نفق الحرية ونموذج الفلسطيني المتمرد
كانت عملية نفق الحرية بمثابة الحدث المؤسس، والذي شكل نقطة تحول وبداية مرحلة جديدة تتباين ظروفها وحيثياتها عما سبقها.
في محطات تاريخنا الفلسطيني المليء والمفعم بكل صور القتل والنفي والتهجير، هناك أحداث سطّرها الفلسطيني الثائر لتكون وقوداً تزوده بالإيمان واليقين من أن هذه المظلمة التاريخية، التي حلّت بنا، لا بد من أن يكون مصيرها الانتحار والهزيمة. أمّا المضيّ في دروب التحرير والخلاص فهو أفضل من الوقوف جانباً والانتظار عند حافة الوجع والقيد.
جاءت محطة نفق الحرية في ظل ظروف اليأس والعجز، والتي كادت تغشى نفي الفلسطيني الأسير، لكن الفلسطيني كعادته يصنع من اليأس أملاً، ويلملم جراحه ويمضي متسلحاً بإيمانه وقناعته بضرورة اجتراح المعجزات في ظل ظروف استعصاء حدوثها.
هكذا فعل المناضل والثائر والخارج عن كل ما يبعث في النفوس اليأس والقنوط، القائد محمود العارضة، صاحب مقولة "إن هذا العدو هو وحش من غبار". وهو لم يكتفِ بترداد تلك الكلمات، حتى تصبح حروفاً خاوية المعنى، كما يفعل كثيرون ممن يعشقون تكرار الكلمات، وإنما ترجم كلماته إلى فعلٍ عظيم هزّ فيه كيان الظلم والإرهاب، ووصلت ارتداداته إلى أبعد نقطة في هذا الكوكب.
كانت عملية نفق الحرية بمثابة الحدث المؤسس، والذي شكل نقطة تحول وبداية مرحلة جديدة تتباين ظروفها وحيثياتها عما سبقها. ومن أجل فهم أبعاد هذا الحدث، لا بد لنا من أن نضعه في سياق التفاعلات والتطورات في العامين الأخيرين في داخل السجون الصهيونية، وخصوصاً أن إدارة السجون، بإيعاز وتوجيه من المستوى السياسي، بدأت اتخاذ إجراءات عقابية ضد أسرى حركة الجهاد الإسلامي، بصورة خاصة، وضد كل الأسرى، بصورة عامة، تمثّلت في البداية بقرار إلغاء تنفيذ إضراب الجهاد الإسلامي في السجون.
بحيث لم يعد هناك غرف خاصة بهم، أو وجود ممثل عنهم أمام إدارة السجون، مروراً بقرارات العزل بحق أفراد الهيئة القيادية العليا، وعقوبات عامة تمثلت بتقليص مدة الفورات إلى ساعتين فقط، وفرض التنقل الإجباري بين السجون للأسرى المحكومين بالمؤبّد، وصولاً إلى تقليص مدة استخدام الحمامات.
كل هذه الإجراءات العقابية قادت ممثلي الفصائل في السجون إلى إنشاء قسم قيادي ممثل عن كل التنظيمات، والذي أطلق عليه اسم لجنة الطوارئ الوطنية العليا للحركة الأسيرة، والتي بدورها أخذت على عاتقها مواجهة هذه الهجمة الشرسة من جانب إدارة السجون، التي تستمر بأمر ما يدعى وزير الأمن القومي بن غفير، الذي اعتقد واهماً أن الانقضاض على الأسرى الفلسطينيين العزل هو ما سيُرضي جمهور المستوطنين الذين صوّتوا له.
لقد وجدت لجنة الطوارئ أن اعتماد خيار المواجهة هو ما سيشكل جبهة صمود وتحدٍّ لهجمات السجان المتتالية، والتي تهدف إلى تدفيع الأسرى ثمن فشل النظرية الأمنية والإخفاق الكبير لكل منظومات المراقبة والأمن في سجن جلبوع، الذي كان يُطلَق عليه اسم الخزنة.
واعتُمدت في سبيل ذلك جملة من الخطوات الاحتجاجية والتكتيكية، كالتمرد والعصيان والامتناع عن الخروج للفحص الأمني، والذي كان يستدعي حضور أعداد كبيرة من السجانين لإخراج الأسرى من غرفهم مقيدين، وهو ما كان يشكل استنزاف السجان، وحالة من التوتر لم يعتَد عليها. كل ذلك كان يحدث لتمهيد خطة الإضراب عن الطعام، والتي أحسن الأسرى في إشهارها ورقةً أخيرة كانت تجبر إدارة السجون على التراجع عن خطواتها العقابية، وبذلك كانت تنتهي المعركة ضد السجان منتصرة قبل أن تبدأ.
لم تقتصر النتائج الإيجابية، التي حصدها الأسرى من وقوفهم جبهة واحدة تحت إطار لجنة الطوارئ على واقع اعتقالهم فحسب، وإنما امتد ذلك أيضاً إلى ساحات المواجهة مع هذا المستعمر في الخارج، وتحديداً في جنين ونابلس وطولكرم، ومؤخراً في الخليل، إذ بدأت ظواهر الفعل المقاوم تخرج إلى النور بعد أعوام كان يسود فيها الهدوء السلبي والمُخادع.
كأنما لسان حال جيل المقاومين الجدد يقول إنه إذا استطاع الأسرى ردع السجّان ومواجهته بالملعقة مرة، وعبر الامتناع عن الطعام والتمرد والعصيان مرة أخرى، فنحن أيضاً نستطيع مواجهة هذا المستعمر وقطعان المستوطنين بالقليل من إمكاناتنا، فكانت ظاهرة المقاومة المتصاعدة تعبيراً عن انحياز الجيل الجديد إلى نموذج الفلسطيني المتمرد والثائر والرافض للإذعان، كما الأسير العنيد محمود العارضة والثائر المطارَد زكريا الزبيدي ورفاقهما.