من المجازر كانت قرية "الدوايمة".
الدوايمة- البلدة
تبعد "الدوايمة" عن مدينة الخليل نحو سبعة وعشرين كيلومتراً، وتقع على السفوح الغربية لجبال الخليل، وترتفع عن سطح البحر 350 متراً. وقد بلغ عدد سكانها عام 1948، 4300 نسمة (رغم أن بعض المصادر ذكرت أن عدد سكانها بلغ 2000 نسمة)، وتضاعف عدد سكانها نتيجة نزوح اللاجئين إليها في أعقاب مجزرة اللد، وبلغت مساحة أراضيها نحو 60585 دونماً.
وتعرف بالمكانة التجارية كونها تقع في منطقة استراتيجية بالنسبة للمدن الكبرى الثلاث.
بعد إعلان قيام "إسرائيل"، وهزيمة "الجيوش العربية"، وانتصارات المنظمات العسكرية الصهيونية، زادت شهيّة الأخيرة للتوسع أكثر نحو الشمال، والجنوب، والشرق، وكانت منطقة الدوايمة الأقرب نحو الشرق، بهدف خلق واقع جديد يُستثمر في اتفاقيات إطلاق النار المفترضة، بشروط أفضل.
تجدر الإشارة إلى أنه بتاريخ تنفيذ مجزرة الدوايمة في 1948\10\29، كان قد مضى حوالي ستة أشهر على إعلان قيام "دولة اسرائيل"، ودمج المنظمات العسكرية الصهيونية، في ما سيسمى ب "جيش الدفاع الإسرائيلي"، وعلى رأسها منظمتي "الليحي" (شتيرن)، و"الارغون"، و"الهاجاناه"، وقوّتها الضاربة "البالماخ"، وجميعها متورّط بأبشع المجازر في اللد، وعين الزيتون، ودير ياسين، والطنطوره وغيرها الكثير من المجازر التي تعتبر جرائم دولة بحق الإنسانية، وجرائم حرب وفق المعاهدات الدولية، وعلى رأسها اتفاقيات "لاهاي".
خصوصية مجزرة الدوايمة ومصادر المعلومات
صحيح أن مجزرة الدوايمة تجمع العديد من القواسم المشتركة مع العديد من المجازر التي اقترفت بحق الشعب الفلسطيني، ولكنها تتميز بخصوصية كونها أكثر المجازر التي وُظفت فيها كل الأساليب الوحشية البربرية من قبل جنود في جيش نظامي أُعلن نشوؤه قبل 5 أشهر، ولكنه في الواقع هو عبارة عن خليط من مجموعات إرهابية تمرست أسلوب المجازر.
في هذه المجزره حدث كل ما يمكن تصوّره من تكسير جماجم الأطفال بالعصي، وأعقاب البنادق، وإطلاق النار بدم بارد، والضحايا واقفون في طوابير ينتظرون لحظة الموت من الرشاشات على قارعة الطريق، أو داخل المسجد، او في الكهوف، وتمثيلاً بالجثث، ودفنها في قبور جماعية.
ما يميّز هذه المجزرة أيضاً أن الجميع، ذوو الضحايا ومنفّذو الجريمة والمراقبون الدوليون، التزموا الصمت، أو مارسوا كل ما يمكن لإخفاء معالم الجريمة، كل من منطلقاته. والغريب كيف أمكن التستّر لأكثر من خمسين عاماً على هذه الجريمة؟
يقول بروفيسور ايلان بابة، والذي ألّف عدة اصدارات بشأن النكبة الفلسطينية، وصاحب كتاب "التطهير العرقي في فلسطين" بأن حقيقة ما جرى في الدوايمة بتاريخ 1948\10\29 ، موجودة في ثلاثة مصادر: الأرشيف الصهيوني، أرشيف الأمم المتحدة، وما هو "حبيس في صدور الفلسطينيين".
مجزرة الدوايمة في المصادر الصهيونية والإسرائيلية
إن أهم المقالات التي كتبت في هذا الشأن، من وجهة نظر الباحثين الأكاديميين الإسرائيليين، هي مقالة كتبها قبل عام "يائير اورون"، وجاء فيها أيضاً بأن مجزرة الدوايمة قد وقعت يوم 29 من شهر تشرين الأول\أوكتوبر لعام 1948، خلال "عملية يؤاب" التي نفذها الجيش الإسرائيلي، وأدت إلى نزوح سكاني كثيف عن المنطقة، وهو ينقل عن لسان إحد الذين شاركوا في الهجوم على القرية أن نحو 80_100 شخص، بينهم نساء وأولاد، قتلوا جراء موجة الهجوم الأول على القرية، دون أن تواجه القوات التي اجتاحت القرية أي مقاومة.
كان ذلك ظهيرة يوم الجمعة، وقتل بنتيجة المجزرة حوالي 170 شخصاً من أبناء القرية.
من الجدير بالذكر أن أحد الأصوات البارزة ضد ما تم ارتكابه في "الدوايمة"، كان صوت وزير الزراعة الإسرائيلي حينذاك، "اهرون تسيزلنغ"، ممثّل حزب "مبّام" في الحكومة، والذي أدلى بإحدى التصريحات الأكثر خطورة التي لم يُسمع مثيل لها على الإطلاق حول مائدة الحكومة، حيث قال في جلسة 17 من تشرين الثاني/نوفمبر 1948:
"تلقيت رسالة من شخص واحد فيما يتعلق بهذا الموضوع... لم يغمض لي جفن طوال الليل. شعرت أن شيئاً ما قد حدث، تأذّت له روحي، وروح بيتي، وأرواحنا جميعاً هنا. لم أستطع أن أتصور من أين آتينا، وإلى أين نحن ذاهبون... مثل هذه الأفعال النازية ارتكبت على أيدي يهود، وهو أمر هز كياني بأكمله".
هذه الأقوال قالها "تسيزلنغ" في أعقاب رسالة بعث بها جندي اسمه "شبتاي كابلان" إلى رئيس تحرير صحيفة "عل _همشمار"، "اليعزر بيري" ، بتاريخ 1948\11\8، وتحدث فيها عن مذبحة "الدوايمة"، ومما جاء فيها:
"قرأت اليوم المقالة الإفتتاحية لصحيفة "عل _همشمار "، والتي نوقشت فيها مسألة سلوك جيشناً الذي يستطيع فعل كل شيء ما عدا كبح جماح غرائزه. إليك شهادة نقلها لي جندي تواجد في "الدوايمة" غداة احتلالها.. لقد قتلت طلائع المحتلين ما بين ثمانين ومئة عربي من النساء والأطفال. قُتلوا بسحق جماجمهم بالعصي. لم يبق بيت واحد إلا وفيه قتلى. الفوج الثاني من قوات الجيش المقتحمة للقرية، كان فصيلة ينتمي الجندي، صاحب الشهادة، إلى صفوفها.
بقي في القرية رجال، ونساء عرب، حاصرهم الجنود داخل البيوت، وتركوهم دون طعام أو شراب. بعد ذلك جاء خبراء متفجرات، واُمروا بنسف البيوت على رأس من فيها. أحد القادة أمر خبير متفجرات بإدخال امرأتين مسنتين إلى أحد البيوت المزمع نسفها على من فيها. رفض خبير المتفجرات، وقال إنه غير مستعد لتلقي الأوامر سوى من قائده المباشر . عندئذ، أمر القائد جنوده بإدخال المرأتين المسنتين لينفذ بعد ذلك هذا الفعل الدنيء. أحد الجنود تفاخر بأنه اغتصب امرأة عربية، وأطلق الرصاص عليها. كانت ثمة امرأة تحتضن طفلاً، وضعته في نفس اليوم، اُجبرت على تنظيف الساحة التي يتناول الجنود فيها طعامهم. وبعد مرور يوم أو يومين من عملها، أطلقوا الرصاص عليها، وعلى طفلها الرضيع.
ويروي الجندي أن "قادتهم، الذين يُنظر إليهم في المجتمع كأشخاص مهذبين ومتحضرين، تحولوا إلى قتلى سفلة، ولم يكن ذلك في خضم عاصفة قتال أو ثورة غضب، وإنما إنطلاقاً من نهج يقوم على الطرد والإبادة. فالمهم والمرغوب هنا بقاء أقل ما يمكن من العرب.
لقد قال لي الجندي إن (مذبحة) "دير ياسين" لا تشكل ذروة الفلتان. وهل يعقل أن نرفع صوتنا احتجاجاً على ما جرى في "دير ياسين"، وأن نصمت تجاه ما هو أفظع بكثير؟.. يجب عليكم في الصحيفة أن لا تمروا على هذه القضية، طالما كان ذلك ممكنا، مرور الكرام ..
("ش . كابلن")