فيدل كاسترو "كومندانتي" الثّقافة والصفر أميّة
الكلام عن فيدل كاسترو يختلط ما بين السياسة والذكاء والثقافة. رجل يحثّك، أن تمشي لتحقيق هدفك وتدعس على الأشواك، وإن آلمك الشوك، ارقص السامبا وتعالى على الأوجاع، ونحن مُبتلون بأوجاع كثيرة في بلادنا.
كاسترو وغابريال غارسيا ماركيز
كان الكاتب والروائي "غبريال غارسيا ماركيز"
لا يُرسل بأعماله إلى المطبعة قبل أن يُطلع فيدل كاسترو عليها، لثقته الكبيرة
برأيه. الأول، هو صاحب رواية من أهمّ روايات القرن العشرين "مئة عام من
العزلة"، ثائر بنصّه، والآخر ثائر من أجل كرامته وكرامة شعبه، يقود ثورة من
أجل الخبز وضدّ ديكتاتور يهدر ثروات بلاده ويبيعها لأميركا، وكانت نتيجتها عزلة فرضتها
الأخيرة على بلاده ورضي بها شعبه وهو، مقابل الكرامة والحريّة.
لوحة لرجل استثنائي يقفز ويمشي بين الجماهير، يقف على المنبر
ويؤدّي القَسَم تحت المطر بأن يحمي الثورة، ويهزأ من تهديدات قوى عُظمى تقف على حدود
بلاده ناظرة بعين حاقِدة، حاسِدة، كفريسة تنتظر الانقضاض على فريستها. فيدل كاسترو،
شخصيّة أوحت لفنّانين كثر، وأصبح بطل الثورة، بطلاً لأفلام سينمائيّة ووثائقيّة
تحكي عنه ومشغولة به، ومنها من زوّر الحقائق وعَمِلَ على تشويه صورته.
بوش يُهدّد وفيدل يضحك
حين هدّد الرئيس الأميركي بوش بأنه سيطيح بالنّظام الكوبي
ضحك فيدل وقال: ليتذكّر بوش أنه حين هَزَمْنا باتيستا، كان عندنا ألف رجل مقابل 80
ألفاً للديكتاتور، وسوف نُحيل حياة الغازي إلى جحيم. أما مَن يعتقد نفسه بمستوى
"ذكاء" بوش، ويُصدّق أن فيدل كاسترو ظلم شعبه، حين رضي بالحصار الذي فرضته
أميركا، على أن ينفتح عليها وتُسيطر هي بالتالي على بلاده، ما عليه إلا أن يُشاهد ما
فعله بوش نفسه في العراق، حين غزاها بحجّة خلع صدّام حسين، من أجل إحلال الديمقراطيّة؛
فهلّا رأيتم ديمقراطيّة أميركا في العراق وفي أفغانستان وغيرها من البلاد، أم أنتم
لا تزالون بحاجة للشرح؟ أين هو ذاك "البوش" الآن، في أية مزرعة يعيش،
وهل يرعى أبقاره جيّداً؟ هل سمع الشاب الكوبي الذي يمشي في تشييع "الكومندانتي
فيدل" وهو يقول: لن نودّعه فهو سيبقى حيّاً في انتصار ثورتنا؟ من سيتلفّظ
بمثل هذا الكلام في بلاد العم سام حين يرحل "البوش" عن الحياة؟
ليس هدفنا أن نقوم بتحليل سياسي، لكن الكلام عن فيدل كاسترو
يختلط ما بين السياسة والذكاء والثقافة، ورجل يحثّك، أن تمشي لتحقيق هدفك وتدعس على
الأشواك، وإن آلمك الشوك، ارقص السامبا وتعالى على الأوجاع، ونحن مُبتلون بأوجاع
كثيرة في بلادنا، خاصّة أوجاع التلوّث المحميّة منه كوبا، بسبب عزلتها؛ تلوّث
ثقافي عالي المستوى، فبإمكانك أن تعدّ ولن تنتهي، من انفتاح ملوّث في الثقافة وفي كل
ما هو إنساني، إلى درجة أنهم وصلوا بنا إلى مرحلة أن يعملوا على تطبيق أفلام رعبهم
الهوليووديّة على ساحتنا العربيّة.
مارتن لوثر كينغ حَلُم وفيدل حقّق الحلم
كتب كاسترو عن أفكاره الثورية
حلم مارتن لوثر كينغ أن تعمّ العدالة والمساواة بين
البشر، حين كان الرجل الأسود يعاني من عذابات جلاّده الأميركي ومُستعبده، فأتوا
بحاكم من بني جلدته "أوباما"، ليجلد العالم بسوطهم، وشرطته لا تزال تقتل
الرجل الأسود بسبب ذاك الداء "العنصريّة" الذي لن يتخلّصوا منه أبداً،
بينما فيدل ورفاقه حقّقوا الحلم وانتصرت ثورتهم، وهم أسياد في بلادهم لا يستعمرهم
ولا يستعبدهم أحد. ليت مَن في بلادنا يتعلّمون ما كانت تتلفّظ به الجدّة من حكمة
"على قدر بساطك، مدّ رجليك"، وهذا لا يحدّ من الطّموح لكنه يوسّع من
مساحة الكبرياء.
كان زعيم الثّورة الكوبيّة يُمضي أوقاته بالكتابة عن
أفكاره الثوريّة، وحين اعتُقل من قِبَل الديكتاتور "باتيستا" كتب كتابه
الشهير "التاريخ سيُنصفني". لا نجاح لثورة، إن لم تُرفَق بثورة ثقافيّة،
وثقافة الولاء للوطن وللإنسان وللكرامة.
نحن لا نكتب شعراً حين نتكلّم عن فيدل، لكن قصّة
هذا الثائر فيها شيء من الشعر، من تركيبة دراميّة مُلهمة. لم يُصارع كاسترو طواحين
الهواء كما فعل دونكيشوت، بطل الروائي الإسباني ثيربانتيس، بل صمد هو وشعبه في حرب
العزلة عن العالم التي فرضتها عليهم أكبر دولة مُهيمنة. كيف استطاع أن يُحافظ على
ثورته؟ الجواب هو، بالعمل على توعية الشّعب وتثقيفه. بنى المدارس والجامعات ليبني
شعباً حراً واعياً مثقّفاً. وجعل التعليم مجّانياً، كذلك الاستشفاء. ولم تعد
المرأة سلعة السائح الأميركي، بل أصبحت مؤهّلة ومتساوية بالثّقافة وبالعمل جنباً
إلى جنب مع الرجل، وإنجازات كثيرة لم تعد مخفيّة على أحد؛ بينما في بلادنا فقد
أوصلنا فساد الحُكّام التّابعون لأميركا وحلفائها، وعدوّة الثائرين ككاسترو ورفيق
دربه تشي غيفارا والشّعب الكوبي بأسره، إلى أن تكون المرأة سبيّة، مُباعة بسوق
النخاسة، مُغتصبَة يتيمة، أرملة، أمّاً مفجوعة وإلخ.. وإن صرخنا لشعبنا أن يستيقظ،
فكيف يُجيب وأمعاؤه خاوية، وليس من فُرَص للتعلّم والعمل بكرامة؟!
"ديكتاتور" وإسرائيل سُخرية العصر
في بلادنا، الحُكّام فاسدون، يعملون على تجهيل شعوبهم
باجتهاد مُنقطع النّظير. العلم تكلفته باهظة الثّمن أمّا في كوبا ومن نتائج ثورتها
أن الأميّة أصبحت صفراً، لأن العلم مجّاني، ويتخرّج فيها أفضل أجهزة طبيّة في
العالم، أمّا في بلادنا فالأدمغة تُهاجر، وأحياناً تتعرّض للاغتيال. في بلادنا،
الأدوية مزوّرة وفاسدة، أما في كوبا فيصنّعون أفضل لقاحات وأفضل نوعيّة أدوية.
في بلادنا انتشرت النرجيلة انتشاراً صاعِقاً بسبب البطالة
وقلّة الوعي عند الناس، فأصبح الأولاد يدخنوها
قبل الكِبار، جالسين لساعات طويلة خمولين، بينما بلد الثوّار يُخرّج أهم الرياضيين
في العالم، فالعقل السّليم في الجسم السّليم. في بلادنا انتشرت المُخدّرات لتخدير
الشعوب، وجعلت الشباب والرجال غائبين عن الوعي، يسفكون دماء أهلهم بلا رحمة، ورغم
ذلك، ترتفع بعض الأصوات، موجّهة إصبع الاتّهام إلى الثّائر الكوبي، واصفة إيّاه
بالديكتاتور، وهم لا ينقصهم إلا "ديكتاتور" مثله يعلّمهم معنى وقيمة
الوطن، هم مَن يتجاهلون أن أعداء هذا الرجل أوصلوا بلادنا إلى الهاوية. وطُرفة أو
سُخرية العصر أن إسرائيل نَعَتَتْ كاسترو بالديكتاتور!؟
فيدل لعبة قمار خاسرة لأهل لاس فيغاس
استعادت الأرض ابنها الثائر واحتضنته
كل رئيس اعتلى مقعد الرئاسة في أميركا جرّب حظّه بقيامه بمحاولات
عدّة لاغتيال فيدل كاسترو، وكأنهم يلعبون القمار في لاس فيغاس، ويصل عدد المحاولات
إلى 638 محاولة، ماذا يعني ذلك؟ هل رؤساء أميركا لا ينامون الليل بسبب قلقهم على الشّعب الكوبي، ولماذا لم
تتم عمليّة اغتيال واحدة، من قِبَل الشعب نفسه، وهو الذي يمشي بلا حراسة ويعيش
حياته بشكل طبيعي؟ أسئلة تُطرح على المحلّلين الأذكياء، وفي بلادهم يُكلّف كل
سياسي لحراسته الشخصيّة ميزانيّة تطعم عائلات.
في بلاد العم
سام تتبختر عارِضات الأزياء في أجسامهن النّحيلة التي تشبه عيدان
"الكوردون" محرومات من وجبة لذيذة، وكأن الثّوب الذي تلبسنه لا يكون
لائقاً بها إن هي تناولت وجبتها كباقي البشر، بينما في بلاد الثوّار، لا يحلمون
بعارضات أزياء ولا بحوريّات عِين، بل المشاركة وحب الحياة هما الأساس.
في كوبا ثوّار وفي بلادنا مقاومون
كيف كانت ستستمرّ الثورة الكوبيّة 50 عاماً لو لم يكن
هناك من شعب واع مؤمن وفيّ، يدعم ثورته وزعيمه بالإيمان وبالتمسّك بالكرامة وحب
الوطن؟ الفرق بين المقاومة في بلادنا وثورة "كوبا فيدل"، أن في بلادنا الشّعب
مُنقسم على تحديد عدوّه وفكرة مقاومته، وبعضهم عملاء ويُجهر بعمالته ولا من يُحاسِب،
أما في كوبا فتتمّ محاكمة العُملاء، محاكمة قاسية تصل إلى الإعدام.
الشّعب الكوبي ليس مُلحداً، لكنه يعيش حياة مدنيّة وحكومة
تؤمن بالعدالة الاجتماعيّة؛ وبما أن في بلادنا لا أمل من ثورة، بل هي مغامرة لا
تُحتسب عقباها بسبب الانقسامات، فعلى المقاومة أن تنفتح على جمهورها المدني المؤمن
بها، بتحقيق بعض الخدمات الأساسيّة له، ولا تبقى منحصرة ضمن بيئتها فحسب، فهم
محتاجون لدعمها كما هي مُحتاجة لدعمهم، كي تتوسّع دائرتها الثقافيّة المقاوِمَة،
بشكل تلقائي.
أخيراً، استعادت الأرض ابنها الثائر واحتضنته،
"كومندانتي" فيدل كاسترو، تسعة أيام انتقل رماده في أنحاء مُختلفة من
الوطن، والشعب بالملايين ألقى التحيّة، لينضم الثّائر لرفيقه تشي غيفارا، وسجّل
التّاريخ المُعاصر ثورة من أجمل الثّورات.