البديل من الحرب.. افتعال الأزمات لإشغال المقاومة (1-2)

لأن الذاكرة مثقوبة بالنسيان، تصبح عملية التضليل أسهلَ من عملية تفكيك التضليل وتفنيده، لذا، لا بدّ من العودة إلى تسلسل الأحداث في لبنان، وصولاً إلى الانهيار.

  • عمل الأدوات الناعمة لا يُرى بالعين المجردة، فتسهل بذلك عملية التضليل.
    عمل الأدوات الناعمة لا يُرى بالعين المجردة، فتسهل بذلك عملية التضليل.

أدركت المقاومة الإسلامية في لبنان، بعد دحر الاحتلال الإسرائيلي عام 2000، أن المواجهة العسكرية المقبلة مع كيان الاحتلال هي مسألة وقت. في قراءتها الدقيقة للعقل الإسرائيلي وجوهر المشروع الصهيوني، قدّرت المقاومة أن الانسحاب الإسرائيلي، من دون شرط وتحت الضغط العسكري، هو نموذج لا يمكن أن تبتلعه "إسرائيل"، وستعمل على محاولة تقويضه. شكّلت هزيمة عام 2000، في هذا المعنى، وجبةً عسيرة الهضم على أمعاء "الدولة" الاستيطانية.

منذ ذلك الحين وحتى هذه اللحظة، لم ترتَحِ المقاومة في لبنان يوماً. انتقلت من تحدٍّ إلى تحدٍّ، بحيث لا يكاد ينتهي استحقاق حتى يبدأ آخر، ولا تضع معركة أوزارها من دون أن تطلّ أخرى بأدوات جديدة ووسائل مُغايرة: مرةً بهدف إنهاء المقاومة وتقويض وجودها، وأخرى بهدف إنهاكها واستنزافها. 

بموازاة ذلك كان الحديث عن الفساد والإصلاح في لبنان يعلو ويخفت تبعاً للظروف السياسية والأمنية السائدة. انشغل اللبنانيون لفترة طويلة بعد اغتيال الحريري بقضايا سياسية ومذهبية وتحاصصية واستراتيجية أكثر من انشغالهم بقضايا تهم معيشتهم أو تتعلق بتطوير نظامهم السياسي.

عندما يجري توزيع المسؤوليات في ما آلت إليه الأمور المأزومة في لبنان، ليس من الدقّة تجاوز تسلسل الأحداث وتجاهل الأسباب العميقة. القفز فوق السياق الزمني للأحداث، وصولاً إلى الأوضاع الراهنة، هو قفز فوق الموضوعية. ليس الهدف من وراء ذلك عزل أيّ طرف لبناني عن مسؤولياته تجاه السياسة الداخلية، بقدر ما هو محاولة لوضع الأمور في نصابها. 

أحد التحدّيات الذي يعترض محور المقاومة وإعلامه، هو اشتغال الطرف الآخر على عملية القَطع مع الماضي، وخصوصاً في أوساط الأجيال الشابّة التي تجد نفسها تحت سطوة المشكلة الراهنة، ولم تعايش تطور مراحلها وصولاً إلى أسبابها الحقيقية. من هنا، وتحت وطأة الظروف الاقتصادية والمعيشية الصعبة، يُصوَّر لفئات شبابية في العراق مثلاً أن المشكلة تتعلق بالفساد وبكلفة العلاقة مع محور المقاومة حصراً. أمّا احتلال العراق، وما أرساه الحاكم الأميركي آنذاك بول بريمر من نظام طائفي تحاصصي، هو في طبيعته ولّاد أزمات وفساد، فيغيبان عن الإعلام وعن جزء من الرأي العام الغارق في مآسي اللحظة الراهنة. الأدهى من ذلك أن عمل الأدوات الناعمة لا يُرى بالعين المجردة، فتسهل بذلك عملية التضليل.

كما في العراق، كذلك في لبنان، حيث المطلوب، من قبل الإعلام المعادي للمقاومة، ليس تحديدَ المسؤوليات والمحاسبة، بقدر تأليب الرأي العام عليها، وخصوصاً في بيئتها، ووضع حزب الله، في الحدّ الأدنى، على قدم المساواة مع الأطراف الأخرى. بهذه الطريقة، يسعى حلف الحرب والتطبيع إلى استثمار الأوضاع الصعبة بالاعتماد على طبيعة عمل الذاكرة. ولأن الذاكرة مثقوبة بالنسيان، تصبح عملية التضليل أسهل من عملية تفكيك التضليل وتفنيده.

محاذير الإصلاح ومكافحة الفساد

يُؤخَذ على حزب الله، أحياناً وعلى امتداد السنوات الماضية، عدمُ إيلائه مكافحة الفساد الاهتمامَ اللازم. هذا الأمر سبق أن أشار إليه السيد حسن نصر الله في أحد خطاباته. في خطابات أخرى، تحدّث عن محاذير هذا الأمر وتعقيداته وصعوباته، نظراً إلى تأصّل الفساد وتجذّره وتشابكه مع طبيعة النظام اللبناني العصيّ على الإصلاح. فكيف الحال في مهمة أصعب من الإصلاح؟

الألغام المزروعة في هذا الدرب كثيرة وخطيرة، وتبرر لأيّ حركة جعلت أولويتها المقاومة أن تقاربه بحذر شديد. يمكن ببساطة لشركة صينية واحدة أن تحلّ جميع مشكلات لبنان الخدماتية، من ماء وكهرباء ونفايات وبنى تحتية وغيرها، خلال فترة وجيزة نسبياً. لكنّ ذلك يعني أن معظم الأحزاب والبيوت والشخصيات السياسية اللبنانية ستُحال على التقاعد. هذا مجرد مثال واحد على العوائق التي يمكن أن تعترض الانتقال إلى نموذج "الدولة" في لبنان والقوى المانعة لمثل هذا التحوّل. يقوم تحالف المصارف والسياسة الذي أفرزه النظام اللبناني على المحاصصة والزبائنية، في أحد وجوهه. وجوده مرتبط بالنظام القائم منذ عقود على الشكل الحالي. هذا التحالف متجذّر في مختلف مفاصل الدولة، من إدارات عامة إلى الأمن إلى القضاء إلى السياسة إلى الاقتصاد.

الحديث عن إصلاح والانتقال إلى نموذج "الدولة" ومحاربة الفساد كان أكثر سهولة قبل عام 2005. لكن، بعد التاريخ، باتت الأمور أكثر صعوبة. هل يفترض عاقل أنَّ من الطبيعي أن تفتح المقاومة ملف الفساد في ظل الظروف والأجواء المذهبية المشحونة، والتي أعقبت اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري، واستمرت بعده سنواتٍ؟ كان هذا الأمر، وما زال، يعني مواجهة طائفية. أبسط دليل على ذلك هو "الخط الأحمر" الذي وضعته دار الفتوى في بيروت، والتي حذّرت من أيّ اقتراب من رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة على خلفية ملفات فساد. حدث ذلك رغم أن الظروف آنذاك كانت أكثر مرونة مقارنة بظروف خيّمت على مراحل أخرى.

هذا المثال ينطبق على أطراف متعددة من كل الاتجاهات والأحلاف داخل لبنان، الأمر الذي يجعل مقاربة هذا الملف مشوبةً بمحاذير، ويفرض سلوك طُرق محفوفة بمخاطر مرتفعة قد تنفجر في وجه المقاومة في أي لحظة. ظل هذا الأمر سارياً حتى اللحظة، منذ عام 2005 على الأقل.

المراحل العسيرة

بعد اغتيال الحريري، والذي ظلّت تداعياته مخيِّمة فوق أجواء لبنان سنواتٍ، اضطر حزب الله إلى تجرُّع الكأس المرة، وشارك في الحكومة للمرة الأولى، في إثر انسحاب الجيش السوري من لبنان، ليضيف ذلك تحدياً جديداً إلى المقاومة. في ظل ظروف سياسية وأمنية صعبة آنذاك، خيضت حرب تموز/يوليو 2006، وأسقطت المقاومة مشروع "الشرق الأوسط الجديد"، الذي بشّرت به وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كوندليزا رايس.

في كل هذه المراحل والتحديات، لم يكن الطرفان، الأميركي والإسرائيلي، غائبَين عن لبنان، في مخططاتهما وأدواتهما. ما لم يُؤخَذ بالحرب حاول حلف الحرب والتطبيع، في نُسخته المستترة آنذاك، الحصولَ عليه، إمّا بالحيلة، وإمّا من خلال حلفاء الداخل، وإمّا بأدوات الحرب الناعمة. 

لم يستقم الوضع السياسي في لبنان والمنطقة بعد تموز/يوليو 2006، وكانت أولوية المواجهة والصمود تتقدَّم في طبيعة الحال على الإصلاح، الذي يتطلّب ظروفاً لم تكن مؤاتية. استقال حزب الله وحلفاؤه من الحكومة، التي اتَّخذت قراراً خطيراً يقضي بالاعتداء على سلاح الإشارة (الاتصالات) الخاص بالمقاومة، فكانت حركة 7 أيار/مايو 2008 التي أفضت إلى اتفاق الدوحة، وإلى تسوية أدّت إلى تشكيل حكومة جديدة، وانتخاب ميشال سليمان رئيساً للجمهورية.

اعترف وليد جنبلاط، رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي، لاحقاً، بأنه هو من افتعل حركة 5 أيار/ مايو التي أفضت إلى 7 أيار/مايو. وقال "أخطأتُ في الحسابات، وهناك من حمَّسني على ذلك". 

خلال هذه السنوات حتى اندلاع الأزمة السورية عام 2011، لم تتوقف حملات تشويه صورة المقاومة، على مستوى الرأي العام، لبنانياً وعربياً. كان الهدف انتزاعَ الصورة المُشرقة التي جلّتها حرب تموز، والتي مثّلت خطراً على مشروع المهادنة والاستسلام والفتنة. هكذا خيضت معركة بروباغندا سوداء تجاه المقاومة، وصُرفت مليارات الدولارات، باعتراف الأميركيين، ومنهم جيفري فيلتمان، بهدف تنظيم حملات دعائية تستهدف المقاومة ومحاصرتها من خلال أدوات ناعمة. 

في موازاة ذلك، مرّت الساحة اللبنانية في ظروف أمنية خطيرة، تمثّلت بسلسلة من الاغتيالات، وترافقت مع تحويل الاتهام من جانب "لجنة التحقيق الدولية باغتيال الحريري" من سوريا إلى حزب الله، وما واكبها من أجواء طائفية وسياسية مشحونة.

عام 2011، بدأت الحرب الكونية على سوريا، التي تمثّل أحد أركان محور المقاومة ورئة المقاومة في لبنان. امتدّت النيران السورية إلى قلب البيت اللبناني، فكان قرار المقاومة الحاسم بالمشاركة في الدفاع عن سوريا ولبنان. احتلّ الإرهابيون مساحة من الجرود اللبنانية، ووصلت التفجيرات و"العمليات الانغماسية" إلى قلب بيئة المقاومة، كما شكّلت الخلايا النائمة تهديداً مستمراً للأمن اللبناني. 

إلى أن تم تحرير الجرود وإبعاد خطر التفجيرات، كانت الظروف عصيّة على مطالب الإصلاح ومكافحة الفساد، فكيف إذا كان الطرف المتّهَم بالتقصير يقدِّم تضحيات، ويرّكز جهوده على ملفات داهمة؟ 

يمكن القول إن الحلف الصهيو- أميركي جرّب كل شيء لإضعاف المقاومة وتشتيتها واستنزافها خلال العقدين الأخيرين. إلى حد كبير نجحت المقاومة في تحويل التحديات إلى فرص، وفق قانون بيولوجي طبيعي: كلما استثرت العضلة وحفزتها، نمت أكثر وكبرت وصارت أكثر قدرة وقوة وفعالية، كي تستجيب للتحدي.

نحن الآن في المربع الأخير. الانهيار الاقتصادي والمالي في لبنان يُقرأ كآخر المحاولات الأميركية الإسرائيلية في سياق محاولة إضعاف المقاومة. هذا يمثّل تحدياً صعباً من دون شكّ. لكن إذا قسنا على على أقسى وأصعب مراحل الأزمة السورية، عندما اقتربت الجماعات المسلحة من عرين الأسد، كان الأفق وقتها يبدو قاتماً. نظرت "إسرائيل" إلى مجمل الصورة باعتبارها فرصة، وبعد سنوات قليلة اكتشفت خطأ تقديراتها وأن حلف المقاومة في سوريا بات أكثر رسوخاً وتهديداً، وأنها باتت أمام جبهة جغرافية واحدة متصلة من حدود الناقورة حتى تخوم الجولان.

على عكس مجريات الأزمة السورية، أحياناً انقلاب الصورة قد يحدث فجأة ولا يتطلّب سنوات. أليس هذا ما جرى خلال معركة "سيف القدس"؟ 

حالياً تنظر "إسرائيل" إلى ما يحدث في لبنان باعتباره فرصة. المعطيات التي سيتم تناولها لاحقاً تشير، ليس فقط إلى محاولة استغلال واستثمار إسرائيلية في ما يحدث، إنما أيضاً إلى مخطط جرى الإعداد له وهو في مرحلة التنفيذ.. لكن زمن المفاجآت لم ينقض بعد. هذا ما بدأت تنبّه إليه الصحافة الإسرائيلية ومعها مسؤولون إسرائيليون يحاولون تصدير وجه إنساني إلى المواطن اللبناني. وزير الأمن بيني غانتس كتب على "تويتر" منذ أيام قليلة: "كإسرائيلي، كيهودي، وكإنسان، قلبي يعتصر ألماً لرؤية ناسٍ جوعى في شوارع لبنان". وأضاف: "إسرائيل اقترحت على لبنان مساعدة في الماضي، والآن أيضاً هي مستعدة لذلك".  

جاكي حوغي رأى في صحيفة "معاريف" 9 تموز/يوليو 2021 أنه "يجب على إسرائيل أن تصوغ لنفسها استراتيجية في ما خصّها في لبنان". وسأل: "هل تكتفي بتصريحات تمنحها نقاطًا في الرأي العام وتشوه سمعة حزب الله، أم أكثر من هذا بقليل؟ على سبيل المثال، تحاول أن تكون شريكة في صياغة الواقع الجديد، وفي إعادة التأهيل، أو البحث عن أصدقاء جدد أنتجهم الوضع القاتم"؟. بكل الأحوال "إسرائيل" حاضرة ليس فقط من خلال التصريحات والآراء الصحافية، بل كما سنتبيّن لاحقاً بطرق غير مباشرة وغير مرئية.

المقاومة في ضوء الأولويات

ليس حزب الله، كطرف أساسي في المعادلة السياسية الداخلية، معزولاً عن أي نقاش يتعلق بمكافحة الفساد والإصلاح. إن لم يكن في السياسات الوطنية العامة، فعلى الأقل على مستوى الإدارات المحلية. لكن هذا أمر مُغايرٌ كلياً لما يتعلّق بتوزيع المسؤوليات في ما آلت إليه أوضاع البلاد الاقتصادية والمالية والمعيشية، والتي تعمل آلة الدعاية الأميركية والإسرائيلية والخليجية على حشره فيها. 

من دون العودة إلى تسلسل الأحداث والظروف، التي كانت قائمة منذ عام 2000 على الأقل حتى اليوم، تتعذّر مقاربة ملفات الفساد. الحديث عن الإصلاح خلال السنوات التي سبقت الانهيار الاقتصادي لا يستقيم بمعزل عن الضغوط والتحديات والمخاطر الداهمة، التي كانت تشكّل موانع موضوعية أمامه. 

وإذا كان جمهور المقاومة يعوّل على الأخيرة في هذه الملفات، انطلاقاً من ثقته فيها أو لأسباب عاطفية، يبقى من المنطقي القول إن المقاومة ليست وحدها المطالَبة بشأن هذا الملف. في حال توجهت منفردة نحو هذا الهدف، فإن من شأن ذلك، عدا عن كونه لا يكفي ولا يمكن أن يحقق أي نتيجة في ظل وجود غلبة داخل أطر الدولة الدستورية والإدارية والقانونية والطائفية ضده، فإنه قد يشكّل أيضاً مخاطر على مشروع المقاومة نفسه.

 

تغطية شاملة وموسَّعة من عدة بلدان وعواصم تعتبر نفسها في صلب محور المقاومة، تحت عنوان "نحن هنا.. حلف القدس"، بالتزامن مع الذكرى الـ 15 لحرب تموز/يوليو 2006 على لبنان، وانتصار المقاومة الفلسطينية في "سيف القدس" في أيار/مايو 2021.