الانتخابات الإسرائيليّة: اليمين يقتل رابين مجدداً.. "وإسرائيل" أمام مفترق تاريخي
قد تُعزى سيطرة اليمين الصهيوني على المشهد السياسي الداخلي في "إسرائيل" إلى جملة من العوامل والمسببات الذاتية والموضوعية، أهمها انكشاف عورة البديل اليساري.
مرت قبل أيام الذكرى السابعة والعشرون لأكبر انتصار لليمين الصهيوني، المتمثل بإعادة الصياغة الإستراتيجية للمشهد السياسي في "إسرائيل" عبر اغتيال رئيس الحكومة الصهيونية عن حزب العمل إسحاق رابين على يد أحد متطرفي "الصهيونية الدينية" يغئال عمير.
بالتزامن مع هذه الذكرى، تكشّفت نتائج الانتخابات الأخيرة للكنيست الصهيوني، التي انتهت بانتصار كبير للتكتّل اليميني الداعم لرئيس الحكومة السابق بنيامين نتنياهو.
هذا الانتصار مسجل في الأساس على اسم الأحزاب الحريدية وحزب "الصهيونية الدينية"، وهي أحزاب يترأسها أصحاب سوابق جنائية أو مجموعة من ملاحَقي الشباك وعتاة المتطرفين، أبرزهم إيتمار بن غفير، المستوطن المتطرف والعنصري المتحدر من مستوطنة "كريات أربع"، الَّذي بدأ نشاطه السياسي مبكراً كفتى في إطار التظاهرات الرافضة لاتفاقية "أوسلو" التي مهّدت الأجواء لاغتيال رابين.
يثير ذلك التزامن تساؤلات عميقة عن شكل التحوّلات وقبلة توجهات المشروع الصهيوني خلال السنوات القادمة، ويثير أيضاً سيلاً من الأسئلة المقابلة عما تبقّى من رفات مشروع "السلام" الذي بشّر به رابين وبيرتس، وقامرت لأجله منظمة التحرير الفلسطينية بمخزون نضالات شعبنا على مدار عقود الثورة والانتفاضة.
من الواضح أنَّ الصهيونية المولودة في كنف الأنوار والحداثة الأوروبية، والتي استعارت من حاضنتها الغربية قيم المركزانية ودورس الاستعمار و"حلي العقلانية والديمقراطية والبراغماتية" كأدوات عمل لازمة لنجاح مشروعها، أخذت تتشكَّل على واقع تجسيدها في قالب مشروع "الدولة إسرائيل".
وقد بدأت تأخذ شكلها النهائي وفق شروط هذا الكيان الذاتية والموضوعية ومركباته، والمجتمع الصهيوني اليوم مجتمع يميني متطرف بأغلبيته ومؤمن من رأسه حتى أخمص قدميه بالقوة كفلسفة أداة مطلقة لتحقيق التفوق والسيادة العرقية لليهود، ومحو الوجود العربي الفلسطيني، والوصول إلى التفوق الإستراتيجي إقليمياً، وتجسيد ذلك عبر جرّ دول المحيط إلى حظيرة التطبيع مع الكيان الصهيوني، كظاهرة تسليم واعتراف للغلبة المطلقة للصهيونية، وكإشهار للهزيمة المطلقة والإذعان لكلِّ أولئك المطبعين.
قد تُعزى سيطرة اليمين الصهيوني على المشهد السياسي الداخلي في "إسرائيل" إلى جملة من العوامل والمسببات الذاتية والموضوعية، أهمها انكشاف عورة البديل اليساري، وهو انكشاف أكثر من كونه إخفاقاً، إذ قاد إليه نفاق ذلك اليسار وازدواجيته من حيث كونه يميناً في السلوك والممارسة، ويساراً في الشعار ولغة الخطاب، وخصوصاً في كل ما يتعلق بالمنظور الجوهري والصراع والحلول المقدمة له، وهو يسار فقط في القضايا المرتبطة بالهوية وحرية اليهود في "دولتهم".
ومن الأسباب الموضوعيّة للانتصار اليميني هو حقيقة الإخفاق التاريخي لمنظمة التحرير الفلسطينية، التي أسلمت قيادها لسلطة الحكم الذاتي، وارتضت بالدور المجاني كحارس لأمن الكيان الصهيوني، وهي تمارس هذا الدور "بورع وأمانة"، بكل فروضه وواجباته، من تعاون وتنسيق أمني ومبادرة إلى تصفية كل فعلٍ أو حالة مقاومة. ولعلَّ إسهام سلطة الحكم الذاتي في تصفية ظاهرة "عرين الأسود" في نابلس أحدث الشواهد على ذلك.
وهناك سبب أعمق لاكتشاف تطرّف المجتمع الصهيوني، يتمثّل بحقيقة كون "إسرائيل" تجسيداً صارخاً لسياسة القوة الدولية، والقوة هي الفلسفة العملية التي تقوم عليها نظرة اليمين ورؤاه السياسية.
مثل هذه القراءة يمكّننا من قياس مدى صلابة المشروع الصهيوني ووجهة تحوّلاته، عبر تتبع حالة "إسرائيل" والتحولات التي تعصف بها. وبناءً على ذلك، يمكننا القول إن نتائج الانتخابات الأخيرة تكشف عمق حالة الاضطراب وشدة الاستقطابات الداخلية، وهي حالة سينجم عنها المزيد من الخلخلة والهشاشة في البنى الأساسية الداعمة للمشروع الصهيوني، وخصوصاً في كل ما يتعلق ببراغماتيته الداخلية الماكرة، وعقلانيته وحداثته المخادعة، وديمقراطيته المزعومة.
هذه القراءة تمثّل دعوةً للمزيد من العمل على رفض المشروع الصهيوني وكلِّ المتعاونين معه ومواجهتهم والتصدّي لهم. المواجهة لم تكن في يوم من الأيام خياراً واحداً من بين جملة خيارات ممكنة، بل هي الخيار الوحيد للحفاظ على البقاء في محيط إقليمي متسارع في تداعيه وانهياره، وهي أداة الانتصار الوحيدة على المشروع الصهيوني الإحلالي والعنيف والمعادي.