الصّين ما بعد ترامب.. السيادة التكنولوجيّة والسوق الداخلية
كشفت الصين في تشرين الثاني/نوفمبر 2020 عن استراتيجيتها للعام 2021، والتي تضمنت الإعلان عن نياتها التي كانت مثار نقاشٍ أكاديمي ورسمي داخل البلاد
تواصل جمهورية الصّين الشّعبيّة مسارها المتصاعد نحو التحوّل إلى القوة الاقتصادية الأولى في العالم، وتبني هذا المسار على تحوّل في التخطيط ينتقل بصورةٍ فعلية ابتداءً من العام 2021 من الاعتماد على عائدات التجارة الخارجية التي لطالما شكّلت ورقتها الرابحة في العقدين الأخيرين، إلى التركيز على توسيع حجم سوق الاستهلاك الداخلية من جهة، وامتلاك مقومات "السيادة التكنولوجية" من جهةٍ ثانية، بحيث تصيب هدفين بإنجازٍ واحدٍ: عدم الحاجة الحيوية إلى التكنولوجيا الغربية لتطوير منتجاتها، وتفادي حرب الملكية الفكرية من جهةٍ ثانية، وهو الموضوع الأكثر بروزاً بين ملفات الخلاف مع الغرب، وخصوصاً الولايات المتحدة الأميركية.
تعزيز الإصلاحات والانفتاح الاقتصادي
خلال الشهر الأخير من العام 2020، تعهّدت الصين في مؤتمر العمل الاقتصادي المركزي بتعزيز الإصلاحات والانفتاح الاقتصادي بطريقة شاملة. هذه الاستراتيجية (الانفتاح) أطلقتها في أواخر السبعينيات من القرن الفائت، لتبني على قواعدها نموّها الهائل الذي حوّلها من دولة نامية إلى أبرز تجربة صاعدة في الاقتصاد العالمي في الألفية الجديدة.
وتحاول الصين اليوم من خلال تعزيز الانفتاح الاقتصادي وتمتين الإصلاحات الداخلية في بنيتها الاقتصادية بناء النموذج التنموي الجديد، خصوصاً في مرحلة ما بعد التغلب على فيروس "كوفيد 19"، الذي نجحت الصين (الدولة التي شهدت أول حالة تفشي للفيروس) في السيطرة على الأزمة الصحية المنبثقة عنه، وقدمت نموذجاً ناجحاً في مواجهة الجائحة.
وعلى الرغم من الخسائر التي تكبَّدها الاقتصاد الصيني في الأشهر الأولى لتفشي الفيروس، فإنه نجح في تحقيق نمو بلغ 0.7% في الأشهر التسعة الأولى من العام 2020، مع زيادة الناتج الإجمالي للربع الثالث من السنة بنسبة 4.9% على أساس سنوي.
ويتطلّب النجاح في الأهداف المرسومة للعام الجديد، كما للأعوام اللاحقة، تقوية نظام اقتصاد السوق الاشتراكي العالي المستوى الذي تسعى إلى تطويره، والسعي إلى انفتاح أبعد مدى، واستكمال الإصلاحات التي بدأتها في وقتٍ سابق، وذلك ضمن رؤية شاملة لتحسين جودة إدارة الاقتصاد الكلي، وتطوير التناسق بين سياساتها وبين النظام الاقتصادي الدولي، وهي النقطة التي شكّلت في السنوات الأخيرة مركز مشكلات بكين في علاقاتها مع القوى الكبرى، ولا سيما القوى الغربية منها.
الاستراتيجية الجديدة لتحفيز كيانات السوق
وتتطلّع بكين انطلاقاً من العام الجديد إلى بذل جهود لتحفيز حيوية كيانات السوق، وتسهيل الوصول إلى الأسواق، وتعزيز المنافسة العادلة، وحماية حقوق الملكية الفكرية، وبناء سوقٍ موحدة، وخلق بيئة أعمال موجهة نحو السوق الاشتراكية القادرة على الاندماج في النطاق الدولي الأكثر اتساعاً.
لقد حثّ مؤتمر العمل الاقتصادي المركزي على بذل الجهود لتعزيز التنمية الصحية لسوق المال وتحسين جودة الشركات، وخصوصاً بعد إطلاق مبادرة الشراكة الاقتصادية الجديدة العابرة للمحيط الهادي.
لقد كشفت الصين في تشرين الثاني/نوفمبر 2020 عن استراتيجيتها للعام 2021، والتي تضمنت الإعلان عن نياتها التي كانت مثار نقاشٍ أكاديمي ورسمي داخل البلاد، وتم عرضها بصورةٍ متواصلة على المسؤولين الرسميين الذين زاروا البلاد في السنوات الأخيرة، وفيها تركيز على الحد من اعتمادها على الأسواق الخارجية من أجل تعزيز فرص النمو على المدى الطويل، حيث ستعتمد في المقام الأول على دورة الإنتاج والتوزيع والاستهلاك المحلي، مدعومة بالابتكار وتحديث بنية الاقتصاد وآلياته.
وعلى عكس الأجواء القاتمة التي أفرزتها أزمة الجائحة العالمية وظلَّلت معظم اقتصاديات العالم، فإن الصين تتطلع إلى العودة إلى تحقيق معدلات نمو أكثر إيجابية في العام 2021، فقد صرح رئيس الوزراء الصيني كي تشيانغ خلال مؤتمر صحافي مع قادة 6 منظمات اقتصادية ومالية دولية رئيسة، من بينها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، بأن "اقتصاد الصين هذا العام يمكنه تحقيق نمو إيجابي، ونتوقّع العام القادم أن يكون بوسع العمليات (الاقتصادية) العودة إلى نطاق معقول"، معرباً عن نية بلاده استهداف تحقيق "توازنٍ تجاري" بصورةٍ سريعة.
وبالأرقام، عادت الصين إلى متابعة نموها السابق، فنمت وارداتها خلال تشرين الأول/أكتوبر 2020 بنسبة 4.7%، فيما زادت صادراتها بنسبة 11.4% على أساس سنوي مع توقعات أكثر تفاؤلاً بعد تزايد الآمال بالخروج من نفق جائحة "كوفيد 19" على مستوى العالم. وفي التبادل البيني، ارتفعت الصادرات الصينية إلى الولايات المتحدة، بحسب البيانات الجمركية الصينية، بنسبة 22.5% على أساس سنوي في تشرين الأول/أكتوبر، بينما نمت الواردات بنسبة 32.9%.
وعلى المستوى الصناعي الذي يشكّل رافداً أساسياً للقدرات التصديرية الصينية، أظهرت بيانات حديثة لمكتب الإحصائيات الوطني الصيني أن الإنتاج الصناعي لثاني أكبر اقتصاد في العالم نما 6.9% في تشرين الأول/أكتوبر مقارنة بالفترة نفسها من العام 2019، متجاوزاً توقعات معظم المحللين التي كانت تشير إلى نمو 6.5% كمعدلٍ وسطي. ومع إقفال العام 2020 على معدل نمو متراجع إلى 2% على أساس سنوي، فقد شهد الربع الثالث من العام وحده معدل 4.9% من النمو، الأمر الذي يبشّر الصينيين باستعادةٍ سريعة للعافية الاقتصادية الشاملة في العام 2021.
وفي محورٍ متصل بالنشاط الذي تسرّعه بكين، يتوقع أن تكون المنافسة على أشدها بين الصين والاقتصادات الكبرى، وخصوصاً مع شمول الخطط الصينية الجديدة هدف توسيع نطاق استخدام اليوان الرقمي الذي يعد من العملات المشفرة الأقل تقلباً والمدعومة من قبل البنك المركزي، وذلك بموازاة العمل على تعزيز الإصلاح الموجه نحو السوق لأسعار الفائدة وأسعار الصرف، والحفاظ على استقرار سعر صرف اليوان بشكلٍ عام عند مستويات أكثر واقعية وتوازناً.
هذه المعطيات التي تعبّر عن صحّة الاقتصاد الصّينيّ الكلّي تفضي إلى توقّع بأن تحافظ الصين على سياساتها الكلية متسقة ومستقرة ومستدامة في العام 2021، كما أعلنت في ختام مؤتمر العمل الاقتصادي الذي عقدته في منتصف كانون الأول/ديسمبر 2020. كما يرجّح أن تواصل بكين تنفيذ سياسة مالية استباقية، مع الحفاظ على الدعم الضروري لتحفيز النمو الاقتصادي في عالم ما بعد الجائحة.
وفي العام 2021، تقرن الصين تركيزها على تطوير السوق الداخلية كمجالٍ هائل للاستهلاك والنمو، بجهودٍ لتوفير ضمانات مالية أكثر قوة للاستثمار الداخلي من ناحية، بينما تعمل من خلال استراتيجيتها الجديدة على تشجيع الابتكارات العلمية والتكنولوجية، وتسريع التكيف الهيكلي الاقتصادي، وتعديل توزيع الدخل بطريقة استباقية، وهو ما يقود إلى التوازن الكلّي في سياساتها العامة، والذي سيكون بدوره مدخلاً إلى صعودها درجات إضافية نحو التحول مستقبلاً من الاقتصاد الثاني إلى الأول على مستوى العالم.
قفزة في براءات الاختراع وتوثّب نحو السّيادة التكنولوجيّة
لقد شكّل الصراع على الملكية الفكرية بين الولايات المتحدة الأميركية والصين في السنوات الأخيرة عمق الحرب التجارية التي تم التعبير عنها بالعقوبات المتبادلة ورفع التعرفات الجمركية، والتي ساهمت إلى حدٍ كبير في تفخيخ أجواء العلاقات الدولية بالقنابل السياسية الموقوتة التي كانت تنفجر الواحدة تلو الأخرى على شكل أزماتٍ إقليمية في غير مكان من العالم.
ولتحسين موقفها في هذا السياق من ناحية، وتحقيق التكامل في صعودها الاقتصاديّ من ناحيةٍ أخرى، اتجهت الصين - وتواصل ذلك بصورةٍ أوضح في العام 2021 - إلى تحويل اقتصادها ليكون معتمداً على الاستقلال التكنولوجي، ثم تحقيق سيادة تكنولوجية في مدى أبعد، تجعلها في غنى عن مواجهة دعاوى الملكية الفكرية، وتمكنها من الإمساك بناصية مستقبل الإنتاج العلمي الذي سيكون الرافعة المستدامة لاقتصاد المستقبل.
كما أصدرت الصين خلال العام 2020 مقترحين للتنمية في المستقبل المتوسط والبعيد المدى: الخطة الخمسية الرابعة عشرة للصين (2021-2025)، وقائمة الأهداف البعيدة المدى حتى العام 2035، وكلاهما يحدد التوجهات الاستراتيجية الكلّية للبلاد، ويتضمن مضامين تشير بوضوح إلى نهاية الاستراتيجية المعتمدة على فوائض التجارة الخارجية الناتجة من عمليات التصدير التي طبعت السياسات الاقتصادية الصينية خلال العقود الأربعة الأخيرة.
وتعتمد الاستراتيجية الجديدة في جوهرها على تحفيز الابتكار والاختراع كمدخل لتحقيق السيادة التكنولوجية، على أن تشكل هذه السيادة التكنولوجية ركيزة استراتيجية للتنمية الصينية في العقدين المقبلين، وفق الأفق الزمني الذي تضمنته الخطتان.
وعلى عكس النسق السابق من الابتكار الصيني الذي كان يعتمد على استيراد المواد ومعدات التصنيع الأجنبية وإعادة تصنيعها وتصديرها، وعلى تطوير التكنولوجيا ذات المنشأ الغربي، تدعم بكين اليوم الجهود البحثية لتعزيز الابتكار في تطوير الاختراعات الموجودة، وإنتاج براءات اختراعٍ جديدة صينيةً بصورةٍ كاملة، تكون بدورها عوامل معززة للقيمة المضافة للصين في مجالات التنافس العالمي.
لقد أدت إرهاصات هذه السياسة الجديدة، قبل تحولها إلى سياسةٍ معلنة ابتداءً من العام 2020، إلى ظهور عدد كبير من الأوراق العلمية وبراءات الاختراع التي تعمل كمخرجات وسيطة للبحث والتطوير. لقد أطلقت بكين استراتيجية "صنع في الصين 2025" بعد أن شعرت بالفجوات التي تعانيها على مستوى القدرات التكنولوجية المحلية المتكاملة، وهي تشهد اليوم تطوراً نهضوياً هائلاً.
ويزيد من تحفّز الصين لتحقيق هذه الأهداف الهواجس المتعاظمة من توسع العقوبات الغربية، لتصل إلى افتراق شبه كلّي بين تكنولوجياتها والتكنولوجيا المنتجة في الغرب، الأمر الذي قد يعوق تطورها الاقتصادي، ويتحول إلى معضلة حقيقية في ما لو تم، فضلاً عن هواجس الأمن القومي المرتبطة بتدفق المعلومات من ناحية، والأمن الاقتصادي من ناحيةٍ ثانية، لكن في مقابل هذه القراءة المتفائلة لقدرة الصين على تحقيق الاستقلال التكنولوجي، ثم السيادة التكنولوجية، لا بد من الإشارة إلى أن تحقق هذه الأهداف قد يتطلّب سنواتٍ من العمل الذي قد يمتد إلى العام 2035 وما بعده.
وكمؤشرٍ على هذا التوجّه الاستراتيجي، احتلَّت شركة الاتصالات الصينية "هواوي" المركز الأول في عدد براءات الاختراع في الاتصالات اللاسلكية المودعة في تشرين الأول/أكتوبر 2020، ما يعكس جدية رهانها على الابتكار كأساس للتطور في ظل احتدام المنافسة على شبكات الجيل الخامس الأكثر سرعة وفاعلية.
كما حافظت الشركة على وتيرة البحث والتطوير حتى في ظلّ أوضاع عالمية شديدة السلبية، مقدمةً نحو 8607 براءات اختراع لاسلكية في المدة الواقعة بين 1 كانون الأول/يناير و30 تشرين الأول/أكتوبر 2020، متقدمة على شركة "كوالكوم" الأميركية لصناعة الرقائق التي حصلت على 5807 براءات اختراع.
هذه الأرقام نشرتها مؤسّسة "إنكو بات" الصّينية التي صنفت أيضاً ضمن أفضل 100 شركة، إذ جاءت شركة الهواتف الذكية الصينية "أوبو" في المرتبة الثالثة بحصولها على 5353 براءة اختراع. وبحسب البلد، كان لكلّ من الصين والولايات المتحدة حصّة 32% من براءات الاختراع المودعة، ثم جاءت اليابان بنسبة 15%، ثم كوريا الجنوبية بنسبة 7%.
وقالت "إنكو بات" إنَّ القائمة تستند إلى البيانات العامة لبراءات الاختراع في مجال شبكات الاتصالات اللاسلكية، ويشمل ذلك شبكات الجيل الخامس "G5". إنه مجالٌ رئيس للاتصالات الحديثة، فتقنيات شبكات الاتصالات اللاسلكية جزء مهم للغاية من عملية البحث والتطوير للجيل الخامس. كما تؤدي براءات الاختراع، وخصوصاً في التقنيات الناشئة، من مثل شبكات الجيل الخامس والذكاء الاصطناعي، دوراً مهماً في تحديد الشركات والبلدان التي ستتمتع بمزايا خاصة في "اقتصاد الغد".
كما تتصدّر "هواوي" الجهود الرامية إلى تطوير شبكة الجيل الخامس في المنظمة الدولية العاملة على تطوير معايير الاتصالات "جي بي بي 3"، وتتفوَّق على منافستها الأوروبية "إريكسون" والأميركية "كوالكوم"، وفقاً لتقرير صادر عن شركة الأبحاث والاستشارات "استراتيجي أنالتيك" في العام 2020. وتشمل معايير المرحلة التالية من نظام الجيل الخامس مجموعة من التطبيقات الجديدة، مثل القيادة الذاتية، والمصانع الذكية، والجراحة عن بُعد في قطاع الرعاية الصحية.
لقد بنت الصين في العام 2020، وفق وزارة الصناعة وتقنية المعلومات، نحو 700 ألف محطة أساسية لشبكات الجيل الخامس، متجاوزة هدفها الأصلي البالغ نصف مليون. وخلال العام 2018، أظهرت بيانات المنظمة العالمية للملكية الفكرية "ويبو" أن المكتب الصيني للمنظمة سجَّل مستويات قياسية من طلبات براءات الاختراع التي وصلت إلى 1.54 مليون طلب، أي ما نسبته 46.4% من إجمالي طلبات براءات الاختراع على المستوى العالمي.
لقد أصبحت الصّين بذلك المحرك الرئيس لنمو إيداعات الملكية الفكرية، وشكّلت المصدر الرئيسي للنمو في براءات الاختراع خلال السنوات الأخيرة، الأمر الذي يمكّنها من الحديث عن نهضةٍ تكنولوجيّة، بدلاً من نمو تكنولوجي. إنه عمل سيستمرّ في العام 2021، وسيغيّر كثيراً من أوجه الصراعات العالمية، وهو من دون شكّ يرسم عالم الغد.