خامنئي الشاعر متعطش لــ "كأس الحياة"

كثيرة هي الأخبار التي تحيطنا بجوانب من شخصية السيد خامنئي السياسية، لكن قلة من المقربين منه تعرفوا على خامنئي الأديب والشاعر وتمكنوا من ولوج عالمه الخاص. فعلى الرغم من ولعه بالشعر منذ أكثر من ستين عاماً، إلا أنه لا يزال يشعر بالخجل من إلقاء قصائده أمام الملأ، ويتردد في إصدار ديوانه الأول. لكن الشهر الماضي تجاوز خامنئي خجله وألقى أحدث أعماله الشعرية أمام زملائه الشعراء.

أقلع خامنئي عن التدخين ورمى غليونه عملاً بوصية سلفه الإمام الخميني

ما من جماعة بشرية سياسية أو دينية، إلا وقدست أشخاصاً بوصفهم رموزاً تتحدد بهم هويتها وتاريخها. هذا ما اختبرته أوروبا العصور الوسطى التي طوبت ملوكها قديسين بعد موتهم، وكذلك أوروبا "الديمقراطية" التي أفرزت رموزاً آخرين مثل هتلر. لا يختلف هذا الأمر في بلاد الشرق. إذ لا يزال هناك العالم المبجل والزعيم المفدى الذي يخلع عليه أتباعه من الألقاب والصفات ما لا يحصى.

لكن هؤلاء بشر مثلنا! وغالباً ما يتعمّد بعضهم التحرر من عباءة الحكم ويفرّون من قمة الهرم ولو لوقت، لممارسة هواياتهم المحببة التي يتشاركون حبها مع عامة الناس. فالرئيس الأميركي السابق باراك أوباما يهوى الطبخ والرئيس الروسي فلاديمير بوتين يعشق رياضة الجودو، فيما عرف عن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر ولعه بالتصوير والمطالعة، أما الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد فكان محباً للطيران والمطالعة، بينما يتشاطر ملوك الخليج الأموات منهم والأحياء حب الفروسية والشعر.

وإذا كانت السياسة قد أفسدت الودّ بين السعودية وجارتها إيران، إلا أن قرض الشعر جمع بين ملوكها وبين الشخصية التي سنميط اللثام عن وجهها الإنساني بعيداً مما يرسخ في ذاكرة الناس من خطاباتها ومواقفها السياسية. إنه المرشد الإيراني السيد علي خامنئي.

خامنئي ... "أمين الشعر"

خامنئي ... "أمين الشعر"

لم يكن "أمين" مجرد اسم مستعار نظم تحته السيد خامنئي القصائد في شبابه، بل كان عالمه السري، قبل أن يصبح المؤتمن على إرث ثورة الجمهورية الإيرانية عام 1979. 

يجسد المرشد الإيراني، ابن مدينة مشهد المولود عام 1939، الشخصية القيادية التي ترفض إفراط أتباعها ومبالغتهم في تبجيلها. فهو لا يتوانى في المناسبات عن معارضة ذلك علناً، ويرفض بحزم أن يلقبه أحد بــ "الإمام". كما يحرص على زيارة عوائل الشهداء والاطلاع على أوضاعهم، ويزور غير المسلمين في مناسباتهم الدينية. 

كثيرة هي الأخبار التي تحيطنا بجوانب من شخصيته السياسية، لكن قلة من المقربين منه تعرفوا على خامنئي الأديب والشاعر وتمكنوا من ولوج عالمه الخاص. فعلى الرغم من ولعه بالشعر منذ أكثر من ستين عاماً، إلا أنه لا يزال يشعر بالخجل من إلقاء قصائده أمام الملأ، ويتردد في إصدار ديوانه الأول. لكن الشهر الماضي تجاوز خامنئي خجله وألقى أحدث أعماله الشعرية أمام زملائه الشعراء.

لطالما اتهم علماء الدين بالانغلاق تجاه الفنون، وبأنهم لا يملكون نظرة واضحة في الفن، لكن خامنئي كسر هذه القاعدة بانفتاحه على الساحة الأدبية بشكل واسع. فهو من كبار الناقدين للأدب، وله ذوق نقدي يشهد له كبار الشعراء والأدباء المعاصرين الإيرانيين. 

كما أن السيد خامنئي ليس أول زعيم سياسي أو رمز ديني يعبر عن طموحات وميول أدبية، ففي التاريخ الإيراني أمثلة كثيرة ليس آخرها، الإمام الراحل الخميني الذي له العديد من الدوواين التي ما زالت تطبع في إيران ودول عربية.  

في شبابه كان يتردد خامنئي على الأندية الأدبية، وينشد الشعر، ويبدي رأيه في الشعراء القدماء والمعاصرين، وله دراسات في شعر حافظ الشيرازي وغيره من كبار الشعراء الإيرانيين. يقول نقاد ممن أطلعوا على بعض من شعر خامنئي أن أبياته لها موسيقاها الخاصة ونكهتها التي يعرفها من قرأ له. وحين كان يترجم من العربية الى الفارسية يقدم النص الفارسي بأبهى صورة وأروع ديباجة حتى يخيل للقارئ أن النص كتب بالفارسية أصلاً. فهو يتقن اللغة العربية ويصفها بــ "مفتاح كنوز المعارف الإسلامية".

يُعرف عن المرشد الإيراني أيضاً عشقه للشعر العمودي وعمالقته من أمثال أميري فيروزكوهي، لكنه لا يتعصب لهذا اللون ويؤيد الحر منه، إذ يرى أنّ من حق الشاعر أن يتحرر من القافية إن أخفقت في إظهار مشاعره، وله مع الشعر العربي حكاية طويلة. فقد قرأ لشعرائه في كل العصور وكتب وجهات نظر نقدية بشأن ما قرأ، وأُعجب من المعاصرين بأحمد شوقي ومحمد مهدي الجواهري أكثر من غيرهما. كما قرأ لإقبال اللاهوري وكتب عنه وعن أدبه عدد من الدراسات.

خامنئي السياسي لا يقل شأناً عن خامنئي الشاعر. فقد سار على خطى نهج الشاعر العرفاني شمس الدين حافظ الشيرازي، حيث تشرب حبه من والدته التي كانت تردد قصائده، كما ابتكر دلالات جديدة لبعض المفردات الصوفية تتسم بالغموض لكنها تتملك الروح والحواس بشفافيتها ولغتها الآسرة، وشاعرية ألفاظها المنتقاة بعناية، وحرقة العطش فيها الحب الألهي. الحب الذي يتسرب من ثنايا كل كلمة وعبارة. ٳنها بمثابة أنشودة حشد فيها خامنئي ترسانة العشق.

وهنا آخر ما ألقاه من قصائد ذات بعد صوفي أمام زملائه الشعراء:

"تنافر الأنغام داخلي يشعرني بالاضطراب

أتمنى لو أني أستطيع الفكاك من الانشغال بالذات

إنه يجذبني إلى هذا الاتجاه وإلى الاتجاه الآخر

مثل قشة الهوس بهذا وذاك، تقلب الذات

لقد نشبتُ مخالبي في قلبي الدامي مثل ذئب هاجمت قطيعي

أحيانًا أكون نبيذاً خالصاً، وأحياناً أخرى سماً قاتلاً

أبكي من الخليط المصطنع المكون لي

أنا طفل أسند رأسي على تنورة الحب

أملاً في أن تحررني التهويدة من أناي

أنا سكران، غائب تماماً، آمين، غافل عما كان وعما سيكون

ممن أستطيع الحصول على تعويض عما تعرضت له من ظلم؟".

 

 

وهنا قصيدة أخرى ترجمها أمير طاهري: 

"بدونك قلبي لا يستقر من البكاء 

مثل الاسفند، بدونك أفلت العنان من كفي 

قلبي لم يعد ينبض من سوء الطالع 

بدونك روحي ما بلّت شفةً من كأس الحياة 

كسماء الضباب أصبحت مغموماً من الضيق 

بدونك امتلأ صدري حزنا 

نسيم الصباح لم يكن يُحضر نشيد الشوق 

بدونك ليس هنالك للبلابل مطلع ربيع 

أُغلقُ الشفة عن حكايات اليالي المظلمة 

بدونك - لو أعطيت الأمان - سينفر الدمع من العين 

كالشمع الميت ليس لدي من شرارة على اللسان 

بدونك حديثي لا يشعل النار في الروح 

صار شكلي مثل الصورة من الضيق و الانطفاء 

بدونك من الذهول لا افتح فمي 

منذ ذلك الزمان الذي أصبحت فيه مضيئاً من شعاع العشق 

بدونك أنا مثل ذرّةٍ تبحث عن الخالدين 

بدونك عقيق الصبر تحت اللسان العطشان لا يجدي 

حيث أذكر ذلك اللسان الحلو 

بدونك - لولا أن أقول آمين - لكانت خلاصة غمّ القلب 

قد أبعدتني عن الخلق إلى محراب جمكران".

خامنئي: الفن سلاح

خامنئي: الفن سلاح

لم يخف السيد الخامنئي إعجابه بالروائيين الأوروبيين والأميركيين. يؤمن بأن الرواية هي ذروة ما يقدمه الإنسان في الإبداع الأدبي، ولهذا فقد خصص يوماً في الأسبوع للقاء نخبة من الأدباء والشعراء في إيران، وشجع حركة الترجمة في البلاد متمنياً على الأدباء نشر الآداب العربية والعالمية وتداولها بين الناس، وواكب ترجمة بعضها شخصياً.

في تصريح تلفزيوني له عام 2004 قال: "في رأيي، فإن رواية البؤساء لفيكتور هوغو أفضل رواية كتبت في التاريخ"..  واعتبر الرواية الفرنسية العالمية نافذة الى الواقع العميق في حياة الغرب، ونصح جمهوراً من الكتاب والفنانين عام 1996 بقراءة الروايات ذات الاتجاهات اليسارية، مثل "عناقيد الغضب" للأميركي جون شتاينبيك.

يدعو السيد الخامنئي إلى الانفتاح على الفنون، مبدياً حرصه على اللقاء بالفنانين من مسرحيين وسينمائيين وممثلين ومخرجين. وخلال لقائه بهم يبدي آرائه في أعمالهم التي يطالها النقد. كما أنه يشدد في أغلب خطبه على أن "الفن سلاح فتاك في وجه العدو"، وله تأثير قوي على المجتمع الإيراني في ظل الحرب الناعمة التي تشنها وسائل إعلام على إيران.

فالأدب والفن بكل أشكاله يساهم برأي السيد خامنئي في "تركيز دعائم الثورة وتجديد شبابها وضخ دم جديد في أوردتها". كما يدعو إلى إنتاج الأفلام السينمائية عن "الثورة الإسلامية وفلسطين والصحوة الإسلامية، لإظهار الصورة الحقيقة التي يسعى الغرب إلى حجبها وتشويهها".

لا يرى المرشد الإيراني فرقاً بين الفنان والمقاوم، بل يعدهما وجهان لعملة واحدة في الدفاع عن القضايا العادلة والتحرر من الظلم والاحتلال، ولهذا يدعو إلى المحافظة على "الفن الهادف الذاخر بالقيم والمعاني السامية"، فالفن بالنسبة له "يخترق الحدود المادية ليستقر في وجدان المجتمعات". 

خامنئي ... يجيد العزف ويتسلق الجبال؟

خامنئي ... يجيد العزف ويتسلق الجبال؟

بروح الشباب وقوتهم يقولها "تغمرني مشاعر السرور والفرح عندما آتي إلى الجبل، وأرى كبار السن يقطعون هذه المسافات بثبات وقوة. أوصيكم ألا تنسوا الرياضة أبداً". يشجع السيد الخامنئي الجميع على ممارسة الرياضة ويقولها بلطافة: "أقل أنواع الرياضة تكلفة هي تسلق الجبال فهي لا تحتاج شراء كرة صغيرة حتى، هذا الشيء جربته بنفسي".

لم يتقيد المرشد الإيراني بالصورة النمطية لرجال الدين، في شبابه كان يجيد العزف على آلة "سه تار" وهي آلة موسيقية يستخدمها المتصوفة والدارويش، ولم يكن يرى حرجاً في حمل غليونه أثناء إلقاء محاضراته، لكن بعدما حمل على كاهله أمانة الثورة من الإمام الخميني، أقلع السيد خامنئي عن التدخين ورمى غليونه عملاً بوصية سلفه، لكنه لم يقلع عن شغفه بالشعر، الذي يحمل الكثير من الحكمة التي يتسم بها الأدب الفارسي منذ آلاف السنين. 

 

ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك التحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]