بيروت ذات العيون العسلية
أين العيون العسلية أين؟! أين النضرة الملائكية أين؟! أين بسمة ثغره؟
من مكان كنت تستريح فيه وتنعم بالدفء، يصلك الطعام دافئاً جاهزاً، لا حاجة لك بأن تهضمه، يصلك الهواء مصفى خالصاً لا حاجة لك لتصفيته. تستريح في صومعة هي شبه شرنقة، تظن أنها تحتويك دهراً، لكن سرعان ما يخرجونك منها.
أول خروج لك ضوءٌ قوي يلهب عينيك اللتين لا تكادان تتفتحان. تتلقى صفعةً على قفاك، ثم ينتظرون أن تبكي ليتأكدوا من أنك تتنفس، فيغدو أول شعور لك في هذه الدنيا هو الألم، وأول تفاعل لك مع الحياة هو البكاء. تتمنّى أن يكونا الأخيرين، لكنك لا تنال ذلك أبداً.
قد يحدث هذا وحولك معارك مستعرة، بين سيوف الرومان، وبنادق العثمان، وقذائف ما بين الفرنسيين والألمان، وجعجعة جنازير دبابات بدعة صهيونية أقامت بالقرب منك كياناً، وانفجارات وعدوان، ثم تنظر إليك عينان، أجمل ما ترى في أي زمان ومكان. تتذكر أنك ربما رأيتهما في موضع ما قرب ملائكة الرحمن. تومئ لك بعينيها، تحفظها وهي تحفظ حتى قطر اتساع حدقتيك، ثم يجلبون ورقة وقلماً: "مرحباً بك في لبنان!".
تحاول استيعاب بعض الأشياء، لكن مخيخك الصغير يخذلك. يقول لك: لم يحن الأوان. تشعر بالكثير من الخوف، تشعر بالجوع. "أين ذهبت صومعتي؟"، تقول في ذهنك، ثم تأتي العينان ذاتهما، فتشعر مجدداً بالأمان. تنظر إليك على أنك أجمل ما قُدِّم للدنيا في الحياة، لكنها تعلم أن الحياة لا تردُ الجميل جميلاً دوماً. تبقيك قربها، تسقيك حبها، تُمشيك على جسدها، إلى أن يصبح لك جسد يمشي، وهي لا زالت تُحدِّق بالعينين ذاتهما إلى الأحداق ذاتها. إن حضرت غمرت فؤادها، وإن غبت يكاد يختنق كأن كل أغلال الدنيا غلّته وأحكمت الأصفاد. تكبر عيناك، فتكبر عيناها وتكبر في عينيها، لا تكاد تسعك مقلتاها، ويكاد ينشقّ فؤادها من فرط تدفق الحب. هنا أول خطوة، هنا أول كلمة، هنا أول رسمة، هنا ضحكة وبسمة، هنا نما جهدي، كدّي، فلذتي، ونعمتي الأسمى. وبين الضجيج والجعجعة، اختفى!
هل رأيتموها؟ عيون، عيون عسلية، حُطت على نضرة ملائكية، محفور عليها إمارة، تحوي مغارة، هي بلاد، وطن، إمبراطورية!
يذهب السؤال في الصدى، ولا يجيب الصدى، وبين الأفرقاء والعدا، ركام مهول وردى. ينطقون، يتلون أسماء، أسماء تلو أسماء، وما بالنا بالأسماء، عيوننا هي أسامينا!
أين العيون العسلية أين؟! أين النضرة الملائكية أين؟! أين بسمة ثغره؟ فهي لي إمبراطورية!
هل من مجيب؟
لا مجيب!
فأنتم لم تعرفوا عيوننا، وإن عرفتم مؤخراً أسامينا.
عيوننا تلك التي حملتها بضعة ملائكة الرحمن، وسقتها الحب، ظل حزن، ظمأ، حرب، جعجعة، وعدوان، ماذا حلّ بها؟
أحلامنا العيون العسلية في ذاكرتها، في ذاكرتها هي الوطن. لا تنساها، تراها تحدق بكل العيون بحثاً عنها، لعلّها تجدها، لكن ماذا حلّ بها؟
عيوننا لم تعد تلك العيون. لم تعد عيوناً سقتها الحب، عيوننا تقدح شرراً وتخرج غضباً. رحل ذاك الحب، بقي الحزن، حلّ الغضب.
هل رأيتموها من قبل؟ هل نظرتم إليها طوعاً أو تمددتم ترعاً، حيث لا ترى عيونكم أبعد من أنوف علتها الصفوف، لأنكم زرعتم فيها وهماً كبر كما الخس والملفوف، ثم أخذتم صدر المكان وصرنا الضيوف!
هل جالستم يوماً متشرداً في الأحياء، وسألتموه إن كان يحب أن يعرف مذاق الخبز؟
هل جالستم يوماً منكوباً، سألتموه إن كان يحب أن يعرف شعور أن يكون في ظل سقف؟
لم تجلسوا، لم تنظروا، لم تعرفوا، ولم تفعلوا سوى اعتلاء الكراسي، فيما تجرّعنا الحروب والمآسي، وبحثت تلك المسكينة عن العيون، لتجدها في كفن جاء على تمام المقاس.
لكن العيون لا تموت!
قد تُغلق، تستريح قليلاً، لكنها ستنهض. وإن نهضت، فحذار من شرر الغضب المجتمع في الأحداق، حذار منه، فلن يبقي سوى صورة بضعة ملائكة الرحمن، وسيفقأ كل عيونكم، في كل حدقة عين منكم يجلس شيطان!