على أعتاب التحرير تركتُ ذكرى
هذه أرضنا، هؤلاء أهلنا، هكذا كان يرى الطفل. عرّج بخطواته الصغيرة الى الخيام، الى المعتقل، ينظرُ الى القضبان والقيود، هُنا احتجزوا الحق، وأرادوا إقرار البنود إلّا أن الإرادة والبندقية تصهران الفولاذ بحرارة القضية.
نمَت أظافري على وقع "عناقيد الغضب"، وكنتُ في القماط، على الشرفة، يوم نزلت شظية من أحد "العناقيد" بقربي ولم أتأذَّ- بحمد الله - لكنها تركت فيّ كثيراً من الغضب.
يخبرني أهلي أنني كنت دائماً جاحظَ العينين، برغم صغرهما، عند سماع دويّ قذيفة هنا من غارة أو مدفعية هناك، يقولون إنني أكون مذهولاً، وأنا أقول: بل كنت غاضباً.
على أعتاب أيام التحرير تركتُ ذكرى، ما كنت لأدخل دونها صدر الحياة، على تلك الأعتاب في العبّاد والخيام وبوابة فاطمة والشقيف، كان طفل ذكرياتي يتمشى، حيث لم يكُن ليُمشى.
في العبّاد مَشَت قدما هذا الطفل بين الركام الى أن وصل مرتفعاً صغيراً وأطلق شارة النصر بيديه، كان أصغر من أن يَفهم أو يُفهِم معنى اتفاق أو معاهدة، وناضجاً بما يكفي ليفهم العداوة المطلقة، المنبثقة عن حقٍ لا يُضمَر ولا ينضب ولا يذهب، متأصّل في أصالة الوجود.
هذه أرضنا، هؤلاء أهلنا، هكذا كان يرى الطفل. عرّج بخطواته الصغيرة الى الخيام، الى المعتقل، ينظرُ الى القضبان والقيود، هُنا احتجزوا الحق، وأرادوا إقرار البنود إلّا أن الإرادة والبندقية تصهران الفولاذ بحرارة القضية.
تجوّل الطفل، جولة تعليمية، وقف في غرفة الشمس، هكذا سمّوها، "عشر دقائق كل يومان". كتبوا ولجهلهم رفعوا اليوم من دون جرّه، فالصحيح يومين، فظنوا أن في احتجاز الشمس رفعاً لمداراة قضية لا أصل لها، وكنا نراها جرّاً، لأنها تجُرُّ الشمس، التي تُشرق من الجنوب. تجوّلت بين الغرف والساحة، وكانت رائحة الغُرف نتنة كمن شغلها، في حجب أقحوانة الحرية الفواحة عن سهل الوطن.
ومن الخيام الى بوابة فاطمة، حيث تقف سنابل فلسطين على بُعد أسلاك شائكة وحاجز من الصهاينة الذين كانوا يَتَلَقَّون الحجارة التي كان يرميها كل من على جهتنا والطفل معهم، فأصابه حجر من ناحية المغتصبين على كتفه، لأنهم لم يحتملوا هذا العز لنا، ولم يحتملوا وضوح الشمس التي ارتفعت دون ظلامهم.
ومشى الطفل بعد، فرأى في زاوية، جنديّين من جنود الظلام قابعَين خلف قضبان رفيعة، وحولهم الأهالي الفرحون ينظرون إليهم كأنه شُفي بعض غليلهم، اقترب الطفل، حدّق قليلًا، ثم تفّ أمام الصهيونية، هذه البدعة تثير اشمئزاز فطرته، تثير اشمئزاز طفولته وإنسانيته، لا مكان لها في قاموسه الذي كان لا يزال يتعرّف إليه في الخامسة، لا مكان لها، لا أصل لها ولا امتداد لها.