مسرحية "العميان" وغيرها ... هكذا يجسد الصمت الافكار
يعمل المسرح الرمزي على التعبير عما يعتمر في ذات الإنسان بأقل قدر ممكن من الكلام، حيث أنه يمنح الاعتبار للصمت كما يمنحه للكلام.
"إن ما أتطلّبه في المسرحية هو أن تُعالج الهواجِس والتوقّعات والهواتف، إنني أتطلّع إلى مسرحٍ يقوم على الأثر العميق للحظات الصمت البليغة" موريس ميترلنك.
الرمز في أبسط صورَه هو علامة أو إشارة ذات دلالات مُعينة. كما أن استخدام الرّمز يُعدّ مَلَكة أساسية في التفكير البشري، فهو وسيلة لحفظ التجارب الحسيّة البسيطة، وهو أيضاً وسيلة لاستشفاف المعاني الثابتة خلف المظاهر الحسيّة المُتغيِّرة.
على الرغم من أن المدرسة الرمزية ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر، إلا أن استخدام الرّمز في الأدب كان قديماً قِدَم الأدب نفسه، باعتباره مظهراً من مظاهر اللغة. لكن المدرسة الرمزية حاولت إعطاء الرمز وظيفة روحيّة وبُعداً مُتسامياً، بدلاً من اعتباره أحد الأساليب الفنية كالتشبيه والكناية.
يمكن القول إن الرمزيّة هي محاولة لاختراق ما وراء الواقع وصولاً إلى عالم الأفكار، فهي الفن الذي يتعامل مع ما وراء الواقع كعُمقٍ ننفذ إليه فتنكشف لنا عوالم ورؤى تُذهِل الإنسان وتهزّ كيانه. فقد آمن رامبو بأن الشاعر الحقيقي يجب أن يصبح ذا بصيرة نافِذة تخترق عالم الظواهر إلى عالم العقل الباطن والنفس الداخلية، بحيث تتكشَّف له صوَر لا يمكن للإنسان العادي أن يراها، كما عرَّف مالارميه الرمزية بأنها فن إثارة موضوع ما شيئاً فشيئاً حتى نكشف في النهاية عن حالٍ مزاجية مُعينة.
ظهرت الرمزيّة في مراحل زمنية مُتتالية، وعلى أيدي أدباء عديدين قام كل منهم على حدة ببلورة بعض المبادئ والأفكار التي كوَّنت هذا الإتجاه. أهم هذه المبادئ رفض مُحاكاة الطبيعة والاعتقاد بأن جمال العالم المحسوس هو إنعكاس للجمال العُلوي، فالطبيعة كما وصفها بودلير هي ستار يحجب العالم الروحي الحقيقي، والوسيلة الوحيدة التي تمكّننا من رؤية لمحاتٍ من هذا العالم الساحِر هو الشعر، فهو طريق الإنسان إلى المُطلَق ووسيلة لاستشفاف عالم الخلود.
كما رفض الرمزيّون أيضاً العقل وآمنوا بالخيال، باعتباره المَلَكة الوحيدة التي تُمكِّن الإنسان من إدراك الحقيقة، فقد وصف بودلير الخيال بأنه "المَلَكة التي علَّمت الإنسان منذ البدء".
حاول الرمزيّون أيضاً استكشاف مشاعر وحالات نفسية جديدة كمادةٍ للشعر في وجهتين مُتعارضتين كلياً، إما عن طريق تناول الخمور والمُخدّرات وإما طريق التصوّف والتعمّق في الروحانيات. ففي العام 1862 كتب بودلير "عملت جاهداً على تنمية جنوني، وكم كنت أحسّ بالرُعب والفرح!".
أما رامبو فاعتاد على الهلوَسة الصرفة واكتسب حساسية مُفرَطة جعلته يرى الأشياء الخفيّة، كما تعامل مع الحقيقة باعتبارها المادة الخام التي يخلق منها عالماً جديداً.
في وقتٍ لاحقٍ امتدّت الرمزيّة إلى الرواية، فكان أول ظهور لها مع هرمان هسة وآرنست جونجر، كما وصلت إلى المسرح، فكان مالارميه من أهم دُعاة المسرح الرمزي، حيث وضع نصوصاً تنظيرية للمسرح الرمزي مُتصوّراً لغة جديدة تتحرَّر من قواعد تركيب الجُمل المعروفة، وتمتزج فيها الصورة بالحركة امتزاجاً يُعبّر تعبيراً رمزياً عن الحياة الداخلية والنفسية في إطار مسرحي شعري، وستكون مهمة هذه اللغة هي مُخاطبة الخيال وتجسيد الأحلام بل وتجسيد الصمت أيضاً.
تأثّر مالارميه في أفكاره عن المسرح الرمزي تأثراً كبيراً بمؤلّف الأوبرا الموسيقار فاجنر ( 1813 - 1883 ). فقد أدرك من خلال فاجنر أن الدراما الطقسية يمكن أن تجسِّد مشاعر ومعانٍ صوفية، كما أدرك ضرورة استخدام الرقص والتصوير والموسيقى والتمثيل الصامت في تصوير أعماق النفس البشرية.
من أهم روّاد المدرسة الرمزية أيضاً الكاتِب البلجيكي الأصل موريس ميترلنك، الذي كان ميّالاً للتصوّف بطبيعته وكثيراً ما ارتاد في شبابه حلقات التنويم المغناطيسي وتحضير الأرواح، وأدَّت طبيعة ميترلنك المُتصوّفة واهتمامه بالغيبيات إلى التقائه مع الرمزيّين في الثورة على الواقعية والطبيعية والمادية والتطلّع إلى مسرح ينفذ خلال العالم المادي ليصوِّر أسرار الروح.
فقد كتب ميترلنك في العام 1896 في كتابه "كنز البسطاء" مُنادياً بضرورة إيجاد نوع جديد من الدراما التي تعتمد على تصوير المشاعر والرؤى الداخلية التي لا تتبلور إلا في لحظات الصمت وانعدام الحركة الخارجية، كما حاول في مسرحياته مثل "الدخيل" و"بلياس" وغيرهما أن يخلق هذا النوع الجديد من الدراما.
لقد نجحت مسرحياتها في مُجملها أن تجسّد رؤية خاصة تقترب من الصوفية، ولوحدة الإنسان وانعزاله وخوفه الدائم من المجهول، حيث سعى ميترلنك دائماً إلى أن "يُجسِّد الانطلاقات الروحية للنفس نحو عالم غير محسوس".
يُطلَق على مسرح ميترلنك إسم "مسرح الصمت"، الذي يستخدم الصمت والرموز والدلالات بدلاً من الكلام الصريح، بحيث يتم تمرير المعنى المُراد باطنياً.
كما دعا ميترلنك إلى الابتعاد عن كل ما يحدِّد المكان الجغرافي أو التاريخي على المسرح، لذلك نجد أنه غالباً ما يكون المسرح فارِغاً، مُعتمِداً على الإضاءة التي تشغل دوراً هاماً في العرض.
أما في ما يخصّ الشخصيات فقد حرص ميترلنك على غياب التواصل بين الممثّلين، وتحويلهم إلى كائناتٍ آليةٍ يغلب عليها الضجر وعدم القدرة على التواصل أو التعبير، بحيث يكون الصمت هو السائِد، والشخصيات كائنات مُنفعلة، تتصارع غالباً مع روحها وعوالمها الداخلية. غياب التواصل والحوار يجعل من سِمات المسرح الرمزي التواصل الموسيقي والإلقاء الترتيلي.
تُعتَبر مسرحيات ميترلنك والمسرحيات الرمزية عموماً من أصعب المسرحيات على صعيد الإخراج، حيث يكون نجاحها وقفاً على الإيقاع والإضاءة.
مثال على المسرح الرمزي مسرحية "العميان" لموريس ميترلنك التي تصوِّر حال الانتظار والخوف لمجموعةٍ من العميان، ستة رجال وست نساء وطفل معزلون على جزيرة مُترامية الأطراف، ينتظرون بخوفٍ عودة الكاهِن الذي أخرجهم من الملجأ وقادهم نحو الغابة، ثم تركهم لأجل إحضار الماء والخبز، واعداً إيّاهم بأنه سيعود ليقودهم إلى مكانٍ آمنٍ قبل شروق الشمس.
تصوِّر المسرحية حال الترقّب والقلق بين العميان وهم بعيدون عن ملجأهم الآمن، ومتروكون في غابة موحِشة، بحيث يجلسون بترقّبٍ وقلقٍ كبيرين بانتظار الكاهن، الذي يُعتَبر أملهم الوحيد في الخلاص، ومع طول الانتظار يبدأون بمشاركة أحلامهم مع بعضهم البعض، فيقول أحد العميان:"أحلم أحياناً أني أبصر"، فيرد آخر:" أنا لا أبصر إلا حين أحلم".
اعتاد المخرجون تقديم هذه المسرحية وسط الضباب وبعضهم قام بتقديمها وسط الظلام الدامِس، بحيث يدخل المُشاهِد في حالٍ قريبةٍ من حال العميان، بحيث يصبح على تماسٍ مع الترقّب والقلق الذي يعيشونه ويُعبِّرون عنه بكلماتٍ بسيطةٍ وحواراتٍ مُتقطّعة.
في المسرحية يقول أحدهم للبقية الذين ينتظرون مُخلّصهم ويترقَّبون أية خطوات قادمة: "لقد جاء يخبط على ذراعي خلال نومي قائلًا: هيا، هيا انهضوا، حان الوقت لأن الشمس عالية في السماء، هل كان ذلك حقيقياً؟ لأني لم أرَ الشمس أبداً".
فتُجيب شخصية أخرى آخر "لقد رأيت الشمس حين كنتُ صغيراً جداً"، فتردّ العمياء العجوز:" وأنا أيضاً، منذ سنوات طوال، حين كنت طفلة، ولكنني لم أعد أذكر شكلها."، فتُسرع شخصية أخرى إلى الإضافة " لماذا يريد أن نخرج كل مرة تشرق الشمس؟".
يستمر الأمر هكذا حتى يصل إليهم من بعيد نباح الكلب، الذي يأتي ويدلّهم على مكان الكاهن، الذي مات وطافت جثته في الماء. عندها يصابون بالخوف والفزع، ويبدأون بمحاولة إيجاد طريقة للعودة إلى ملجأهم، وبعد مدة طويلة يصابون باليأس ويصمتون كتعبيرٍ عن ذلك، حينها يبدأ الطفل بالبكاء، فيقول العميان:" لابدّ بأنه تمكّن من الرؤية"، عندها يبكي الطفل بشكلٍ مُضاعَف، فيقولون: لابدّ أنه رأى شيئاً". يبكي الطفل بفجعٍ أكبر، ويعرفون من بكائه أنه رأى الموت، ويردّدون برجاء: "ارأف بحالنا." وبهذا تصوّر المسرحية حال العجز الوجودي الذي يعيشونه، من دون أن يتصارعوا معه، بل يقفون أمامه صامتين ويائسين راجين منه أن يرأف بحالهم.
يستطيع الجمهور أن يستنتج الكثير من الدلالات من هذه المسرحية التي تلقي بالضوء على الإنسانية التي تتخبّط عمياء ويائسة في ظلام الوجود، ومما يتّضح أنه لا وجود للأحد الخارجية في هذه المسرحية، ربما عدا خروج العميان من الملجأ ونباح الكلب وبكاء الطفل، لكن الأهم هنا هو تصوير حالات مُعيّنة من خلال الأحداث الداخلية، المُتمثّلة في صراع الإنسان مع مصيره وخوفه من المجهول وترقّبه الدائم لمُخلّص يقوده إلى النجاة.
يعمل المسرح الرمزي على التعبير عما يعتمر في ذات الإنسان بأقل قدر ممكن من الكلام، حيث أنه يمنح الاعتبار للصمت كما يمنحه للكلام، فهو يقوم بشكل رئيسي على هذا الإيقاع للحظات الصمت البالغة.
ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك التحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]
المراجع
- الرمزية، تشارلز تشادويك
- التيارات المسرحية المُعاصرة، نهاد صليحة
- مسرحية العميان، موريس ميترلنك
he Blind. Photograph: Peter Langdown