حواديت مصعد "عم علي" مع عادل إمام والروتين والولادة الطارئة

السلطات المصرية تقرر إخلاء مجمّع التحرير في العاصمة المصرية العام القادم و"عمّ علي" يخبر قصصاً عن عمله الطويل في المجمّع.

قرّرت السلطات المصرية إخلاء مُجمع التحرير العام القادم
وحده، لا يتأهّب "مُجمّع التحرير"، أحد أعرق وأعقد المباني الإدارية في مصر والشرق الأوسط للخروج من الخدمة بعد قرار حكومي بإخلائه، بل إن "عم علي" مسؤول عُمال المصاعد وأحد أقدم العاملين في هذا المبنى التليد يستعدّ للتقاعد أيضاً في آذار/ مارس من العام القادم بعد 4 عقود قضاها بين السماء والأرض، عايش خلالها حكايات لملايين المصريين ومواقف مع عشرات السياسيين والمشاهير في عصور مُختلفة.

 

وقرّرت السلطات المصرية إخلاء مُجمّع التحرير العام القادم وشرعت في نقل بعض الإدارات من المُجمّع الذي تأسّس في العام 1951 ويتردّد عليه نحو 100 ألف شخص يومياً، وهو ما يأتي فى إطار خطّة حكومية لتخفيف الضغط المروري عن ميدان التحرير في قلب العاصمة المصرية القاهرة.

تقاعد مُريح

"رغم حزني عند سماع الأنباء المُتداولَة عن قرب إخلاء المُجمّع إلا أنني أحمد الله أنني لن أشهد تلك اللحظة، لأنني سأكون حينها في تقاعد مُريح"، هكذا قال لـ"الميادين" علي عبدالحميد (59 عاماً) الذي كان عمله في مُجمّع التحرير في العام 1975 بمحض إرادته، بعدما خيّرته مُحافظة القاهرة بين جهات عدّة للعمل فيها إثر تعيينه بمسابقة رسمية، فاختار المُجمّع لقيمته التاريخية والأثرية.

 

وتأسّس مُجمّع التحرير بتصميم معماري فريد من شيخ المعماريين المهندس محمّد كمال إسماعيل، لتبلغ مساحته 28  ألف متر مربع وارتفاعه 55 متراً، ويتكوّن من 14 طابقاً تضمّ 1310 غرف ومكاتب تشغلها إدارات تابعة لـ41 وزارة وهيئة حكومية.

 

وعلى مدار أكثر من 40 عاماً كانت مصاعد المُجمّع الـ10 شاهد عيان على فترات هامّة في تاريخ مصر، وذاكرة حيّة لمسيرة أكبر قلعة للبيروقراطية المصرية، وفي قلبها كان "عم علي" الذي وقع الاختيار عليه للعمل مسؤولاً للمصاعد في العام 1977، بعد عامين قضاهما في أمن المُجمّع ألِفَته الوجوه خلالهما.

 

تبدو الخطوات الأولى للمصريين في رحلة مصاعد البيروقراطية بالغة الصعوبة، وهكذا كان حال علي عبدالحميد مع مصاعد المُجمّع، إذ يروي قائلاً لـ"الميادين" "في العام 1977 بدأ المُشرف القديم تدريبي على تشغيلها، والتعامل مع المواقف الطارئة مثل إخراج المواطنين عند الانقطاع المُفاجئ للتيّار الكهربائي"، لكنّه يستحضر لحظة العمل الأولى بالقول "تملّكني الرُعب في أول صعود وهبوط بين السماء والأرض بالمصعد، لكن المُشرف شجّعني وكسر حاجز الخوف داخلي واستقبلني المواطنون بترحاب".

بين السينما والواقع

ولا ينسى المصريّون أحداث فيلم "بين السماء والأرض" لمُخرج الواقعيّة الراحل صلاح أبوسيف، والذي كان حظ لأحد أحداثه مع مصاعد "لعم علي"، إذ يتذكّر لقطة الولادة في الفيلم، ويؤكّد أنها تكرّرت معه في العام 1997، ويقول "انقطع التيّار الكهربائي في لحظة آلام الولادة التي داهمت سيّدة حامل ففتحت المصعد لإصلاح العُطل"، مُضيفا "عاد التيّار الكهربائي فى نفس اللحظة التي وضعت فيها السيّدة توأماً، وأطلقت على أحد الطفلين اسم علي".

 وسط زحام شديد يستقبل "العم علي" المواطنين بابتسامته المعهودة في أحد مصاعد المُجمّع الـ10، إذ بات عنواناً لا يجهله أحد داخل أروقة المُجمّع، وعن ذلك يقول "الناس كلها تعرفني جيّداً وتحبّني من الدور الأرضي إلى الـ13، وعلى مدار تلك السنين الطوال تعاملت مع جميع فئات الشعب وركب مسؤولون بارزون معي مثل وزراء داخلية مصر السابقين عبدالحليم موسى وزكي بدر وحسن الألفي".

مزاج المصريين

ولا تنتهي حكايات البيروقراطية والروتين الحكومي في مُجمّع التحرير، نتيجة تأخّر معاملات المواطنين وسط دهاليز مكاتب الموظفين، وينعكس ذلك على الحال المزاجية للمصريين في المصعد، ويقول "العم علي" "طوال 40 عاماً أشعر بضيق الكثير من المواطنين في المصعد، مثل سيّدة أضناها الروتين لاستخراج معاش تقاعدي وهو ما يُسبّب لي ألماً شخصياً".

ورغم تغيّر طِباع المصريين الذي رصده أقدم عامل مصاعد، والتي تغيّرت وأصبحت أصعب من بدايات عمله، في ظلّ سيادة سلوك الاستعجال وسرعة الغضب، خصوصاً في محفل الروتين المصري العتيق، إلا أنه يحاول امتصاص غضب الناس ويقول "أعمل على تهدئة الراكبين بنكتة أو ابتسامة فربما تكون مُسكّناً لألامهم".

 

في الوقت نفسه، لم يتردّد "عم علي" في صناعة الفرحة أيضاً وتسهيل معاملات بعض المواطنين بحُكم علاقاته القديمة، والاحترام الذي يُكنّه الجميع له، ويروي لـ"الميادين" "اصطحبت ربّ أسرة مُعاق كان يُريد الحصول على معاش شهري إلى مسؤول بالتضامن، فما كان من المسؤول إلا أن منح هذا المُعاق مساعدة مالية من جيبه الخاص، وأنهى له إجراءات المعاش بعد بضعة أيام، فزارني المُعاق في محل عملي وشكرني"، مُضيفاً "دائماً أنصح الموظفين الذين يركبون معي يومياً بتسهيل معاملات المواطنين، والحقيقة أنهم يتقبّلون منّي النصيحة بحُكم محبّتهم لي".

وخلال رحلة مصاعد المُجمّع مع "العم علي"، والتي جرى تجديدها بالكامل 3 مرّات، تعاقب على حكم مصر 5 رؤساء بما فيهم المجلس العسكري، فيما يرى أن "أفضلهم كان الرئيس الأسبق حسني مبارك ، لأنه كان يشعر بالفقراء، رغم ما أصاب حكمه في السنين الأخيرة، لكن منذ أيام الرئيس الراحل أنور السادات تتكاثر المشاكل وشكاوى الناس".

قفشة مع الزعيم

عادل إمام للعمّ علي "يا علي، أنت أتخن واحد في مصر تجيبه الأرض"
وفي مقابل الضغوط والزِحام والروتين، فإنّ الضحكة هي عنوان لحياة "العم علي" تخطّت حدود العمل اليومي، لتداعب عرش الكوميديا المصرية، إذ جمعته قفشة شهيرة مع زعيم الكوميديا الفنّان عادل إمام خلال تصوير أحداث فيلم الإرهاب والكباب في العام 1992، حين قال له زعيم الكوميديا عند ركوبه المصعد "يا علي، أنت أتخن واحد في مصر تجيبه الأرض" فردّ "العم علي" عليه قائلاً "واتخن واحد فيها بطلّعه لفوق .. ما أنا عامل أسانسيرات".

في الوقت نفسه، يُبدي "العم علي" اعتزازاً خاصاً بفنّانين تردّدوا على المصعد وفي مُقدّمهم الفنّان الراحل سعيد صالح الذي وصفه بـ"الشهامة والسخاء"، كذلك الفنان القدير صلاح السعدني الذي رآه إنساناً متواضعاً دَمِث الخُلق. كما كان للاعبي الكرة القدامي نصيب في رحلات عم علي ومن بينهم الكابتن محمود الخطيب، والكابتن حسن حمدي رئيس النادى الأهلي السابق. 

 

وبعد هذه الرحلة الطويلة ومع ذاكرة لا تتّسع لمواقف وشخصيات عايشها عم علي بين السماء والأرض في مُجمّع التحرير، لا يحلم هذا العامل العجوز سوى بالستر من الفقر، ولم يجد رسالة يوجّهها لأحد في هذا العالم إلا لصديقه المصعد، وقال بنبرة يملأها الحزن "صعب على نفسي أن أتركك، فأنت عشرتي وبيتي، وقضيت داخلك ومع ناسك أكثر مما قضيته مع أولادي.. الوداع يا صديقي".