الصين تدخل من القرن الأفريقي: هل تصل «المناطق المُحرَّمة»؟
يتزايد القلق الأميركي من حضور الصبن المُتصاعِد، والذي بات يقترب من التصادُم المباشر مع المصالح الأميركية الحيوية، في الشرق الأوسط على وجه التحديد، وهو ما جعل مساحة التفاهُم بين واشنطن وبكين تضيق، كلما تقدَّمت الأخيرة خطوةً إلى الأمام.
فيما تنتهج الولايات المتحدة الأميركية سياسةً أكثر حديّة بالتعامُل مع الصين الشعبية، على كافة الصُعد، تواصل إدارة الرئيس الصيني، شي جين بينغ، خرقها لـ «خطوطٍ حمرٍ» أميركية، وهذه المرة في أفريقيا، في المنطقة الشرقية منها، حيث مدار النفوذ والمصالح الأميركية، على البحر الأحمر، ومضيق باب المندب.
تُرجِمَ القلق الأميركي، مؤخّراً، برسالةٍ بعثها عضوان بارزان في مجلس «الشيوخ» الأميركي، ماركو روبيو، عن الحزب «الجمهوري»، وكريس كونز، عن الحزب «الديمقراطي»، إلى وزيري الخارجية، مايك بومبيو، والدفاع، جيم ماتيس، عبّرا فيها عن «قلقهما بشأن العواقِب العسكرية والسياسية إذا ظفرت الصين بالسيطرة على مرفأ للحاويات في جيبوتي».
وأشارت الرسالة في مضمونها، إلى أن إلغاء جيبوتي لعقدٍ مع «موانئ دبي العالمية»، ومقرّها الإمارات، لإدارة مرفأ «دوراليه» للحاويات في دولة جيبوتي، وتأميم حكومة الأخيرة للمرفاً في أيلول الماضي، هو أمرٌ «مُزعِج». واعتبرت الرسالة، أن «المُقلِق أكثر» هو «احتمال إسناد جيبوتي عمليات المرفأ إلى شركة مملوكة للحكومة الصينية».
وتأتي الرسالة بعد أشهرٍ من إبرام الحكومة الجيبوتية لاتفاقٍ مع شركة متعاوِنة مع الصين هي «باسيفيك أنترناشونال لاينز ليميتد»، لتعزيز تجارة الشحن في ميناء «دوراليه». وقد رحَّب وزير المالية في جيبوتي، إلياس دواله، بالخطوة مُعتبراً أن «الصين تُساهِم بتطوير موانىء بلاده». وفي الوقت ذاته، اعتبرت الحكومة الجيبوتية، أن إلغاء العَقْد مع الشركة الإماراتية وتأميم المرفأ جاء «لحماية مصالح البلاد».
بين الانزعاج والقلق، تظهر بوضوحٍ السياسة الأميركية، القائمة على «فَرْض النفوذ» و«رفض إدارة البلاد لشؤونها بنفسها». فتأميم المرفأ خارج إدارة واشنطن أو حلفائها الإماراتيين، يُعتَبر «تحدّياً مُزعِجاً»، فيما إسناده لإدارة صينية، هو «خطر داهِم ومُقلِق»، يستوجب التحرّك الفوري، على أعلى المستويات الأميركية، الدبلوماسية والدفاعية.
ما يُعمِّق المخاوف الأميركية، هو أن الأخبار الوارِدة عن احتمال إدارة الصين لمرفأ «دوراليه» في جيبوتي، سبقها العام الماضي، تشييد الصين لأول قاعدةٍ عسكريةٍ، في الخارج، والتي كانت جيبوتي الواقِعة على مدخل البحر الأحمر مركزاً لها. دفع الحدث في أهميته، أكبر ضابط عسكري أميركي في أفريقيا، الجنرال في مُشاة البحرية الأميركية، توماس والدهاوزر، إلى القول، إن الجيش الأميركي قد يواجه «عواقب كبيرة» إذا سيطرت الصين على الميناء في جيبوتي. وجاءت تصريحات الجنرال الأميركي، خلال جلسة في «الكونغرس» في وقتٍ سابقٍ من هذا العام. وقد ركّز فيها على ربط افتتاح القاعدة العسكرية الصينية، وإدارة شركة صينية للمرفأ،مع افتتاح جيبوتي منطقة للتجارة الحرّة شيّدتها الصين، في تموز الماضي، ضمن مشروع قيمته 3.5 مليارات دولار، وفي إطار مبادرة «الحِزام والطريق» الصينية.
تتقاطع «رسالة مجلس الشيوخ»، الموجّهة إلى وزيري الدفاع والخارجية، وتصريحات الجنرال الأميركي، مع استراتيجية «الأمن القومي الأميركي»، التي أعلنها الرئيس، دونالد ترامب، بداية العام، الحالي، والتي قال فيها إن بلاده أمام أهم ثلاثة مخاطر: «جهود الصين وروسيا، والدول المارِقة، إيران وكوريا الشمالية، والتنظيمات الإرهابية الدولية، الساعية إلى القيام بأعمالٍ قتاليةٍ نشطةٍ ضدّ الولايات المتحدة».
وفي الظاهِر، فإن بكين لم تتراجع أمام التهديدات الأميركية، بل إنها قرَّرت الاستمرار بسياسة «قَضْم النفوذ». لذلك، وانطلاقاً من تلك السياسة، تسعى الصين بتواجدها في منطقة القرن الأفريقي، على سواحل البحر الأحمر، ومداخل المضائق، إلى إحداث توازنات «جيوسياسية»، مع الولايات المتحدة، تأتي في إطار الضغط المُضاد على التواجُد الأميركي في بحر الصين، الذي «يُهدِّد السيادة الصينية»، كما تُعلِن بكين مِراراً. وتدخل الصين تلك الجهة من القارة الأفريقية على البحر الأحمر، لكونها تقع على خطوط الطاقة والتجارة العالمية، عبر القرن الأفريقي وباب المندب، وقناة السويس، لتأمين تلك الممرات، بما تشكّله من أهمية قصوى على «طريق الحرير» والتجارة البحرية الصينية. جميعها عوامل، تعمل بكين على تثبيتها. ومن المؤكَّد أنها ستُشكّل قلقاً اقتصادياً وأمنياً لدى واشنطن، لا سيما وأنها تحصل بالتوازي مع جهودٍ صينيةٍ لتطوير قدرات بحرية عسكرية مُتقدّمة، ظهرت بعض جوانبها في المُناورات العسكرية البحرية المُشتركة بين روسيا والصين مؤخّراً. ما يُعطي التواجُد الصيني في أفريقيا، بُعدان بذات «الخطورة» على النفوذ الأميركي، الأول اقتصادي سياسي، والثاني أمني عسكري.
تُعمِّق الصين علاقاتها مع الدول الأفريقية، من بوابة التعاون لا فَرْض السياسات. وتستغلّ الصين، هَشاشة تلك المناطق على الصعيد الاقتصادي بالتوازي مع مُراعاة حساسيّتها السياسية الداخلية، من جهة السيادة والقرار. وتضع الصين «الثقل الاستعماري» الذي بدأ يُهدِّد النفوذ الغربي بشكلٍ عام، في القارة السمراء، بمكانة «المُعلّم السلبي» لها، الذي لا يجب اتباع خطواته للدخول إلى القارة الغنية بالموارد.
يُدير الوارد الآسيوي «القوّة الناعِمة» بحنكة، لتمرير استثماراته داخل الدول الأفريقية، ضمن علاقاتٍ مشتركةٍ، تقوم على قواعد اقتصادية متينة وتفاهُمات سياسية، بعيدة عن الهيمنة وفرض الشروط والتبعيّة في القرار، كما هي حال الولايات المتحدة الأميركية في تعامُلاتها مع الدول المُشابهة. وتتبنّى الصين سياسة مُختلفة كلياً عن السياسة الغربية، في أفريقيا، بتسييرها للقروض المُيّسرة، وضخّ المليارات في الاستثمارات الخدماتية خصوصاً، من دون شروطٍ سياسيةٍ مُسبَقة. لا تسعى الصين إلى الهيمنة بقَدْر سعيها إلى تأمين مصالحها، عبر إظهارها بصورة المصالح المُتماهية والمُتوافِقة مع مصالح الدول الأفريقية وأنظمتها، وهو ما كان قد عبَّر عنه الرئيس السنغالي السابق، عبد الله واد، بقوله إن «فَهْم الصين لاحتياجاتنا أفضـل من الفَهـْم البطـيء والمُتغطرِس في بعض الأحيان للمُستثمرين الأوروبيين، والمنظمات المانِحة، والمُنظمات غير الحكومية». وقد اعتبر واد في مقالٍ في صحيفة «فاينانشيل تايمز»، عام 2008، أنه «ليست أفريقيا وحدها هي التي يجب أن تتعلّم من الصين، ولكن الغرب أيضاً».
شكّل تزايُد اعتماد الصين على النفط، بالتزامُن مع هبوط الإنتاج المحلي من البترول والفحم، عاملاً أساسياً، دفعٍ بكين التي ينمو اقتصادها بمعدّل 8% إلى 10% سنوياً، كي تتوجّه إلى مصادر أخرى للطاقة، بعيداً عن الضغوط السياسية التي يمكن أن تُمارَس عليها لابتزازها، لا سيما من الأنظمة الحليفة لواشنطن. وباتت بكين تستورد من الدول الأفريقية ما يُقارب 25% من وارداتها النفطية، بالإضافة إلى العديد من المُشتقّات الأخرى، واليورانيوم طبعاً. وفي الجانب العسكري أيضاً، بلغ التعاون مداه، إذ يُشير تقرير أعدّه معهد «ستوكهولم» الدولي لأبحاث السلام، إلى أن «هناك ارتفاعاً في مبيعات الأسلحة الصينية في الدول الإفريقية بنسبة 55% منذ عام 2013 وحتى عام 2018.
ترى إدارة ترامب أن الصين هي «القضية الرئيسة في هذا القرن»، بالنسبة إليها، وفق ما أعلنه مُستشار الأمن القومي الأميركي، جون بولتون، الشهر الماضي. بناءً عليه، فإن أيّ تحرّك صيني ومهما كانت أسبابه، وبأيّ اتجاهٍ كان، ستعتبره الولايات المتحدة موجَّهاً ضدّها، لا سيما وأن واشنطن تضع بكين على لائحة «الأكثر خطورة»، مُقدّمةً إياها من حيث التهديد، على مَن تعتبرهم «دولاً مارِقة». وينتقل الكباش الصيني - الأميركي، إلى القارة الأفريقية، كمسرحٍ للتجاذُبات بين البلدين، والتي وإن لم تخرج من إطارها السياسي والاقتصادي والأمني حتى الآن، لكنها مُرشّحة للمزيد من التعقيد والتسابُق في مجالاتٍ مُتعدّدة.
وتبدو الخطوات الصينية أسرع من الأميركية، في نَسْج المصالح عبر الدول، فيما تتعثّر خطوات واشنطن بعقباتٍ عديدة، تُجمّد مشاريعها، وتُجبرها على اتّخاذ قراراتٍ مُتداخِلة في آنٍ واحد. فعلى خلاف السياسة الأميركية السابقة القائمة على عَزْل «جبهة الأعداء» عن بعضها البعض، عبر مُهادنة طرف واستهداف طرف، فإن إدارة الرئيس الحالي ترامب، تفتح معركتها مع بكين، في نفس الوقت الذي تُصعِّد فيه من خطابها ضدّ طهران، وتتشابك فيه مع موسكو سياسياً وأمنياً، وحتى عسكرياً وإن بشكلٍ غير مباشر، على أكثر من جبهة. وتُشير تلك السياسة إلى إرباكٍ أميركي في مُعالجة التغيير الذي طرأ على النظام العالمي، بعد فترة «أحادية القُطب» التي لم تدم طويلاً.
إذاً، وبناءً على ما يُعلَن من «تهديدات» تطال «الأمن القومي الأميركي»، وما يقابلها من رغبة صينية في شقّ الطريق بما يخدم المصالح، فإنه من المُرجَّح أن تستخدم الولايات المتحدة جميع الأساليب المُتاحة، للحدّ من النفوذ الصيني في القارّة الأفريقية، وهذا ما تُصرِّح به الإدارة الأميركية علانية. ومن المُحتَمل، أن تكون جيبوتي، ودول القرن الأفريقي عامة، في المقبل من الأشهر، على موعدٍ مع تلك الأساليب، بعد تحوّلها إلى ساحة صِراعٍ لن توفّرها واشنطن، أو تجعلها لقمة سائِغة «للخطر الصيني الداهم»، الذي يُعبّد «طريق الحرير» خاصته، باتجاه المحيط الأطلسي غرباً. وهناك تتواجد مناطق النفوذ الأميركية، «المُحرَّمة على الشرق».