انكسار المشاة: كيف هشّمت عيتا الشعب مفهوم الفن العملياتي الصهيوني؟
في عيتا الشعب، شهد الأسبوعان اللذان أعقبا عمليّة الأسر وبداية الحرب عمليّات عسكريّة محدودة من الجانب الإسرائيلي لا تخرج عن إطار الاستطلاع بالنار والتجربة في محيط البلدة الكبيرة نسبياً.
"هل تعرفون ماذا يعني طنّاً من المواد الناسفة؟". (غال هيرش، قائد الكتيبة 91 في قوات الاحتلال الإسرائيلي خلال عدوان تموز 2006).
"الجيش الإسرائيلي الذي يقال إنه لا يُهزم، رأيناه في عيتا هنا في الحضيض. كنا نراه يهرب كالخراف. يمكنك أن تعتاد أصوات القصف... ولكنك كنتَ تسمع صوت الجندي الإسرائيلي على بعد مئات الأمتار حين كان يُستهدف". (من مقابلة متلفزة مع أحد المقاومين المشاركين في معركة عيتا الشعب بعد الحرب).
سنحاول في هذا المقال، عبر عرض بعض تجلّيات مفهوم "الفن العملياتي" الإسرائيلي، إظهار كيفية تطبيقه في مختلف مسارح العمليات والحروب التي قام بها الكيان الصهيوني منذ تبنّيه هذا المفهوم، من الانتفاضة الثانية إلى حرب تمّوز وما بعدها، في محاولة لاستخلاص المسار الذي أخذه وأسباب ارتداد "الجيش" الصهيوني عنه باتجاه مفهوم أكثر عمليّة وماديّة.
"الدودة الفلسفية"
في كتابه "جيش لا مثيل له: إسرائيل كيان سياسي ملحق بجيش الدفاع"، يقدّم الكاتب الإسرائيلي (سابقاً) حاييم برشيث زابنر مقاربة ممتازة عن العلاقة بين "الجيش" الصهيوني والمجتمع الذي قام الأول بتأسيسه. الكاتب هو ضابط سابق في "الجيش" الصهيوني ومعادٍ بشدة للحركة الصهيونيّة، يتفوّق على معظم العرب حالياً في جذرية عدائه هذا، حتى يخال القارئ في بعض الأحيان أنَّه أمام كتاب لمؤلّف عربي مؤيّد لحركة التحرّر الوطني العربي.
لم يمنع ذلك الكاتبَ من تسليط الضوء على أكثر من جانب مهمّ وغائب، ليس في هذه العلاقة فحسب، بل في النظرة الفوقيّة الاستعمارية التي ينظر بها "الجيش" الصهيوني تجاه "السكّان المحليّين العرب" أيضاً، وبشكل أساسي تجاه نفسه، فيدخل في كثير من الأحيان في انحيازٍ إدراكي يمنعه من رؤية الواقع ويصدمه بشكل مضاعف عندما لا تنجح "استراتيجياته الفذّة الماكرة".
ما يهمّنا من الكتاب هنا هو العرض الَّذي قدّمه الكاتب تجاه النظريّة العسكريّة التي سمّاها مؤسّسوها الصهاينة "الفنّ العمليّاتي" (Operational art)، وهي نظريّة عسكريّة تحاول المزج بين الفلسفة ما بعد البنائية الأوروبية التي ازدهرت في القسم الثاني من القرن العشرين، والممارسة العسكريّة الاستراتيجية أو حتى التكتيكية.
يعتبر شيمون نافيه (Shimon Naveh)، وهو عميد متقاعد في "الجيش" الإسرائيلي، من أهم منظّري هذا المفهوم وآبائه. وقد كان مسؤولاً عما يسمّى "معهد بحوث النظرية العمليّاتيّة". يعرّف نافيه المفهوم بأنه "يعكس ويدمج المبادئ الأساسية لاستخدام القوة، ويوفر أساساً مشتركاً للقادة والجنود من أجل أداء أفضل لمؤسسة الجيش المعقدة". يتفاخر نافيه بأن ضبّاطه وجنوده يقرؤون أدبيات فلسفيّة متنوّعة، مثل فنّ العمارة والتنظيم المدني الحديث، في محاولة لاستخلاص مفاهيم معقّدة منها وتطبيقها على أرض الواقع، في حيّز جغرافي يتّجه أكثر وأكثر بمعاركه نحو المراكز الحضريّة.
لا تبتعد هذه المدرسة كثيراً عن مفاهيم عصرها الغربيّة. أقصد هنا نظريّة "الصدمة والترويع" (Shock & Awe) الأميركية التي درجت كثيراً في الأدبيات العسكرية في فترة ما بعد حرب الخليج، نظراً إلى النجاح الباهر الذي حقّقه طيران التحالف في هذه الحرب، وهي باختصار تُلخّص بأنها لا تعمل على ضرب العدوّ مادياً فحسب، بل على تحوير وتشويه إدراكه عن العالم والعناصر المحيطة به أيضاً، أي تلك التي تشكّل الإطار الذي يعمل به.
يتمّ ذلك عبر ضرب وسائل إيصال المعلومات التقليدية، فضلاً عن مراكز القيادة الرئيسية والوسيطة. هذا في البعد الأول. وفي البعد الثاني، إن الضربة القاسية الجويّة الأولى التي تستهدف البنية التحتية العسكريّة والمدنيّة ستكون كفيلة بترهيب الخصم وكسر عزيمته على القتال.
في عودة إلى المفهوم الإسرائيلي، فإن أفيف كوخافي، الرئيس الحالي للأركان، كان أيضاً من أهم متبنّي هذه النظريّة العمليّاتية المعقّدة (سنتكلّم عنه في القسم الأخير من المقال). كوخافي "الفيلسوف" حاول تطبيقها في اقتحام مخيّم بلاطة والحيّ القديم في نابلس في العام 2002 عبر "فتح ثقوب في الجدران". هذه الممارسة العسكريّة التقليدية ضمن حرب المدن تحوّلت إلى مفهوم فلسفي معقّد عبر "إعادة تشكيل المكان وتسييله".
في مقابلة مع إيال وايزمان، المسؤول عن عمليات "الجيش" الإسرائيلي على جنين أيضاً في العام 2002، يعبّر الرجل بشكل أوضح عن مفاهيم هذه النظريّة بقوله: "السؤال هو: كيف تفسر الزقاق؟ فسرنا الزقاق على أنه مكان يمنع السير فيه، والباب كمكان يُمنع المرور من خلاله، والنافذة كمكان يمنع النظر من خلاله، لأن سلاحاً ينتظرنا في الزقاق، وهناك مصيدة مفخخة تنتظرنا خلفنا… كنّا مثل الدودة التي تأكل طريقها إلى الأمام، وتظهر في نقاط ثم تختفي...". يبدو المشهد وكأن "الجيش" الإسرائيلي باختصار قام باختراع نظريّة كلاميّة فلسفيّة، طعّمها بمفاهيم معقّدة، ومن ثمّ قام بالثناء على نفسه والتربيت على كتفه على عمله "الفذّ".
لم تلقَ هذه النظريّة الكثير من النجاح في حرب تمّوز التي تلت معارك الانتفاضة الفلسطينيّة؛ المعارك التي كان الصهاينة يخوضونها ضد خصمٍ يبلغ في التفاوت الماديّ والعسكريّ حجماً مهولاً. يعبّر إيال نافيه نفسه بعد الحرب بأنَّ الأخيرة كانت فشلاً ذريعاً، ويقول: "كان لي دورٌ عظيم في ذلك. ما جئت به إلى الجيش الإسرائيلي فشل". كانت الأوامر مكتوبة بلغة معقّدة وغير مفهومة لأغلب الضبّاط الذين اشتكوا من صعوبة تحويلها إلى أفعال عسكريّة ملموسة وواضحة بعد هذه الحرب.
عيتا: الأسطورة التي كسرت أسطورة
في اليوم الأول من حرب تموز 2006، شاهد وزير الأمن الإسرائيلي عمير بيريتس، برفقة غال هيرش، قائد الفرقة 91 - من شاشته - برج دبابة "الميركافا 4" وهو يطير إلى مسافة 136 متراً بعيداً عنها، عندما حاولت الصعود إلى تلة مشرفة على عيتا الشعب بعد وقوع عمليّة الأسر.
يقول عوفر شيلح ويوآف ليمور في كتابهما "أسرى في لبنان" إنَّ هذه الضربة كان لها تأثير صادم مشابه لضربة زيدان في بطولة كأس العالم في كرة القدم التي سبقت الحرب، إذ طبعت الأعمال العسكرية الإسرائيلية في الحرب، والتي كانت سمتها التردّد والحذر. ولم تبدأ العمليّات العسكرية في منطقة عيتا الشعب إلا بعد أسبوعين من بداية الحرب، وحتى 3 أسابيع في القطاعات الشرقية.
يسرد الكتاب أيضاً أنّ غال هيرش نفسه ما انكفأ يردّد أمام من يطرح أمامه خيار الدخول البريّ السؤال التالي: "هل تعرفون ماذا يعني طنّاً من المواد الناسفة؟". لسخرية الأقدار، أُصيب "الجيش" الذي أراد أن يعتمد "الصدمة والترويع" بهما حتى نهاية الحرب.
في واقع الحال، سيكون من المجحف القول إنَّ هذه الصدمة كانت وحدها سبباً في ثني "الجيش" الإسرائيلي عن الدخول البريّ، بل إن ذلك يعود إلى تضافر العديد من العوامل السياسيّة الداخليّة والعسكريّة العمليّاتيّة والإدراكيّة، أهمها أن دان حالوتس، الضابط المتعجرف، كما يصفه المقربون منه، ورئيس الأركان الصهيوني آنذاك، كان من المؤمنين بنظرية الحسم من الجوّ.
لا يعود ذلك فقط إلى أن حالوتس طيار سابق وضابط في سلاح الجو، بل أيضاً إلى هذا التوجّه الفلسفيّ العامّ الذي كان يطغى على "الجيش" الصهيوني، بأن الفوز في الحرب ممكن بالترويع، ومن دون أكياس جثث، أي عبر التقنيات الحديثة وكميّة كبيرة من المتفجّرات.
لعلّ ذلك كان أيضاً من الأسباب التي دفعت حالوتس نفسه إلى إعلان تدمير الجزء الأكبر من ترسانة المقاومة الصاروخية بشكل متسرّع في ما سمّاه عمليّة "الوزن النوعي"، وهو الادّعاء الَّذي أثبت استمرار سقوط الصواريخ حتى اليوم الأخير أنه لم يكن تقديراً دقيقاً بالحدّ الأدنى.
في عيتا الشعب، شهد الأسبوعان اللذان أعقبا عمليّة الأسر وبداية الحرب عمليّات عسكريّة محدودة من الجانب الإسرائيلي لا تخرج عن إطار الاستطلاع بالنار والتجربة في محيط البلدة الكبيرة نسبياً. المقاومة لم تقف ساكنةً أيضاً في هذه الفترة، فقامت بقصف مكثّف ودقيق استهدف مركز قيادة الفرقة 91 في معسكر "بيرانيت" المقام على قرية المنصورة المدمّرة. أحد هذه الصّواريخ أصاب المولّد الكهربائي لمركز القيادة، ما أدى إلى فقدان الإضاءة والتهوئة فيه لبعض الوقت. في 31 تمّوز/يوليو، بدأت القوات الإسرائيليّة بالتقدّم، في ما أسماه الصهاينة "عمليّة تغيير الاتجاه 8"، وقام لواء المظليّين بتطويق البلدة فعلياً من جميع الاتجاهات.
في غالبية الأحيان، يعني ذلك نهاية المدافعين، ولكن تلك لم تكن إلا البداية. لم يطُل الوقت حتى تبع التطويق محاولة لدخول البلدة من الشرق مُنيت بالفشل، تبعتها محاولة أخرى من الكتيبة 890 من المظليّين شمالاً، منيت كمثيلتها بالفشل. تفاجأ الجنود بشراسة النيران وعنفها، كما يعبّر أحدهم في روايته، إذ خيّم الرعب والهستيريا عليهم ما إن بدأت الإصابات بالتراكم، وخصوصاً مع إصابة أحد الجنود، وهو رقيب، في رأسه، إصابة قاتلة، "فتوقّفوا عن العمل"، ولم يردّوا بالنار مباشرة في ذلك اليوم.
بعد المعركة التي أسفرت عن مقتل 3 جنود وجرح 25 آخرين، بحسب الاعتراف الإسرائيليّ، انسحب المظلّيون إلى محيط البلدة، حاملين جرحاهم على الحمالات باتّجاه الحدود. استمرّت محاولات الدخول في الأيام اللاحقة من دون تحقيق أي تقدّم، واستمرّ الضبّاط الكبار في "الجيش" في مسعاهم بعدم إبراز أي نية للانسحاب من البلدة، على الرغم من تصاعد الإحباط في القيادة العسكرية والمدنيّة بفعل عدم تحقيق أي تقدّم.
في الخامس من آب/أغسطس، قرّر لواء "الكرمل" (احتياط) الانسحاب بمفرده من البلدة بعد تعرّضه لخسائر، إثر سقوط قتيل و19 جريحاً، فيما سمّاه "تراجعاً تكتيكياً". هذه الخطوة تعرّضت لنقد لاذع بعد الحرب من القيادة العسكريّة. وصل الأمر بـ"الجيش" الإسرائيلي إلى إرسال فريق للتفاوض على إخلاء البلدة في 7 آب/أغسطس، ولم يستطع بالكلمات انتزاع ما فشل جنوده به، وخصوصاً بعد إصرار القيادتين على عمليّة احتلال البلدة "الرمز لإصرار" المقاومة، بحسب تعبير بعض الضباط الإسرائيليين.
في الأيام الأخيرة من الحرب، تمّ تدمير دبابة في محيط قرية عيتا الشعب بصاروخ من نوع "آر بي جي 29"، طار برجها، كما حصل بدبابة "الميركافا"، يوم 12 تمّوز/يوليو، وقتل طاقمها المكوّن من 4 أفراد، كما حصل في الأولى أيضاً. إضافةً إلى ذلك، تمّ تدمير مدرّعة من نوع "بوما" (Puma) وعدد من الجرافات، حاولت إحداها جرف بعض البيوت. ونحن هنا يمكننا أن نتخيّل التأثير الذي لا يُستهان به لهذا العمل مع كلّ ما تملك الجرافة الإسرائيلية من معنى في وعينا العربيّ بشكل عامّ، والفلسطينيّ بشكل خاص.
في اليوم الأخير من القتال، قُتل 4 جنود في تلّ أبو طويل في شمال عيتا الشعب، وجُرح 20 آخرون بعد تعرّضهم لرماية بصاروخ مضاد للدروع، في إعادة تشكيل طريفة لمفهوم استخدام الصاروخ نفسه ضد الأفراد، إذا ما أردنا أن نقيس الفعل عبر نظريّة "الفن العمليّاتي".
في حال رغبنا في أن نلخّص المعركة البطولية في عيتا الشعب، وفي كلمة بطوليّة لا تفيها قدراً بسيطاً من حقّها، نستطيع القول إنَّ "الجيش" الصهيوني، وباستخدام حوالى 5 ألوية مشاة في عيتا الشعب ومحيطها، ما يعني آلاف الجنود، وبعد تدمير أكثر من 90% من أبنيتها، بحسب تقرير المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، باستخدام قصف جوّي ومدفعيّ شديد العنف جعل عاليها سافلها بالمعنى الحرفي للكلمة، هذا الجيش لم يستطِع هزيمة ما يزيد قليلاً على فصيل عسكري محاصر، أي حوالى 80 مقاتلاً من المقاومة، باعتراف الإسرائيلي نفسه. أعتقد أنَّ الأسطورة لم تُخلق إلا لمعارك وصولات كهذه، يندر وجودها في التاريخ بالمعنى الماديّ الملموس، وليس الشاعري العاطفيّ.
كوخافي ومحاولة تطوير قوات الاحتلال الإسرائيلي
على الرغم من هذه النتائج الفضائحية التي حقّقها "الجيش" الإسرائيلي في حرب تموز بشكل عام، وفي عيتا الشعب بشكل خاصّ، فإنَّ النظر إليه بعدسة متطرّفة في الذمّ قد يوقعنا في الخطأ نفسه الذي وقع فيه، أي "الانحياز الإدراكي".
وعلى الرغم من فشله الذريع في تطبيق مفاهيم النظريّة التي تفاخر قادته بتكوينها على قياس القرن الواحد والعشرين وطبيعة الحروب فيه، بعد أن اصطدم بجدار الواقع أمام مقاومة محترفة ومصرّة، فإنَّ "الجيش" الإسرائيلي أبعد ما يكون عن الستاتيكية في بنيته وقدرته على التعلّم والتطوير، ويُعدّ ذلك من نقاط قوّته الأكثر بروزاً.
بعد حرب تمّوز، فقدت نظريّة "الفن العملياتي" بريقها الذي اكتسبته في عمليّات قمع الانتفاضة الثانية، وذلك بعد أن عجزت عن ثقب الجدران في عيتا الشعب وبنت جبيل ومارون الراس. أفيف كوخافي، رئيس الأركان الحالي الذي كان من أنصار هذه النظريّة، تغيّر كثيراً بعد هذه الحرب، ليس في ممارسته فحسب، بل في أسلوب كلامه المنمّق والمليء بالمصطلحات الفلسفية المعقّدة أيضاً. ويمكن ملاحظة ذلك من خلال عمله في شعبة الاستخبارات العسكرية "أمان" وتطوير تقنيات "السايبر" فيها، وحتّى في خطاباته العامّة.
يحاول كوخافي وأركانه أخذ مقاربة أكثر عمليّة، تعتمد على التدمير الماديّ للعدوّ، عبر أساليب جمع المعلومات باستخدام تقنيات الجمع الإلكترونية، منها التصوير المتعدّد الطيف في طائرات الاستطلاع الأحدث، مثل "الإيتان" مثلاً. كما يقوم العديد من مشاريع "الجيش" الصهيوني الآن على محاولة إدخال الذكاء الاصطناعي في تحليل المعلومات ومقارنتها لاستخلاص نتائج عن أنماط حركة معيّنة، وتغيّرات في الطوبوغرافيا، ومقارنة الصور الجوّية المعالجة بتكنولوجيّات مختلفة. كلّ ذلك يهدف إلى شيء واحد بشكل أساسي، هو القضاء على قدرات العدوّ بشكل ماديّ مباشر، أي على مقاتليه وعتاده وشبكات اتصاله وتواصله. هذا من ناحية المقاربة الاستخباراتية المعلوماتية.
من ناحية القتال والتكتيك، يحاول كوخافي وطاقم الضباط زيادة الفاعلية القتالية لجنود "الجيش" الإسرائيلي على المستوى الفردي، كما الجماعي (السريّة/الكتيبة)، ويقوم ذلك على عدّة مستويات. على المستوى الفرديّ، يقوم كوخافي عبر المحاضرات والنصائح التي يقدّمها للضباط بمحاولة خلق روح قتاليّة، ما يمكن للمقاتل أن يثبت عليها، وقوامها العلاقة بين الضباط والجنود، وهو ينصح في خطاباته بأن تكون أخويّة إلى أقصى حد.
على المستوى العمليّاتي، يحاول كوخافي تصغير الوحدات القتالية المقاتلة وتعزيز استقلاليّتها. يشبه ما يقوم به محاولة تقريب "الجيش" الإسرائيلي إلى طريقة عمل خصمه اللدود "حزب الله"، فضلاً عن محاولةٍ لربط الوحدات القتالية بنظام إدارة معركة إلكتروني لا يعزّز فقط إدراكها العمليّاتي المباشر لمحيطها وللوحدات الصديقة المحيطة بها، ولكنه يمكّنها أيضاً من اختصار وقت طلب الدعم الجويّ أو المدفعي الذي لا يجب أن يمرّ عبر البيروقراطية العسكريّة التقليدية، فتملك السريّة مثلاً قدرةً ناريّة مضاعفة خاصةً بها بشكل شبه لحظيّ في الوضع المثاليّ.
خاتمة
إن شرح كلّ ما تتضمنه الإصلاحات العسكريّة التي يحاول كوخافي القيام بها، سيحتاج إلى مقال منفصل بذاته. ولا شك في أنه من القادة المبدعين والمحوريين في تاريخ هذا الكيان الذي قد لا يكون طويلاً في بلادنا، ولكنّ ذلك لا يمنع أن تطبيق هذه الإصلاحات يعتريه العديد من المشاكل.
بدايةً، تتطلّب هذه التعديلات والإصلاحات ميزانيّة واسعة قد تبلغ عشرات المليارات من الدولارات غير المتوفّرة بسهولة. قد تساعد الولايات المتحدة في حلّ هذه المشكلة، كما ساعدت في تمويل القبّة الحديدية. من جهة أخرى، فإنّها تتطلَّب إعادة تشكيل للعديد من وحدات "الجيش" الصهيوني، وتدريبات ومناورات تمتدّ إلى فترة سنوات، ليعتاد "الجيش" عليها، ويصبح محترفاً في تطبيقها. هذه السنوات ليست مضمونة لأفيف كوخافي نفسه كرئيس أركان، وخصوصاً في ظل هذه الظروف السياسيّة المتوتّرة وغير المستقرّة في الكيان الصهيوني.
الأهم من ذلك كلّه أن هناك تغييرات اجتماعية - اقتصاديّة يصعب تجاوزها، وهي تطبع طباع الأفراد في هذا المجتمع الذي يشكّل الجنود جزءاً منه؛ ففيه يترعرعون، ومنه يستقون قيمهم، وفيه يتعلّمون النظر إلى العالم. في عصر "ما بعد البطولة" في المجتمعات الرأسمالية الغنيّة، حيث تسود القيم الفردانية وتذوي قيم الجماعة البشرية الكبرى، قد يصعب على كوخافي أن يجد جنوداً يوائمون استراتيجيّته هذه، وإن تمكّن من تطبيق إصلاحاته.
لا يعني ذلك أنَّ المجتمع الإسرائيلي أنانيّ ككلّ، أو أنك لن تجد مقاتلاً واحداً شجاعاً مثلاً، ولكن إذا ما أردنا أن نطبّق علم الإحصاء هنا، فإن الأشخاص ذوي الدخل الأعلى والفرص الاقتصادية سيرغبون في الحرب بشكل أقل في واقع الحال من المزارعين والعمّال أو ذلك الجزء من المجتمع الذي يرتبط وجوده بشكل مباشر بالأرض. يمكننا ملاحظة ذلك في نسبة القادة العسكريين الذي يأتون من "الكيبوتسات" (المجتمعات الزراعية الاستيطانية) والجنود بالمقارنة مع مستوطني "تلّ أبيب" وحيفا و"نتانيا" مثلاً.
يتبدّى أيضاً ذلك بوضوح في إدراك "الجيش" نفسه، وفي صياغته استراتيجيّاته، وفي كلّ الجيوش الغربيّة بشكل عام، عن طريق محاولة الاستفادة القصوى من التكنولوجيا في الحدّ من الخسائر البشريّة المكلفة بالمعنى السياسي والاجتماعي، والهوس بالقدرة على القتل البعيد عبر الوسائط باستخدام المسيّرات الآلية الجويّة مثلاً أو الصواريخ البعيدة المدى وغيرها.
قد يتغيّر "الجيش" الإسرائيلي كثيراً بنيوياً وتكنولوجياً في هذه السنوات، وكذلك خصومه الذين يتطوّرون بشكل مطردٍ أيضاً، ولكنَّ السؤال المحوري هنا: هل تغيّر الجندي الإسرائيلي على المستوى الفردي من العام 2006 إلى الآن؟ وإن تمّ ذلك، هل تغيَّر إلى الأسوأ أو الأفضل؟ أعتقد أننا نستطيع التعليق على ذلك بالقول إنّ الجميع أبطالٌ في المناورات والمحاكاة التي لا تشكل خطراً على الحياة والرّوح، ولكن الحقيقة لن تتبدى جليّة إلا عندما تبدأ القذائف بالتساقط على رؤوس الجنود.