حين أصيبت بيروتُ في مقتل
عام على انفجار مرفأ بيروت، هل رأيت كيف تنفجر سنبلة؟ عام على الجرح المفتوح الذي لم يضمده جواب. هل سمعت عن الحكايات التي تبقى بلا نهاية؟ بيروت مثالاً.
شيء ما حدث.
عندما نحاول الحديث عنه، نقول إنه الألم ربما أو الفاجعة، بل الكارثة والمعاناة والكرب، ولدى آخرين المحنة والموت. نصنع له اسماً، في محاولة لشرح ما رأيناه وعشناه وما سمعنا عنه، حتى لا يظلّ كـ"المارد" الذي يطارد أحلامنا كما كنا نظنه حقاً حين كنا صغاراً.
شيء ما هبط على بيروت قبل عام. جثم فوق صدر المدينة وحشٌ كبير، جاء من وراء العنبر، من خلف إهراءات القمح. زرع الموت، وحصد أرواحاً هائمة بـ"ست الدنيا" بيروت.
في الرابع من آب/أغسطس 2020، اندلع حريق في مرفأ بيروت، تلاه انفجار وصلت أصداؤه إلى كل مكان. تردد صدى الكارثة الذي ينذر بالمعاناة إلى آذان المقيم والعابر والزائر والسائح. وصل الصوت إلى جزيرة قبرص المحاذية للبنان، والخبر إلى أرجاء العالم.
انفجار في بيروت ألحق دماراً جنونياً بها. كان جنونيّاً بشكل لا توصف فداحته، كأن الحرب وقعت في بيروت وتكثفت زمنياً، فلم تطُل سوى ثوانٍ معدودة، ثم تغير كل شيء.
معظم الأحياء الشرقية للعاصمة اللبنانية تدمر. اقتُلعت أرواح مرّت صدفة في المكان، وأخرى كانت تزوره كل يوم. أكثر من 200 شهيد ارتقوا بعد أن علا صوت الانفجار، وأصيب الآلاف بجراح، بينهم الأب والأم والأخ والرفيق والحبيب والزوج والصديق. أبواب ونوافذ لا تحصى في المدينة وضواحيها شرّعت على الموت ولم تحفظ حرمتها. أحياء بأكملها تعرّضت للتدمير. تجرّع الجميع الألم. أصيبت بيروت في مقتل.
بعد الانفجار الكبير، سمعنا بعلي مشيك وعلي صوان وجان مارك بونفيس وشربل متّى وغيرهم. مات أحدهم لأنه ذهب ليصطاد السمك في المرفأ، وما علم أن البحر غريمه، ومات آخر لأنه اندفع لتصوير ما يحدث في المرفأ، فكان المشهد الأخير.
آلاف القصص لا يستطيع هذا القلب تحمّلها دفعة واحدة.. زوجة الشهيد محمد عباس الذي أتى إلى لبنان ليلة الانفجار ليتعالج من تداعيات فيروس "كورونا"، فاستشهد في المستشفى، تحكي كيف يتطلع طفلها الصغير كل يوم إلى السماء ليرسل قبلة إلى والده.
أم الشهيد حمد العطار التي أبكت الدنيا حين سألها المراسل عن ابنها، ليرى إذا كان من بين الشهداء، فأجابته: "ابني حلو ومليح وعيونو عسلية"، ما زالت حتى اليوم ترى ابنها الجميل صاحب العينين العسليتين أجمل الشبّان، وتنتظر أن ينتهي العمر لتلقاه ربما في مكان ما.
أحد الأطفال (12 عاماً) الذي استشهد والده بانفجار المرفأ، يقول: "توقفتُ عن استخدام الألوان في الرسوم التي تعكس مسار حياتي منذ الرابع من آب/أغسطس، لأن كل شيء تغير في ذلك اليوم". خلّف انفجار المرفأ الكثير من القصص التي لم تكتب لها النهايات بعد.
كتّاب الروايات لن يكتبوا بعد آب/أغسطس رواية عن لبنان من دون ذكر ما حدث في بيروت. المعالجون النفسيون ما زالوا يسمعون أنيناً دفيناً كل يوم في غرف الاعتراف المغلقة. ما زلنا نتحدث عن الانفجار كأنه حدث اليوم، كأنه ما زال يحدث. علماء الزلازل قالوا إن ضغط الانفجار يعادل زلزالاً بقوة 3.3 درجات على مقياس ريختر. كم يعادل هذا الزلزال لو قسناه على قلوب البشر وقدرتهم على التحمّل؟
بعد عام، لم يعلن لبنان بشكل رسمي نتائج التحقيق في الانفجار. لم يعلم أهالي الضحايا لماذا كتب عليهم أن يكونوا "أهالي ضحايا" وعوائل شهداء وجرحى ومنكوبين، ولم يعرف أحد حتى اللحظة ماذا حدث يوم الثلاثاء عند الساعة السادسة في مرفأ بيروت.
وإذا صحّت مقولة إن الضحايا هم الذين بقوا على قيد الحياة، فإن أهاليهم يحملون المعاناة على ظهورهم. يجوبون الطرقات بحثاً عن ماهية "الشيء المروّع" الذي وقع في بيروت، على أمل ألا تضيع كل هذه الدماء عبثاً.