حرب على النيل.. هل تنفجر الأزمة؟
باتت مصر والسودان وإثيوبيا على بعد أقل من 90 يوماً من لحظة مفصلية سيشهدها هذا الملف، مع اقتراب موعد الملء الثاني لبحيرة السد في تموز/يوليو المقبل.
تسير كلّ من مصر والسودان وإثيوبيا حثيثاً نحو المحطة الأخيرة في المسار التفاوضي حول أزمة تعد من أهم النزاعات الإقليمية حول المياه خلال العقود الأخيرة، وهي أزمة سد النهضة الإثيوبي. هذا المسار الممتد منذ نحو 10 سنوات شهد سلسلة من الانتكاسات المتتالية في كل محطاته، وباتت الدول الثلاث على بعد أقل من 90 يوماً من لحظة مفصلية سيشهدها هذا الملف، مع اقتراب موعد الملء الثاني لبحيرة السد في تموز/يوليو المقبل.
الخلفيات التاريخية لأزمة سد النهضة
كي يتيسر فهم الخلفيات التي أدت إلى وصول ملف السد الإثيوبي إلى هذه المرحلة الحرجة، لا بد من العودة إلى الجانب التاريخي من العلاقات بين أديس أبابا ومصر، وهو جانب يشرح بشكل كبير الأسباب الحقيقية للموقف الإثيوبي المتشنج في هذا الملف.
الأفكار الإثيوبية الخاصّة ببناء مجموعة من السدود على منابع نهر النيل في الهضبة الإثيوبية - وهي النيل الأزرق وعطبرة والسوباط، التي تنتج مجتمعة نحو 86% من مياه نهر النيل - تعود إلى حقبة خمسينيات القرن الماضي. وللمفارقة، كان الدور الأميركي أساسياً في توليد هذه الأفكار، إذ طرحت الولايات المتحدة على القيادة الإثيوبية في العام 1964 تقريراً أعدته هيئة الاستصلاح الزراعي الأميركية، يضم حصيلة أبحاث تمت في الهضبة الإثيوبية منذ العام 1958.
وتضمن هذا التقرير مقترحاً ينص على ضرورة بناء مجموعة من السدود المتنوعة، على رأسها سد حدودي في إقليم "بني شنقول"، على بعد نحو 40 كيلومتراً من الحدود السودانية، وهو الموقع الحالي لسد النهضة. هذا هو المقترح نفسه الذي تقدمت به بعثة بريطانية أجرت أبحاثاً في المنطقة نفسها أواخر ستينيات القرن الماضي.
من ضمن المفارقات اللافتة في هذا المقترح، أن إقليم "بني شنقول" تابع في الأصل للسودان، ويتكون من شريط حدودي عرضه ما بين 250 و300 كيلومتر داخل الحدود الإثيوبية. وقد كان تاريخياً تابعاً لولاية النيل الأزرق السودانية، لكن تم ضمه إلى الإمبراطورية الحبشية قبل استقلال السودان، وشهد على مدار الحقب الماضية محاولات للتمرد من جانب القبائل السودانية التي تقطن فيه، والتي يبلغ تعدادها 4 ملايين نسمة، أكثر من نصفهم مسلمون. وتبلغ مساحة الإقليم الكلية حوالى 50 ألف كيلومتر مربع.
كان الموقف الأميركي والبريطاني حينها مدفوعاً برغبة واشنطن في تهديد نظام الحكم في مصر وإدخاله في خضم أزمة إقليمية، إلى جانب إفشال المشروع المصري الضخم "السد العالي"، بعد أن تمكنت القاهرة من بنائه ونجحت في توليد الطاقة الكهربائية منه.
لم تنجح مساعي لندن وواشنطن في هذا الصدد، نتيجة لعدم بناء السد المقترح، بفعل عدة عوامل، أهمها التقلبات الإثيوبية الداخلية خلال العقود الأخيرة في القرن الماضي، وكذا التهديدات التي وجهها الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر إلى الإمبراطور الإثيوبي هيلا سيلاسي أواخر العام 1953 بشأن سد "تيس آباي"، الذي كانت إثيوبيا قد بدأت بإنشائه على النيل الأزرق من أجل توليد الكهرباء. واضطرت أديس أبابا نتيجة لهذا التهديد إلى خفض ارتفاعه وتعديل مواصفاته.
الخلافات المصرية الإثيوبية في مرحلة خمسينيات وستينيات القرن الماضي كانت بشكل أساسي متعلقة برفض إثيوبيا كل الاتفاقيات والمعاهدات التي تنظم حصص دول حوض نهر النيل، والتي تم توقيعها خلال الفترة الاستعمارية، وكذا الاتفاقيات التي تلت هذه الفترة، مثل اتفاقية العام 1929 بين مصر والسودان.
الرفض الإثيوبي هنا يأتي بشكل أساسي للاتفاقية الموقعة بين الخرطوم ومصر في العام 1959، والتي كانت مكملة لاتفاقية في العام 1929، ونصت على بنود تضبط بشكل كامل الحصص الواردة إلى كلا البلدين من مياه النيل، بشكل يراعي المشروعات النهرية التي اعتزم البلدان تنفيذها على نهر النيل، مثل مشروع السد العالي ومشروع خزان أسوان.
منذ ذلك التوقيت، دخلت أديس أبابا مراراً في مواجهات دبلوماسية مع مصر، نظراً إلى عدم اعترافها بالحصص التي تم الاتفاق عليها في هذه الاتفاقية، والتي بلغت حصة مصر على أساسها نحو 55 مليار متر مكعب من مياه النيل سنوياً، وحصة السودان نحو 18.5 مليار متر مكعب.
تزايدت حدة الخلافات بين أديس أبابا والقاهرة في العام 1979، بعد إعلان القاهرة عن مشروع ضخم للاستصلاح الزراعي في شبه جزيرة سيناء، يتضمن إيصال مياه النيل إلى شبه الجزيرة، عبر ترعة تمر من أسفل قناة السويس، وهو المشروع المعروف باسم "ترعة السلام". حينها، احتجّت إثيوبيا رسمياً على هذا المشروع، وتصاعد التلاسن بين الجانبين. في ذلك الوقت، هدد الرئيس المصري الراحل أنور السادات إثيوبيا بشكل مباشر، قائلاً: "ملف مياه النيل هو الملف الوحيد الذي يمكن أن تدخل مصر بسببه حرباً جديدة".
تجمَّدت فكرة إنشاء سد النهضة خلال ثمانينيات القرن الماضي، لكن ظل الخلاف الأساسي بين مصر وإثيوبيا قائماً حول اتفاقية العام 1929، إلى أن أعادت القيادة الإثيوبية في العام 1993، ممثلة برئيس الوزراء حينها ميليس زيناوي، إحياء هذا المشروع، وبدأت خلال السنوات اللاحقة بإعداد الدراسات الفنية اللازمة وتحديد أوجه تمويله، وهي إجراءات انتهت بشكل فعلي في آب/أغسطس 2010.
يمكن اعتبار الرفض المستمرّ من جانب الرئيس المصري الراحل حسني مبارك لمحاولات إثيوبيا إطلاق حوار معه حول هذا المشروع سبباً رئيسياً في إذكاء المواقف الإثيوبية المتصلبة في هذا الملف، وخصوصاً أن العلاقات بين الجانبين كانت تسير من سيئ إلى أسوأ منذ محاولة اغتيال الرئيس المصري في العاصمة الإثيوبية في العام 1995، وإحجام المسؤولين المصريين عن المشاركة في أية اجتماعات لدول حوض النيل، لكن بشكل عام وقّع الجانبان في تموز/يوليو 1993 على اتفاق حول التعاون في المجال النهري، تضمّن تعهّدات بامتناع كلا الجانبين عن أية أنشطة مائية تؤدي إلى أضرار بحقوق الجانب الآخر في مياه النيل.
ظنت القاهرة في هذا التوقيت أن هذا الاتفاق كافٍ لمنع أديس أبابا من القيام بأية تصرفات منفردة حول مياه النيل، لكن السنوات اللاحقة أثبتت عدم صحة هذا الظن، فقد توترت العلاقات بشكل أكبر بين القاهرة وأديس أبابا، بعد قيام الأخيرة بتحريض دول حوض النيل الأخرى (تنزانيا - كينيا - أوغندا - رواندا) على توقيع اتفاقية في العام 2010، سُميت باتفاقية "عنتيبي"، ونصَّت بشكل صريح على عدم الاعتراف بالحصص المنصوص عليها لمصر والسودان في اتفاقية العام 1959، وهو ما أثار غضب مصر والسودان، ودفعهما إلى إعلان عدم اعترافهما بهذه الاتفاقية، التي يمكن اعتبارها بمثابة المؤشر الأول على بدء إثيوبيا بانتهاج نهج تصادمي صريح في انخراطها بهذا الملف.
"الربيع العربي".. تفجر الأزمة وبدء مسارات التفاوض
خلال الأشهر الأخيرة من العام 2010، تمت سلسلة من اللقاءات بين مسؤولين من إثيوبيا ومصر والسودان دارت بشكل رئيسي حول السعة التخزينية لمشروع السد في حال إنشائه ومدة فترة ملء بحيرة السد. كانت المناقشات تدور حول أن هذه السعة لن تتجاوز 16 مليار متر مكعب. وقد استغلت أديس أبابا الوضع الداخلي المصري بعد اندلاع ثورة 25 كانون الثاني/يناير 2011، وأعلنت في نيسان/أبريل من العام نفسه عن وضع حجر أساس لسد تحت اسم "بودار"، في الموقع نفسه الذي أشارت إليه الدراسات الأميركية السالف ذكرها، ثم تم تغيير اسمه عدة مرات إلى أن تم الاستقرار على اسم "النهضة".
تشارك عدة شركات من إيطاليا وفرنسا والصين في بناء هذا السد الذي تبلغ كلفة إنشائه المعلنة 4.8 مليار دولار، مرشحة للزيادة إلى حدود 6 مليارات دولار. وقد تمت تغطية الكلفة المعلنة عن طريق سندات تم طرحها للتداول الداخلي في إثيوبيا.
هنا، يبرز دور أساسي للصين، إذ قدمت بكين عدة قروض للحكومة الإثيوبية لدعم عمليات بناء هذا السد، منها قرض بقيمة 500 مليون دولار في العام 2010، من أجل بدء العمليات التمهيدية لإنشائه، وقرض آخر في العام 2013 بقيمة مليار دولار، لدعم خطوط الطاقة الخاصة به، نظراً إلى رفض البنك الدولي تمويل بناء السد، لعدم وجود اتفاق مسبق بين أديس أبابا ودول حوض النيل حوله. أهمية الدور الصيني في هذا الصدد يمكن قراءتها بشكل أوضح إذا ما علمنا أن مشروعات إثيوبية مائية سابقة تم إلغاؤها أو إيقافها بسبب نقص التمويل، مثل مشروع سد "جيبي".
السعة التخزينية المعلنة لهذا السد كانت من أكبر المفاجآت التي أغضبت الجانب المصري، فقد أعلنت أديس أبابا أن السعة المستهدفة هي 74 مليار متر مكعب، وهو ما يتجاوز النطاق الذي كان التفاوض قبيل العام 2011 يتم على أساسه. وكانت هذه النقطة، وما زالت، جوهرية في الخلاف بين مصر والسودان من جهة، وإثيوبيا من جهة أخرى.
حاولت مصر تطويق هذه الأزمة، فأطلقت في تشرين الثاني/نوفمبر 2011 جولة تفاوضية أولى حول مشروع السد، تم خلالها تشكيل لجنة ثلاثية من خبراء دوليين، بهدف دراسة وتحليل مدى مصداقية الأبحاث الإثيوبية ودقتها بشأن الآثار البيئية للسد.
وقد أصدرت هذه اللجنة تقريرها في العام 2013، وتضمن إدانة لأديس أبابا لرفضها تزويد خبراء اللجنة بكل الدراسات المتعلقة بالسد، وأوضح التقرير أن الدراسات التي تمت حوله كانت ناقصة وغير مكتملة.
تبع ذلك جولة تفاوضية ثانية انطلقت في العام 2014، أسفرت في آذار/مارس 2015 عن توقيع اتفاق إطاري حول هذا المشروع بين الدول الثلاث، تضمن موافقة مصرية وسودانية على هذا المشروع، بشرط التوافق بشكل كامل على مدد ملء بحيرة السد، وعدم قيام أديس أبابا بملء هذه البحيرة قبيل هذا التوافق، واللجوء إلى الوساطة الدولية في حالة عدم تمكن الدول الثلاث من الاتفاق حول هذه النقطة الأساسية.
دخلت الدول الثلاث بعد ذلك في دوامة لا تنتهي من الجولات التفاوضية التي لم تسفر عن تقدم يذكر في ما يتعلق بهذه الأزمة. وخلال هذه الجولات، استغلت أديس أبابا الموقف السوداني من ملف سد النهضة، الذي كان مرجحاً لوجهة النظر الإثيوبية، وهو ما كان واضحاً، ليس من خلال مواقف الوفد السوداني في جولات التفاوض فحسب، بل أيضاً من خلال التأييد الصريح من جانب الرئيس السوداني السابق عمر البشير لمشروع السد أواخر العام 2013. على هذه الخلفية، قامت أديس أبابا بإفشال كل جولات التفاوض، نتيجة إصرارها على استكمال بناء السد أثناء الجولات التفاوضية وعدم إيقافه.
ميل المواقف السودانية إلى الجانب الإثيوبي ظهر بشكل أوضح خلال الجولة الثالثة من المفاوضات التي تمت ما بين العامين 2016 و2019، إذ ساهمت في إنجاح التوجهات الإثيوبية لجعل المفاوضات تركز بشكل أساسي على مسألة ملء بحيرة السد، من دون الخوض في ملف اعتراف إثيوبيا بالحقوق المائية لمصر والسودان. يضاف إلى ذلك حديث السودان المتكرر عن الفوائد التي ستعود عليه من هذا المشروع، رغم أن الأضرار التي ستقع عليه ستكون كبيرة ومؤثرة، وخصوصاً على مستوى مساحات الأراضي القابلة للزراعة.
الجولة الرابعة للمفاوضات، والتي تمت بين أواخر العام 2019 وكانون الثاني/يناير 2020، شهدت دخول العملية التفاوضية مرحلة الوساطات الإقليمية والدولية - وهو ما كانت تعارضه الخرطوم وأديس أبابا - وتصدرت الولايات المتحدة والبنك الدولي هذه الجهود، إذ شهدت العاصمة الأميركية أوائل العام 2020 مجموعة من اللقاءات بين وفود الدول الثلاث، برعاية وزير الخزانة الأميركي آنذاك ستيفن منوشن، ركزت على بحث قواعد ملء وتشغيل السد، بما في ذلك الإجراءات التي يتوجب على إثيوبيا اتخاذها خلال مرحلتي الملء والتشغيل، للحد من آثار الجفاف والجفاف الممتد.
وبناء على هذه اللقاءات، تمت صياغة اتفاق نهائي تضمن حلاً وسطاً للنقطة الخلافية الأساسية في هذا الملف، ألا وهي مدة ملء بحيرة السد، إذ نص الاتفاق المقترح على أن تكون مدة الملء 7 سنوات - بدلاً من 3 سنوات، كما كانت تعرض أديس أبابا - لكن لم توقع على هذا الاتفاق سوى القاهرة فقط، وأحجم السودان وإثيوبيا عن التوقيع، وبالتالي فشلت الوساطة الأميركية في الوصول إلى نتيجة إيجابية.
الموقف الإثيوبي في واشنطن دفع القاهرة في 19 حزيران/يونيو 2020 إلى تقديم شكوى رسمية لمجلس الأمن، تطلب فيها منه التدخل، حتى لا تقوم إثيوبيا بملء السد بإجراءات أحادية، ومن ثم تدخّل الاتحاد الأفريقي عقب الرسالة المصرية إلى مجلس الأمن، وطلب عقد قمة أفريقية مصغرة مكونة من رئاسة الاتحاد الأفريقي والدول الأعضاء في مكتب الاتحاد الأفريقي والدول الثلاث (مصر والسودان وإثيوبيا)، وبدأت بالفعل جولة تفاوضية بين الدول الثلاث أوائل تموز/يوليو من العام نفسه، لكن فشلت هذه الجولة بشكل تام، وفوجئ الجميع بإعلان إثيوبيا منتصف الشهر نفسه عن بدء الملء الأول لبحيرة السد، إذ تم تخزين نحو 4.9 مليار متر مكعب من المياه.
هذه الخطوة أثارت غضب القاهرة، ومثلت شرارة تغير الموقف السوداني، بعد أن عاين الخرطوم بشكل فعلي الآثار السلبية لعملية الملء الأحادية، إذ عانت السدود السودانية - وخصوصاً سد الروصيرص القريب من الحدود مع إثيوبيا - انخفاضاً حاداً في مستويات المياه الواصلة إليها، ما أثر بشكل مباشر في إمكانية توليد الطاقة الكهرومائية.
حصيلة هزيلة لسنوات طويلة من التفاوض
على الرغم من أن مجمل ما خرجت به القاهرة والخرطوم من مسار التفاوض الطويل مع إثيوبيا كان متواضعاً للغاية، إلا أن هذا المسار كان مهماً، ليس من أجل إثبات رغبة كلا البلدين في الوصول إلى حل سلمي لهذه الأزمة فحسب، بل لأن هذا المسار وأحداثه ساهما أيضاً في تحويل الموقف السوداني من طرف وسيط إلى طرف أصيل يتموضع مع مصر في الجبهة نفسها، وهو تحول مهم للغاية فرضه انكشاف حقيقة النيات الإثيوبية، فأديس أبابا لم تلتزم بمعظم بنود الاتفاق الوحيد الذي تم توقيعه خلال مسار المفاوضات، وهو اتفاق 2015 الإطاري، وخصوصاً البند الأول الذي ينص على التعاون والتفاهم المشترك والالتزام بحسن النيات، والبند الثالث الذي ينص على عدم التسبب بأية أضرار لأي طرف من الأطراف الموقعة على الاتفاقية، والبند الرابع الذي ينص على الاستخدام المنصف والعادل للموارد المائية، والبند الخامس الذي ينص على التعاون بين البلدان الثلاثة في إدارة السد وتنظيم إجراءات وموعد الملء الأول له.
يُضاف إلى ما سبق مسألة تأثير سد النهضة في السدود السودانية بشكل عام، فقد تم تصميم السد الإثيوبي، بحيث سمح بتمرير فيضان قدره 2.6 مليار متر مكعب في اليوم، فيما لا تزيد قدرة خزان سد الروصيرص السوداني عن 800 مليون متر مكعب في اليوم، ما يعني أنه في حالة بناء سد النهضة وتشغيله بصورة كاملة وبدء تصريف المياه الفائضة عنه سيؤدي ذلك بالضرورة إلى انهيار سد الروصيرص. وقد تنهار بالتبعية السدود السودانية التالية له، مثل سدي "سنار" و"مروى".
النقائص الفنية في جسد السد تناولتها تقارير هندسية عديدة، وخصوصاً أن الدراسات الفنية الخاصة بمشروع السد لم تستكمل كل مراحلها، والتي تُعَد، بحسب الآراء الفنية، في حدود 10 مراحل، تم إكمال مرحلتين منها فقط، الأولى تتعلق بالتصميمات الأولية، والأخرى تتعلق بالتصورات الأولية. ويكاد اختصاصيو السدود الذين طالعوا التصميمات الفنية لهذا السد يجمعون على أنه لا يُمكن أن يصمد بخصائصه الحالية لأكثر من 5 سنوات، نظراً إلى أنه بُني في أرض بركانية هشة.
والجدير بالذكر هنا أن تحقيقات داخلية في إثيوبيا كشفت عن عدم صلاحية بعض مواد البناء التي تم استخدامها في عمليات تشييد السد خلال الفترة ما بين العامين 2011 و2018، وهو ما دفع رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد إلى اعتقال بعض المهندسين والمسؤولين الإثيوبيين، وإلغاء العقد المبرم مع شركة "مِيتيك"، المقاول الرئيسي التابع للجيش والمشارك في المشروع، وإيداع مديريها التنفيذيين السجن في العام 2017، بعد أن اتهمهم بالفساد.
أما الطاقة الكهربائية التي يستهدف السد الإثيوبي توليدها، والتي تبلغ 6000 ميغاوات، فإن التقديرات تشير إلى أن المواصفات الفنية له لا تسمح بالإيفاء بها، ولن تزيد الطاقة التي سيتم توليدها منه بأي حال من الأحوال على 1600 ميغاوات.
هذا الأمر يحيلنا إلى النقطة الأساسية التي تتعلق بالغرض الأساسي من بناء هذا السد، إذ تجادل إثيوبيا دائماً أن السد مخصص بشكل أساسي لتوليد الكهرباء، لكن عملياً - وبالنظر إلى موقع إنشائه - يمكن القول إن الهدف الرئيسي منه هو حجز المياه بشكل رئيسي، وذلك من أجل الحصول على حصص مائية إضافية، وفي الوقت نفسه فرض أمر واقع على القاهرة والخرطوم، وهو أمر ستكون له تداعيات استراتيجية وجيوسياسية مهمة تجعل السد في اليد الإثيوبية بمثابة سلاح ردع تضغط به على دول المصب من جهة. ومن جهة أخرى، سيوفر لها سيطرة كاملة على مياه النيل، وخصوصاً إن وضعنا في الاعتبار أن أديس أبابا تريد بناء سدين آخرين مماثلين لهذا السد، بحيث يصل إجمالي السعة التخزينية للسدود الثلاثة مجتمعين إلى 200 مليار متر مكعب، وهو ما يمثل في حالة عدم الاتفاق المسبق على قواعد الملء في مواسم الفيضان المتوسطة والمنخفضة مع دول المصب تهديداً حتمياً للحصص الحالية لكل من السودان ومصر من مياه النيل.