الحارس في المرصاد
يطأطئ والدي رأسه في الأرض، وعيناه تذرفان دمعاً، ثم يقول "لا حاجة أن تكون عميلاً حتى تخدم الاحتلال. يكفي أن تكون غبياً أو طماعا". كان الوقت قد فات، ولم يعد بالإمكان إصلاح الخطأ الفادح.
أشكر ربي أن جدي وجدتي قد توفيا قبل أن يشاهدا ما حصل بين والدي وأعمامي. أحيانا أخشى أنهما يشاهدان ما يحصل من مكانهم البعيد، فيعتصران ألماً وخجلا، لكني أطمئن نفسي أن الأمر غير ممكن، فلو كان الأمر ممكنًا لتوفيا قهراً ألف مرة من جديد.
كانت جدتي على ثقة أن المحبة والثقة ستدوم مدى الحياة بين أولادها الثلاثة حسن وحسين ومحسن، وأن حسن وحسين سيحافظان على حقوق أخيهم الصغير محسن، فهي التي ربتهم على المحبة والعطاء، ولم تبخل عليهم في حياتها، فعلاقتها مع جدي كانت مثالاً للحب، والثقة، والاحترام الذي لا ينتهي. لم يكن جدي يمشي أمام جدتي حين يكونا في طريقهما إلى مكان ما، بل كان يمسك بيدها، ولم يمنعه من ذلك غمز ولمز الجيران.
أما جدي، فرغم ثقته بأولاده الثلاثة، إلا أنه كان يقول لجدتي إنه يخشى أن يوسوس الشيطان في صدروهم، ولا يضر أن يوقع حسن وحسين على مستند يضمن حقوق أخيهم. لم تنظر جدتي بعين الرضا لهذا الطلب فتقول إن المحبة والتربية الصالحة هي الضمان، وليست الورقة، لكن إصرار جدي حسم الموقف.
كان جدي يملك بيت حجر كبير، ومساحات شاسعة من الأراضي، ورثها عن أبيه، ولم يفرط يوماً بشبر منها حتى عندما ضاقت عليه الدنيا وضاقت معيشته، وضاق رزقه. كان يقول إن الأرض مثل العرض لا نفرط بهما. كان مزارعاً نشيطاً يحرث الأرض، ويزرعها، يخلص لها، وتخلص له، وكان يخصص جزءاً من مردودها إلى الثوار الذين يحاربون الصهاينة، فهم أصحاب حق لأنهم يدافعون عنها بأرواحهم - هكذا كان يقول.
عمر والدي آنذاك أربعة عشر عاما. كان يقوم بزيارة بيت خاله الموجود في أطراف البلدة. فجأة بدأ سماع دوي إطلاق النار. أخبار المجازر التي ارتكبتها العصابات الصهيونية كانت قد انتشرت في البلدة، وبثت الرعب في نفوس الأهالي. مع اقتراب الصهاينة، قرر خال والدي مغادرة البلدة مع عائلته إلى الشرق باتجاه الأردن، فهو المنفذ الوحيد الذي أبقاه الصهاينة مفتوحا. هناك يقضون بعض الوقت عند أقربائه حتى تهدأ الأوضاع فيعودون.
لم يكن أمام والدي إمكانية أن يعود لبيته وينضم لعائلته. قال له خاله إن الصهاينة سيقتلونه ولن يرحموه، والأفضل أن يبقى معهم حتى تهدأ الأوضاع فيعود إلى عائلته.
لم يعرف والدي أنه في الوقت الذي كان في طريقه إلى الأردن مع عائلة خاله، كان الجنود الصهاينة يعتقلون جدي، وابنه البكر حسن. كانت تهمتهم أنهم يدعمون ويأوون الثوار، وبقيت جدتي وابنها حسين وحيدين في البيت، وسط روائح الموت، ينتظران عودة جدي، وعمي حسين، ووالدي.
انتهت الحرب، وأغلقت الحدود. كانت جدتي تعرف أن ابنها محسن موجود في الاردن مع عائلة اخيها. لقد أخبرها عن ذلك كثيرون ممن رؤوهم في طريقهم إلى هناك، لكن ذلك لم يهدئ من روعها، واشتياقها لابنها الصغير. كانت تنتظر عودة صغيرها كل لحظة. لم تترك البيت أبدا. كانت تخشى أن يعود صغيرها ولا يجد أحداً في البيت.
لم يمر وقت طويل حتى وصلت جدتي أخبار جدي، وعمي حسن، أنهم بخير، وسيتم إطلاق سراحهم مع باقي المعتقلين قريباً، هكذا أخبرها الصليب الأحمر.
طال الوقت ولم يعد محسن، ولم تعد عائلة خاله. تجلس جدتي بجانب جدي في فناء بيتها الحجري ودموعها تنهمر على وجنتيها المبللتين، تتردد قليلاً، فهي تعلم أن طلبها لن يكون هينا على جدي. يضع جدي يده على يد جدتي، فتتشجع وتقول له إنها سمعت أن الصهاينة لا يرفضون طلباً لمختار البلدة الذي عينوه بعد الاحتلال. يطأطئ جدي رأسه في الأرض. لم يتخيل يوماً أنه سيطلب المساعدة من هذا المختار.
يستقبل المختار جدي وعلامات الفرح والانتصار بادية على وجهه. أما على وجه جدي فكانت تبدو علامات الخجل والقهر، لقد فهم المختار سبب الزيارة رغم أن جدي بقي ساكتا. توجه المختار إلى جدي بثقة قائلاً إن الحاكم العسكري صديقه ولا يرد له طلباً، وأن محسن سيعود.
وصل جدي برفقة المختار إلى مقر الحكم العسكري، وبعد انتظار دام أكثر من ساعتين تحت أشعة الشمس الملتهبة، سمح لهم بالدخول. بدأ المختار بكيل المديح للضابط الإسرائيلي، والتمني له بالتوفيق دون أن يعيره الضابط أي اهتمام. رد عليه وهو ينظر باتجاه جدي انه مشغول، وعليهم الدخول في موضوع زيارتهم.
لم يضع الضابط أمام جدي سوى خيار واحد، أن يتنازل عن كامل أرضه للدولة مقابل موافقتها على عودة ابنه. حاول المختار ان يقنع جدي بقبول العرض. كان الدم يغلي في عروقه لسماع هذا الكلام. الموت أقرب من قبول هذا العرض.
وأخيراً، وبعد سنة من الانتظار أوصل الصليب الأحمر رسالة خطية من محسن، يقرأ جدي الرسالة بصوت عال وحوله جدتي وأولاده حسن وحسين، يطمئن محسن أهله عن صحته، وأوضاع معيشته مع عائلة خاله، ويحدثهم عن محاولته التسلل، والعودة إلى البلدة. لم يذكر في رسالته أن الجنود الصهاينة أطلقوا عليه النار، وأصابوه في رجله. لكن جدتي كانت متأكدة من ذلك، كانت تقول أن قلب الأم دليلها.
تزوج محسن من ابنة خاله. لم يبلغ حينها العشرين عاما. كان حباً قديما ابتدأ قبل النكبة. كنت أنا البنت البكر، ومن بعدي خمس بنات بفرق عام واحد بين كل ولادة وولادة. لم يرزقا بولد. كانت علاقتي مع والدي قريبة جداً، يثق بي كثيراً ويحترم رأيي، كان يدعوني المستشارة.
أوضاعنا الاقتصادية أفضل بكثير من باقي بيوت المخيم، لم ينقصنا شيء من الطعام والملبس. كانت جدتي ترسل لوالدي كل فترة قصيرة مبلغاً من المال. كانت تقول إن هذا حقه من مردود الأرض.
كان جدي يخشى من قانون أملاك الغائبين الإسرائيلي، ويعرف أنه إذا توفي قبل أن ينقل أرضه إلى أولاده المتواجدين معه، فسوف يحصل "الحارس على أملاك الغائبين"، كما يصفه الإسرائيلي، على ثلث أرضه، أي حصة ابنه محسن في الميراث. هكذا حصل مع الكثير من العائلات التي شرد قسم من أبنائها. أصبحت دولة إسرائيل شريكة معهم في أرضهم في حصة أبنائهم المهجرين، وهذا أكثر ما يخشاه. لكن جدي كان يخشى أيضاً أن ينقل الأملاك جميعها إلى اسم حسن وحسين دون أن يضمن حصة ابنه محسن، فدولة إسرائيل لن تعمر كثيراً، هكذا كان إيمانه، وهو يريد أن يحافظ على حصة محسن لحين عودته.
توجه جدي إلى محام خبير، فأشار له أن يوقع ولداه حسن وحسين على تصريح يقران من خلاله أنهما مؤتمنان على حصة أخيهم محسن لحين يطلبها منهم، على أن يحفظ هذا المستند سراً، فإن وقع بيد السلطات فإنها ستطالب بحصة محسن للدولة.
حافظ جدي على التصريح كما يحافظ على بؤبؤ عينه، ولكنه عندما شعر أن أجله قد اقترب، أرسل التصريح لابنه محسن ليكون ضمانة لحقه في الأرض.
توفي جدي وجدتي دون أن يلتقيا مع والدي. حزن كثيراً، وبكى. نحن أيضاً حزنا وبكينا. نتذكر دائما حبهم وحنانهم. نشتاق لهم رغم أننا لم نرهم في حياتنا. حافظ أعمامي على ما كانت تقوم به جدتي. كانوا يرسلون لوالدي كل فترة مبلغاً من المال حصته في مردود الأرض. رويداً رويداً ومع مرور السنين، بدأ ينخفض المبلغ الذي يرسله أعمامي إلى والدي حتى انقطع تماما. ساءت أوضاعنا الاقتصادية، لكن أعمامي كانوا يقولون إن زراعة الأرض لم تعد مربحة.
وقعت إسرائيل والأردن اتفاقية وادي عربة، وانتشرت الأنباء أن أصحاب الأراضي الموجودين داخل إسرائيل يستطيعون نقلها على اسمهم دون أن يخشوا مصادرتها. استشار والدي رجل قانون أكد له هذا الكلام. فرح والدي وفرحنا، وأخيراً يستطيع أن يسجل أرضه على اسمه. هذا أيضاً سوف يفرح جدي وجدتي. هذه كانت وصيتهما.
حاول والدي التواصل مع إخوته للبدء في عملية نقل حصته في الأرض على اسمه، لكنهم تهربوا من الاستجابة لطلبه، كل مرة بذريعة. حضر إلى البلدة، لكنه لم يجدهم. أصابه إحباط وغضب شديدين، فليس هكذا يتصرف من أؤتمن على أمانة لأخيه.
لم يبقِ والدي طريقة لإقناع إخوته بإعادة حقه في ورثة والده. توجه إلى الأصدقاء والأقرباء، ورجال الصلح ليتدخلوا في الأمر، لكن إخوته لم يستجيبوا.
عاد والدي وقد بدا عليه كمن فقد عزيزا له، كأنه في جنازة. الحزن والغضب يملأ وجهه. كان يتوقع أن يحصل معه كل شيء إلا شيء واحد، أن يرفض إخوته إعادة الأمانة إليه.
لا يا والدي، كيف لك أن تحَكِم بينك وبين إخوتك قاض إسرائيلي!! إنه عدونا الأول، ولا أمان له. هكذا كنت أقول لوالدي، فيرد علي أن إخوته لم يبقوا أمامه أي باب آخر. لقد سدوا في وجهه كل الأبواب. إنه لن يكون شريكا بخيانة وصية والديه.
استأجر والدي خدمات محام داخل إسرائيل ليقدم دعوته في المحكمة الإسرائيلية ضد أخويه لاسترداد حقه في الأرض. لقد كلفه ذلك جميع ما ادخره طيلة حياته. أنكر إخوته حقه في الأرض بادعاءات مختلفة. قدم والدي التصريح الموقع من أخويه، والذي يقران به أنهما مؤتمنان على حصته في ورثة والده، فقرر القاضي قبول دعوته.
تقدم أعمامي حسن وحسين باستئناف إلى المحكمة العليا الإسرائيلية على القرار مما اضطر والدي لاستدانة مبلغ كبير من المال لدفعه للمحامي للدفاع عنه في الاستئناف. رفضت المحكمة العليا استئناف أعمامي، لكنها أعادت الملف إلى المحكمة المركزية ليضم الحارس على أملاك الغائبين كطرف في الملف، والاستماع إلى موقفه.
موقف "الحارس على أملاك الغائبين" يؤكد أنه هو صاحب ثلث أملاك جدي. لقد ادعى أن والدي يملك حصته منذ أن وقع أعمامي على التصريح. عندها كان والدي غائباً حسب القانون الإسرائيلي، ولم تكن اتفاقية وادي عربة موقعة. قبلت المحكمة ادعاء الحارس على أملاك الغائبين، وحكمت لصالحه بثلث أرض جدي، الأرض التي حافظ عليها جدي وجدتي بدمهم.
يطأطئ والدي رأسه في الأرض، وعيناه تذرفان دمعاً، ثم يقول "لا حاجة أن تكون عميلاً حتى تخدم الاحتلال. يكفي أن تكون غبياً أو طماعا".
كان الوقت قد فات، ولم يعد بالإمكان إصلاح الخطأ الفادح.