مهرجان (الجنادرية) السعودي وفن "ترويض" المثقّف
لماذا يطبّل بعض الإعلام العربي ويزمّر، احتفاء بمهرجان بدائي في دولة تعادي الثقافة والحريات وحقوق البشر ؟ ولماذا يطلقون عليه ألقاب التبجيل، وكأنه مهرجان ثقافي حقيقي يُعقد في (ألمانيا) أو (فرنسا) مثلاً ؟ رغم أن أبرز ما يقدّمه هو سباق للإبل يُسمّى سباق الهجن، مع بعض الطقوس التى تقدّس مؤسس المملكة الذي هو هنا " عبدالعزيز بن سعود " وتنسب إلى دولته التي أسّست على دماء الحجازيين، كل الحرف والمهن والمهارات والقِيَم التي توارثها شعب الجزيرة العربية منذ عهد النبي وحتى اليوم.
كيف تم ترويض (وزير عربي) للثقافة كان مشهوداً له بمواقفه وكتاباته قبل تولّيه الوزارة في بلده، ضد (الوهّابية) و(الأخونة) و(الداعشية) إلى حد الاشتباك معه ومطاردته من قِبَل هؤلاء (المتسعودين).. كيف تم ترويضه إلى حد ليس فحسب أن يحضر هذا (المهرجان) بل أن يجد في ضميره الثقافي الجرأة لأن يكيل (المديح) لتلك الثقافة الشكلية المهووسة بالتكفير ويصفها أنها غير مسبوقة في عظمَتها في التاريخ الإنساني؟.
لا يكفى هنا القول إنها مقتضيات الوظيفة (كوزير) والأوامر الرئاسية له، لأن ثمة هامشاً للموقف وللكلمة ولدور المثقف حتى لو كان وزيراً، لقد تم (وهبنة) الرجل – نسبة إلى الوهّابية- وترويضه خطوة.. خطوة.. مثله، مثل عشرات المثقّفين العرب الذين يندهش المرء حين تتم عمليات ترويضهم في مهرجان بهذا المستوى، والقيمة طيلة السنين السابقة من دون أن يقول لهم أحد.(لا)؟
في سبيلنا للإجابة على هذه الأسلة دعودنا نسجّل ما يلي:
أولاً : من المعلوم أن ما يُسمّى بمهرجان الجنادرية السعودي، يعود تاريخ إنشائه إلى العام 1985، أيام الملك الراحل فهد بن عبدالعزيز وعقدت منه 30 دورة آخرها التي تمّت هذه الأيام و(مصر) كانت هي ضيف الشرف وحضرها وزير الثقافة المصري حلمى النمنم الذي اشتهر بمقاومة (الوهّابية) قبل الوزارة، ويعقد المهرجان لمدة أسبوعين في قرية شمالي مدينة الرياض اسمها (الجنادرية)، وإليها ينتسب اسمه بعد أن كان يطلق عليه (المهرجان الوطني للتراث والثقافة) وفي المهرجان عدة أنشطة شديدة السطحية (مثل سباق الهجن – رقصة العرضة – ندوات دينية وهّابية – معرض للكتاب السلفي الوهابي وأشهرها هذا العام كتب ابن باز وابن عثيمين وآل الشيخ – حِرَف يدوية).
المهم هنا أن من يشرف عليه الحرس الوطني السعودي (يعني الأمن أو الداخلية في بلاد عربية أخرى) هنا نتوقف ونسأل ما علاقة الأمن بالثقافة؟ لا توجد إجابة رغم أن هذا البعض من المثقّفين اليساريين والقوميين ممن شاركوا في المهرجان أقام شرعيته وحياته كلها على مهاجمة (الأمن) في بلاده، فهل هي ازدواجية في الموقف أم (ترويض) نفطي تدريجي للمثقّف الحر المُلتزم، نحسب أن (المملكة) بنفطها وثرواتها نجحت فيه، ونعتقد أن الضعف الإنساني وعدم المبدئية المتأصلة لدى بعض مثقفينا هي السبب في نجاح عملية الترويض الثقافي لهم، وتحوّلهم تدريجاً إلى مدافعين شرسين عن السياسات السعودية في المنطقة وعن الثقافة (الوهّابية) بتطرّفها وداعشيتها، وهو أمر يدعو إلى الحسرة والأسى فعلاً. ثانياً : لقد تابعنا الدورات الثلاثين لمهرجان الجنادرية، وما تمخّض عنها من (منتج) ثقافي وفكري فلم نجد فعلاً ما يمكن اعتباره كذلك، بل لم نلمس ملمحاً جاداً للتغيير الثقافي في بنية جامدة، ومتطرّفة، اسمها (الوهّابية) كدعوة وأسلوب حياة لدى مَن رعى وأسّس لهكذا مهرجان حتى أن ما سُمّي بالأوبريت الغنائي الذي يُفتتح به المهرجان، ليس سوى مديحاً غنائياً (ذكوري) للأسرة السعودية الحاكمة؛ لا وجود هنا لقضايا الأمّة المركزية كفلسطين أو الإرهاب أو الحريات، لا صوت هنا للمرأة ولا دور ولا مساهمة جادّة لها، في كل الأنشطة وليس في الأوبريتات الغنائية أو إلقاء الشعر فحسب، وما يُقال عن مساهمات نسائية هذا العام (2017) كان يتم فى حجرات خاصة معزولة عن الرجال، لأن (المرأة) في ثقافة من نظّم ورعى هذا المهرجان، لا ترتقى إلى مستوى المشاركة العلنية، وهي بالأساس وفقاً للوهّابية، ناقصة عقل ودين، ولا يحقّ لها أموراً كثيرة بغير (محرم) ومنها قيادة السيارات (ثمة عشرات الفتاوى الوهّابية في هذا المجال يمكن الرجوع إليها).
إننا أمام (منتج ثقافي) شديد التواضع لمهرجان أُنفق عليه بسخاء، حتى ما يُسمّى بالدور السياحى للمهرجان هو من قبيل النكتة لأنه لا مزارات ولا سياحة حقيقية في بلاد كهذه البلاد التى تشبه (مدن الملح) كما أسماها الروائي الرائع الكبير الراحل عبدالرحمن منيف في رائعته الملحمية (مدن الملح : خمسة أجزاء) حين كان يصف تلك البلاد وحكّامها بعد ظهور النفط وهيمنة الملكية بها، وتمكّن التطرّف الديني الظلامي الطارد لكل نور وبهجة، وفي مقدمها بهجة (السياحة). ثالثاً : إن (الجنادرية) إذن، ليست مهرجاناً جاداً للثقافة والتراث (لانعدام وجودهما من الأساس في مدن الملح تلك) ولكنها أقرب إلى عمل وظيفي، يؤدّي دوراً لتصريف شحنات الفقر الثقافي في تلك البلاد، ويعمل عمل السياسة مع دول أخرى تُدعى إليه، فلربما يساهم فى إصلاح ما أفسدته تحوّلات وشطحات المملكة الأخيرة خاصة تجاه اليمن وسوريا وأخيراً مصر، والتي أفسد بعض أفراد الأسرة الحاكمة في سرعة الطلب من النظام المصري الجديد القادم بعد 30/6/2013 أن يكون تابعاً ومطيعاً مقابل ما يقدّمونه من عطايا نفطية عبر أرامكو وعبر قروض وديون وهبات مالية، فإذ بالنظام يرفض هكذا سياسات ويُصرّ على الشراكة في الأدوار وفقاً لمصلحة بلده ويُصرّ على عدم التورّط في مستنقع حربي اليمن وسوريا وهو مستنقع أنفقت فيه المملكة ما يربو على الـ (300 مليار دولار) في كلا البلدين، أفسد وليّ وليّ العهد العلاقات (محمّد بن سلمان) وحداثة عهده بالسياسة، مخططات المملكة في علاقتها بمصر، فما كان من (كبار) الأسرة الحاكمة إلا أن حاولوا إصلاح الخطأ عبر وسائل عدّة ومنها استخدام مهرجان (الجنادرية) سياسياً مع مصر؛ وفي محاولة الاستدارة والعودة عن الخطأ، لم يجدوا غير الدورة الأخيرة للمهرجان لاستخدامها في إعادة الدفء في العلاقات، فتم اختيار مصر كضيف شرف ودعوة عدد من المثقفين الذين كانوا يساريين () ووزير الثقافة (الذي كان مقاوماً للوهّابية ) إلى المهرجان ومع تكريم الكاتب الناصري القومي / محمّد سلماوي، دعوا كل هؤلاء بهدف سياسي وليس ثقافياً، لأن الذين ذهبوا لم يجدوا فكراً أو ثقافة تستحق السفر، ولم يجدوا أدباء أو نقّاداً حقيقيين لأعمالهم الأدبية، ولم يجدوا جسوراً ثقافية حقيقية تربط بين ثقافة النيل الثرية الخصبة، وثقافة الوهّابية (التي هي الأساس والمرجع هناك) شديدة الفقر والغلظة.
لقد اُستخدم المهرجان هذه المرة بين طرفي العلاقة (مصر والسعودية)، وإن كان الاستخدام السعودي أكبر، ولكنه لم ينجح في إذابة الثلوج التي تجمّد قلب هذه العلاقات، لأنها ثلوج أكبر من وزير أو أديب أو مثقّف فَقَدَ ظلّه (مع الاعتذار للرائع الراحل الأديب المصري فتحى غانم صاحب الرواية المشهورة في الأدب المصري الحديث التي تحكي عن ازدواجية المثقّف والصحافي رواية : الرجل الذي فَقَدَ ظلّه لم تنجح، لأن أسُس الخلاف أعمق وأشد وستظل عصيّة على الحل وعلى أمنيات مثقّفي البترودولار ممن شاركوا في مهرجان " الإبل"؛ الجنادرية سابقاً. رابعاً : إن من حق أي شعب في أية دولة في العالم أن يحتفل، وأن يؤسّس لمهرجانات تتّفق وثقافته وتُعبّر عن أصالته إن وجدت، ولكن أن يكون الشعب أصلاً مُغيّباً عن تلك المهرجانات، وأن تكون وزارة للأمن ولمطاردة المثقّفين وحماية الحكام من الأمراء المُخلّدين في الحكم، هي الراعية للثقافة وللمهرجان، فهذا هزل في موضع الجد.
إن ما رأيناه عبر تحليل مضمون علمي للدورات الثلاثين لمهرجان الجنادرية يقول لنا وبأمانة وموضوعية إننا أمام مهرجان " للإبل " وللنخبة الحاكمة وليس للشعب في الجزيرة العربية، ولكن القصف الإعلامي العربي المموّل سعودياً، حوَّل هذا (الفقر الثقافي) إلى (ثراء) لا أساس موضوعي له، وزيف الصورة وحرفها عن الواقع المرّ والمخالف، وإذا كان من حق رجال الأمن السعوديين ومن يحيط بهم من شعراء ومثقّفين سعوديين أو خليجيين أن يحتفوا بهذا (الفقر الثقافي) وبعمليات توظيفه إعلامياً وسياسياً في المنطقة، فإن من المعيب جداً أن ينحرف مثقّف عربي أو مسؤول (كان مثقفاً) بفكره وبوصلة روحه ليخالف تاريخه، ويخالف الحق والحقيقة، ويشارك في تزييف صورة ودور وحقيقة مهرجان الجنادرية، من المعيب الذي لن ينساه التاريخ أن يساهم المثقّف العربي الحر، في سعوَدَة فكره نفسه وترويض أدبه، ليتحوّل تدريجاً إلى (وهّابي شيوعي) أو (وهّابي ناصري وقومي)؛ إذ ماذا يستفيد المثقّف العربي الحر.. إذا كسب آل سعود، بنفطهم وإعلامهم و" جنادريتهم" وخسر نفسه؟
سؤال نحسب أن إجابته يحفظها التاريخ وهي لاتزال معلّقة في ضمير بعض مثقّفي العرب ممن شاركوا في مهرجان " الإبل " : مهرجان (الجنادرية) والله أعلم.