أم الأسير.. حنين واشتياق وطول غياب
تأتيني أمي.. أما ومعلمة، وملهمة، وتجعلني أزهد بطول العيش لا استخفافاً به، وإنما لأني أخشى عليّ وأخجل مني إن طال عمري، وماتت أمي.
في نوبة حنين داهمته، كتب درويش إلى أمه رائعته الشهيرة "أحن إلى خبز أمي"، لتصبح نشيداً لكل فلسطيني عند تلقيه أول فروض فلسطينيته، المتعبة من مطاردة أو اعتقال أو نفي.
وفي قصيدته تلك كتب درويش عن نفسه أكثر مما كتب عن أمه، وانحاز إلى حب الحياة خجلاً من دموع أمه عليه إن هو مات.. في الحياة الفلسطينية نلحظ مراوحة الأم ما بين الأم المخاض وبين أوجاع الفراق، تقف تنتظر وليدها بشغف في قلبها لتودعه بعد حين، حتى آخر دمعة في مآقيها، وبين ولادة الفلسطيني ومماته يحضر سؤال فلسفة الأمومة الفلسطينية.
فكم تحمل الأم من الإخلاص والمحبة والتحنان والتي لا حدود ولا حصر لها؟
وكيف لهذه الكتلة المتحركة من لحم ودم أن تخبئ في دواخلها الدفينة كل تلك القيم والمشاعر المحتدمة والعظيمة؟ وما الذي يدفع أماً ويجبرها منذ ساعات الصباح الباكر وتوقظ معها آلام جسدها المعتل وعذابات روحها المنهكة من ضنك الانتظار الطويل لتسلك طريقاً معبدة بالعذاب والألم والمعاناة من شمال فلسطين إلى أقصى نقطة في جنوبها ليتسنى لها رؤية ابنها الأسير لبضع دقائق من وراء حُجب الزجاج والهاتف.
لا إجابة على تلك الأسئلة، فلا يعرف شعور الأمهات إلا الأمهات كما تقول القاعدة النسائية الشهيرة.
لكن هنا في أرض البعد والغياب تمارس الأمهات الفلسطينيات فروض الأمومة بكفاءة مريمية، فأمهاتنا لا يحسنّ الحديث عن أمومتهن، ولا تطول فينا الأزمنة أيضاً حتى ندرك عبء الانتساب إلى وجعهن، وشوقهن المغزول على منوال الشقاء، وكفاءتهن بانتشال الغد في كل مرة تخطفه فيها مخبوءات الليل الطويل.
أمي تأتيني زائرة في السجن، لا لرؤيتي فقط، وإنما لتذكيري أن بإمكاني أنسنة سجني، فحينما يعمر غربته وجهها المقمر وتكسر وحشته روحها الندية، تدعوني أمي أن أتشبث بأهداب الأمل بعناد المتفائلين، وأن أحارب الظلمة حتى خرق خيوط الضوء، وأن أحسن الصمود.
فالحرية على مرمى قلوب المؤمنين، وهي تبقى ممكنة وحاضرة ما دامت نزيلة الروح والإرادة لا حبيسة المكان ولا رديفة الأزمنة.
تأتيني أمي.. أما ومعلمة، وملهمة، وتجعلني أزهد بطول العيش لا استخفافاً به، وإنما لأني أخشى عليّ وأخجل مني إن طال عمري، وماتت أمي.
سلاماً إليك أمي وسلاماً لكل أمهات فلسطين..