قراءة في تبعات نفق جلبوع
إذا كان إخفاق إضراب عام 2004 قد أسس، مع عوامل أخرى، إلى العمل الفردي على مستوى الفصيل الواحد والأسير الواحد، فإن نجاح الحركة الأسيرة في أيلول/سبتمبر2021 قاد بانطلاقتها إلى آفاق جديدة.
مما لا شكّ فيه أن ثمة ارتدادات أو تداعيات على عدد من المحاور بعضها عميق الأثر، وبعضها الآخر طفيف الأثر. أما فيما يتعلق بمحور حرية الأسرى، فلا أظن أن نفق الحرية قرّب حريتهم أو بعّدها، إذ أن تحرير الأسرى يعني انتزاعهم من بين شدقَي الذئب، والذئب كما تعلمون، لا ينزع أنيابه المغروزة من لحم فريسته إلا تحت تهديد أشد ضراوة وشراسة منه.
حتى جُثمانا الأسيرين الشهيدين ناصر أبو حميد، والشيخ خضر عدنان اللذين ارتقيا إلى ربهما عز وجل وهما في السجن، وبعد نفق الحرية، لم يستطع الضغط المحلي الرسمي والشعبي والإقليمي والدولي الإفراج عنهما.
ألا يكفي هذا دليلاً على قتلهما؟
غير أن عملية النفق عززت الوعي بتوق الأسرى الغلّاب للحرية، واستعدادهم ركوب أعلى المخاطر لأجلها حتى الموت.
لكن هل هذا يكفي لتحريرهم؟
تداعيات نفق الحرية على الحركة الأسيرة عامة، وحركة الجهاد الإسلامي خاصة، كانت في غاية الأهمية والدلالة، إذ أحيت معاني وقيماً كثيرة.
وأولى هذه المعاني هي استعادة ثقة الأسرى بالعمل الجماعي الموحّد بين مركبات الحركة الوطنية الأسيرة كافة، ولا سيما أنها جاءت بعد فشل آخر عمل جماعي، وهو إضراب عام 2004 الذي كان جماعياً، والذي شكّل جرحاً نازفاً في جسد الحركة الوطنية الأسيرة وعملها الجماعي، "وضلّت أمة إن هي أرخت على جرح ماضيها كثيف الحجب"...
إذ أن إضراب عام 2004 قد خيض جماعياً وشمل كلّ الفصائل في قلاع الأسر كافة، وكان بمثابة التجربة الأولى لأسرى انتفاضة الأسرى، إذ أن الاتفاق فيه قد ورّث لديهم انطباعاً سيئاً وتصوّراً قاتماً حول العمل الجماعي، حيث بعدها لم تقم للعمل الجماعي قائمة.
فإضراب عام 2012 لم ينجح في لملمة جميع أطياف الحركة الأسيرة، فلم يحقّق مطالبه كافة، وبالطبع هناك أسباب أخرى حالت دون وحدة الإضرابات.
وكذلك إضراب عام 2017 الذي استمرّ نحو 42 يوماً، ولم ينجح هو الآخر بتحقيق مطالبه، ولم ينجح بتوحيد الفصائل.
إلى أن جاءت عملية نفق الحرية وما أعقبها من هجمة ضارية على منجزات الحركة الأسيرة المتوارثة منذ عقود، وإلى الكثير منها التي عمّدت بالدم والعرق والدمع.
مما دفع بمركبات الحركة الأسيرة كافة للاتحاد والتضامن واتخاذ إجراءات وخطوات نضالية مشتركة في القلاع كافة، ثم إعلانهم إضراباً عن الطعام في 14 أيلول/سبتمبر 2023.
ولأن إدارة السجون الغاشمة لم تألف منذ زمن طويل هذا المشهد الموحّد، فقد هالها ذهابهم موحّدين لإضراب عن الطعام، مما أفضى بها إلى الاستجابة لمطالب الإضراب والعودة بحالة الأسرى وحياتهم اليومية إلى طبيعتها، "بالطبع باستثناء أسرى الجهاد الإسلامي الذين لا يزال نصل رمحهم مغروزاً في جسدهم".
فكان هذا أول نجاح تحقّقه الحركة الأسيرة بفعل نضالي مشترك وموحّد، والنجاح بعد إخفاق الانطلاق. فإذا كان إخفاق إضراب عام 2004 قد أسس، مع عوامل أخرى، إلى العمل الفردي على مستوى الفصيل الواحد والأسير الواحد، فإن نجاح الحركة الأسيرة في أيلول/سبتمبر2021 قاد بانطلاقتها إلى آفاق جديدة: إلى إنشاء إطار تنظيمي وطني جامع، وهو لجنة الطوارئ العامة للأسرى الفلسطينيين، وهي لا تزال قائمة إلى اليوم، وخاضت بعد الـ 19 من أيلول/سبتمبر مواجهات ناجحة مع إدارات السجون، ولربما هذا يؤسس لعهد جديد للحركة الأسيرة.
أما تداعياتها في حركة الجهاد الإسلامي، فكانت في غاية الأهمية، إذ أن الهجمة عليها من قبل إدارات السجون وقد وضعتها وجهاً لوجه مع أعتى قوة وأشدّها شراسة، مع قوة "جميع الوحدات الخاصة القمعية" المتعطشة للانتقام والثأر من التنظيم الذي تسبّب في إهانتها وإذلالها أمام الرأي العام للمجتمع الاحتلالي.
فصمود أسرى الجهاد في هذه المعركة قد صلّب عودهم، وقوّى وحدتهم، وصقل تجربتهم، ولا سيما أنهم خرجوا من المعركة منتصرين بلا خسائر، حيث بات تنظيم الجهاد الإسلامي مهاب الجانب واثقاً بقدراته وذاته.
بيد أن أهم ارتداد لعملية نفق الحرية فكان النهوض بالحالة الثورية في الأرض المحتلة، حيث أحيا نفَسَ المقاومة وأذكى في نفوس الشباب شعلة الأمل.
فكان الإعلان عن تشكيل كتيبة جنين أولى ثمار نفق الحرية، ثم عرين الأسود في نابلس، وما أعقبها من تشكيل لكتيبة طولكرم وأريحا وغيرها.
فإذا لم تشكّل حتى الآن كتيبة في كل بلدة وقرية ومخيم فإن الكتيبة موجودة في قلب كلّ فلسطيني، والعرين موجود في وجدان كل طفل وشاب في هذا الوطن السليب.